تركيا هذا البلد اللغز من حيث مكوناته التاريخية والعرقية وإمتداده الجغرافي يلفت الانتباه خاصة في هذه الفترة الاخيرة تبعا لما صدر من مواقف ديبلوماسية من ساسته خلال سنة 2008 وصولا إلى بداية سنة 2009. فتركيا خلال السنة الفارطة كانت محورا فاعلا لنقاط مفصلية في السياسة الدولية أبرزها رعايتها السرية والتي أصبحت فيما بعد صريحة للمحادثات السورية الاسرائيلية بتنسيق تام مع فرنسا، خارقة تلك العزلة الدولية التي فرضت طوال سنين عدة على سوريا وقد تجلى ذلك بوضوح عند عقد القمة الرباعية بسوريا بواعز تركي والتي ضمت رؤساء فرنسا، قطر، تركيا وسوريا وكانت بمثابة الاعتراف الصريح بأهمية سوريا في المنطقة، وضرورة المرور عبر فض عديد الاشكالات وابرزها الصراع اللبناني. المجال الثاني الذي شهد من خلاله ارتفاع لنسق الديبلوماسية التركية كان في إتجاه إيران من خلال تبادل الزيارات من أعلى مستوى سياسي لكلا البلدين أثمرت علاقات تعاون في عدة مجالات وكانت الغاية من ذلك لكلا البلدين إيصال رسالة بأن التحالفات التقليدية بدأت تنهار، أما الاتراك فكانت رسالتهم الاساسية موجهة لاوروبا مفادها أن تركيا قادرة على خلق فضاءات تلاقي أخرى. المستوى الثالث الذي شهد تحرك تركي مكثف يتمثل في الساحة الفلسطينية أين اعتمدت تركيا سياسة ما يسميه أحمد داود أغلو كبير مستشاري أوردغان "العمق الاستراتيجي" والمتمثل في تأسيس أوراق التقاء بين مختلف الفرقاء المؤسسين للمشهد السياسي الفلسطيني وهو ما يفسر أن تركيا لم تغلب طرف على الآخر، بل إنها احتضنت الطرف الرسمي المتمثل في السلطة الفلسطينية والطرف "شبه الرسمي" أي "حماس" في فترة كان الحصار على هذه الاخيرة يكاد يكون بإجماع دولي، كما أن تركيا بالرغم من تقاربها مع الفلسطينيين لم تعزف عن مواصلة تدعيم علاقتها مع إسرائيل مؤكدة على تلك المقولة التي صرح بها أوغلو لمجلة "إيكونومست" بأن تركيا يمكنها أن تكون أوروبية في أوروبا وشرقية عن الشرق لانها كلتهما معا"، وهذا ما يفسر مسلك تركيا الوسطى في نزاع الشرق الاوسط آخذة بين جميع الاطراف كدلالة على أهمية موقفها الاقليمي وبالرغم من نجاح تركيا في تأسيس شركة من العلاقات الدولية خارجة عن إطار التكتلات التقليدية إلا أنها لم تنجح في الاندماج الرسمي والكلي في الجسد الاوروبي رغم التضحيات التي قدمتها على صعيد القبول بإجراء إصلاحات لتأهيل العضوية حسب نظام "كوبنهاغن" لتأهيل الانخراط، مع العلم أن تركيا كانت قد قدمت ترشحها للعضوية منذ 1963 وهو ما يعني أنها إستبقت في ذلك دول أوروبا الشرقية التي وقع ضمها حديثا، ولكن كثرة الانقلابات والتغيرات السياسية التي عرفتها جعلت أوروبا تنظر بريبة لانخراطها وذلك ما يفسر بأن حكومة سنة 1997 (المنبثقة عن حزب الرفاه الاسلامي) بقيادة نجم الدين أربكان علقت إتصالاتها السياسية مع الاتحاد الأوروبي الذي وضع المطلب التركي في الانضمام في مرتبة تلي المطالب المستجدة لدول أوروبا الشرقية ولم تعد العلاقات السياسية لمجراها العادي إلا بعد عامين خلال قمة هلسنكي بعد فترة من نجاح الجيش في الاطاحة بحكومة أربكان التي وصفت حينها بأنها منافية لاسس الجمهورية خاصة فيما يتعلق بالعلمانية، وفي سنة 2001 تعرضت تركيا لازمة مالية حادة ساءت من جرائها الامور الاجتماعية والاقتصادية الشيء الذي إستدعى الاستنجاد بالحليف التقليدي أي الولاياتالمتحدةالامريكية الذي حاربت تركيا بجانبه في حرب كوريا من سنة 1950 وإنضمت بعد ذلك لحلف الناتو، كما ساهمت أزمة سنة 2001 في ظهور جيل من الساسة الجدد المتمثلين في شباب حزب الرفاه الاسلامي السابق والذين انسلخوا عن هذا الحزب الذي لم يتبن أفكارهم المتمثلة في ضرورة المضي قدما نحو الانصهار في الجسد الأوروبي فما كان منهم إلا أن كونوا حزبا سياسيا آخر أطلق عليه "حزب العدالة والتنمية" بخلفية إسلامية مسكوت عنها لكي لا يكون مصير الحزب كمصير "حزب الرفاه" وقد وضعت حكومة "حزب العدالة والتنمية" من أولويتها القصوى تحقيق الانضمام صلب الاتحاد الأوروبي ولكن بعض التحديات التي ظهرت في السنوات الاخيرة أصبحت وكأنها تعيق الوصول إلى هذه الغاية، ومن بين هذه التحديات ما أصبحت تصطبغ به العلاقة التركية- الامريكية من فتور خاصة بعد قرار مجلس النواب التركي إبان العدوان على العراق في 2003 برفض السماح لاستعمال الاراضي التركية للجيش الامريكي قصد فتح جبهة شمالية متحديا بذلك حتى توصية حكومة رجب أردوغان. هذا الفتور في العلاقات بين البلدين نتجت عنه إعادة الولاياتالمتحدة لترتيب أوراق التعامل مع تركيا وكانت البداية من خلال قرار الكونغرس المثير للجدل والذي أعاد نبش التراب حول قضية الارمن في عهد السلطنة العثمانية في سنة 1910 وإعتبار تلك الاحداث بمثابة جريمة إبادة جماعية، كما أن الموقف الامريكي الذي وفر غطاء نسبيا لحالة حزب العمل الكردستاني بأن إعتبر الاعمال العسكرية الموجهة للتصدي لهذا الحزب "بمثابة إستعمال مفرط للقوة"، وقد إضطرت الخارجية الامريكية لتعديل موقفها إثر زيارة رئيس الوزراء التركي بتعلة الحفاظ على الاستراتيجية.. أما فيما يتعلق بموقف الاتحاد الأوروبي وبالرغم من قرار 3 أكتوبر 2005 والذي قضى ببدء عملية التفاوض من أجل الانضمام النهائي فإنه شهد تحولات مفصلية متمثلة في حدوث تغييرات في الموقف الفرنسي والالماني واللذان إعتبرا بأن أية عملية إنضمام جديد لا بد أن تمر عبر تعديل دستوري وطني عن طريق الاستفتاء وهو ما فهمه الاتراك بمثابة التعجيز.كما أن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي لم يكف خلال حملته الرئاسية عن التأكيد بأنه يعارض اطلاقا انضمام تركيا للاتحاد نظرا لاعتبارات عدة ولعل أبرزها والتي لم يقم بالتصريح بها بصفة صريحة هي عدم إمكانية تجانس أوروبا "شبه الموحدة" عرقيا مع عنصر إضافي يتكون من 70 مليون مسلم. كل هذه الاعتبارات جعلت من أوروبا تعيد حساباتها بشأن إنضمام تركيا وتطرح صيغة مستجدة متمثلة في صفة "شريك متميز" كما أن الموقف الاوروبي غير من قراءته لبعض القضايا التركية خاصة فيما يتعلق بالمسألة الكردية حيث اعتبر حزب العمل الكردستاني كتنظيم عسكري يتعهد بالدفاع عن أقلية ثقافية وعرقية ويتوجب على الدولة التركية الاعتراف بهذه الاقلية. كل هذه المواقف مجتمعة جعلت من الاتراك يعيدون النظر في الحسابات ويتوجهون نحو علاقات مستجدة يكون للموقف الوطني من خلالها وجوده المتحرر من أي تذيل للخارج. إذن تركيا إستوعبت الدرس وعادت لاحياء علاقات قديمة جديدة على أساس إعتبار وحدة التاريخ والرؤى والتحديات ولربما الدين، ولكن المثير في هذا الاطار للانتباه هو اختيارات تركيا الجديدة والمتجهة نحو ما عرف بمعسكر "الممانعة" خاصة سوريا وإيران والتنظيمات الفلسطينية وقد تجلى ذلك من خلال موقف رئيس الوزراء التركي رجب أردوغان أثناء قمة دافوس والذي أمعن بأسلوب فيه الكثير من التفاعل والانفعال في نقد إسرائيل، وقد أثار ذلك الموقف ردود فعل متنوعة منها المصفق لهذا "التسونامي التركي" في وجه الاجرام الصهيوني أما الموقف الاخر فغلب عليه الاستغراب من فقدان رجب أردوغان والسياسة الخارجية التركية لما عرفت به من هدوء وبرغماتية إستراتيجية أو حتى تكتيكية، ولعل البعض تفطن إلى أن أردوغان الذي عاد إلى تركيا فور مغادرته لمؤتمر دافوس عودة البطل إسكندر المقدوني أو عفوا السلطان عبد الحميد كان أمام تحد شعبي يتهمه ومن ورائه كافة ساسة حزبه بأنه باع المصالح التركية الوطنية من أجل تحقيق حلمه في الانصهار صلب الاتحاد الاوروبي ويرون أن أبرز مثال على ذلك هو قبول حكومة أردوغان للانخراط في منظومة الوحدة الجبائية مع الاتحاد الاوروبي والتي تسمح بمقتضاها تركيا للسفن الاوروبية بدخول المياه التركية، وطال هذا السماح السفن التي تحمل حتى العلم القبرصي أو اليوناني، وأعتبر البعض ذلك بمثابة "خيانة القبارصة الاتراك" الذين راهنوا طوال عقود عدة على الدعم اللامتناهي للوطن الام، ويرى البعض أن التحولات الاخيرة في التموضع الديبلوماسي التركي هي نتيجة حتمية لاعادة الاجندة السياسية لحزب العدالة والتنمية الذي تنتظره إنتخابات محلية ونيابية حامية الوطيس تأتي بعد سلسلة من الاحباطات مرورا بفشل السيطرة على عقيدة الجيش أو حتى تأطيره إلى عدم القدرة على الفوز في معركة الحجاب، ثم فشل تركيا ومن ورائها الاممالمتحدة في إيجاد وضعية عادلة ودائمة للقبارصة الاتراك الذين أصبحوا في عزلة تامة أمام احتضان الاتحاد الاوروبي للقبارصة اليونانيين، وأخيرا تواجه حكومة حزب العدالة والتنمية الاحساس الشعبي بأن حلم الانضمام إلى الاتحاد الاوروبي ما كان إلا سرابا ومن يتبع السراب في السياسة فهو واهم ومخطئ.