كما هو معلوم نحتفل هذه الأيام بمائوية الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي التي أقيمت بالجريد التونسي وتحديدا بمدينة توزر مسقط رأس الشابي والتي تحول لها المشاركون في هذه المائوية من شعراء وصحفيين عن طريق الجو. وقد علمت من بعض الأصدقاء الذين حضروا في هذه التظاهرة الثقافية ان بعض الشعراء طالبوا بمستحقات مالية مقابل حضورهم إلى توزر. وفي اعتقادي أن هذا المطلب هو إعلان جديد عن موت الشابي. بمعنى أن هذا الشاعر الذي فارقنا جسدا من بداية القرن الماضي قد قبرنا رؤاه ومواقفه في مائويته عندما يطالب هؤلاء الشعراء بمستحقات مقابل قراءة نصوصهم وهم يدركون أن الشابي هو الشاعر الذي رفض المتاجرة بالأدب وثار ضد شعراء التكسب أو ما يطلق عليهم ''بأعطه ألف دينار''... فهل من المعقول أن يطالب هؤلاء بحق تنقل في سيارة أجرة أو بمقابل لا ينفع ولا يضر الجيوب في مائوية شاعر كان رمزا ومثلا أعلى للترفع وناضل من اجل أن يظل الشعر حرا وألا يظل الشاعر عبدا للدينار وعلى باب اي كان للتكسب من شعره... من المفروض أن تكون هذه المحطة التاريخية والثقافية وقفة تأمل وافتخار واقتداء بشاعر حمل هم أمة فكريا وأدبيا ونضاليا وأذاع صيتها في المشرق والمغرب على صغر سنه... وفي اعتقادي يعتبر فيلم ثلاثون للفاضل الجزيري هو أول انخراط في الموت المعنوي لأبي القاسم الشابي عندما قدمه لنا صاحب الحضرة والنوبة في وجه متصاب وهش لا نكاد نعرفه نحن المطلعون على شعره.. فما بالك بالنسبة للجيل الجديد الذي سيعتمد فيلم الجزيري لمعرفة الداعي لإرادة الحياة ومؤلف الخيال الشعري عند العرب وهي الطامة الكبرى لأن شعره الثوري والذي يدل على ذاك الرجل الفحل والقوي لم يرد بالصيغة التي يجب ان تكون في الفيلم. ونعود لظاهرة الشعر بمقابل فهي في الحقيقة دخيلة على الساحة الثقافية في تونس ويبدو أن سنوات قليلة ماضية تشهد على بدايتها وكان الشاعر المنصف المزغني هو صاحب الفضل والسبق في سن هذا التقليد وهذه السنة الحميدة للشعراء لتنتشر وتعم كامل أرجاء بلادنا ويصبح الشعر بمقابل كما كان في القديم في بلاط الأمراء والملوك وليعوض مبلغ 150 دينارا المحدد حاليا لقراءة الشعر المبلغ المشهور كما تعلمنا ذلك في الأفلام وهو ألف دينار مقابل مدح السلطان والخليفة... وقد أصبح هذا التقليد الدخيل تجارة رابحة لبعض الشعراء الذين اختاروا ضبط رزنامة سنوية يجوبون بمقتضاها المهرجانات ودور الثقافة ليتقاضوا على القراءة الواحدة 150 دينارا وليقدموا أربع قراءات على الأقل في الشهر.أما اؤلئك الشعراء الذين يشرفون على ملاحق ثقافية فحدث ولا حرج. وعادت بي الذاكرة إلى وقت غير بعيد عندما أعلن أحدهم عن نفسه شاعرا في غفلة من أمره وأمرنا وهو في عقده الخامس وأصبح هذا المولود الجديد في الخمسين مرجعا في الشعر إلى درجة أنه أصدر كتبا قدمه لها شعراء معروفون في تونس على سبيل الخدمات المتبادلة وبالمقابل كما جرت العادة وأصبحت بين هذا الشاعر الجديد وبعض زملائه نار مشتعلة لأنه أصبح يزاحمهم في الأمسيات الشعرية ويقتسم معهم '' المرطبات الشعرية''. ولم ينحصر الأمر في حدود الشعر بالنسبة لبائعي الثقافة المتجولين بل شمل عدة اختصاصات أدبية مثل الرواية والقصة ومن هؤلاء أيضا من ولد ولادة قيصرية وأعلن عن نفسه أديبا وكاتبا نازحا في كل المجالات وهو في أرذل العمر وأصبح يصول ويجول في البلاد ليجمع المال بصفة محاضر أو عضو في لجنة التحكيم وأصبح مرجعا يلتجأ إليه... وفي الحقيقة هذه الأخلاق غير الأدبية ولا الشعرية لم نعرفها إلا في السنوات الفارطة عندما أصبح للإبداع مفهوم التكسب وعندما تحولت الكتابة من تحقيق الذات ووسيلة للتعبير إلى أسلوب تجاري مقنع عند الأغلبية للأسف... ولعل الأخطر من ذلك أن تصبح العلاقات والوساطات هي المحدد للشعراء عوض المواصفات الحقيقية مثل الخلق والإبداع .عندئذ يجوز لنا أن نتساءل عن الفرق بين هؤلاء وأصحاب العربون... أو بين بائع متجول للسلع وبائع ثقافة متجول. قد يحسن في هذا الصدد أن أذكر من طرائف الشاعر المنصف المزغني سؤاله الإنكاري كيف نقرأ على الموتى بمقابل و نقرأ للأحياء مجانا؟ وقد هاتفته يوما راغبا في أن اجري معه حوارا فقال لي لا بد أن تدفع فقلت له إنني لا انوي دعوته لأمسية شعرية أو لعرس لقول الشعر اوللغناء (علما وان المنصف المزغني لمن لا يعلم يغني ويقرأ الشعر) فأجابني بأن شيطان شعره صفاقسي ولا بد أن يدفع له حتى تنساب قريحته ويقبل الحوار معي... ولئن قالها المزغني على سبيل الدعابة فإن هذه الظاهرة أصبحت للأسف حقيقة مرة وواقعا جديدا عندنا وقد أثر هذا على جودة الشعر لدرجة انك أصبحت عاجزا عن عد الشعراء في تونس وعن التمييز بين الشعر والشعير... فهل سيكون الشعراء مجبرون يوما على حمل بطاقة «شاعر محترف»؟ وحيد عبد الله للتعليق على هذا الموضوع: