لم يعد السؤال المطروح ماذا لو..؟ ولكن ماذا بعد اصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق الرئيس السوداني ما يجعل الامر مفتوحا على كل الاحتمالات بين الاقل سوءا الى الاسوا بما يعني اما التوصل الى اتفاق يدفع الى ابتزاز السودان ودفعه الى تقديم تنازلات سياسية اوتاجيل الامر سنة قابلة للتجديد وفق البند السادس عشر للمحكمة اوالمضي قدما في البحث عن تنفيذ القرار الذي من شانه ان يجعل الرئيس السوداني يحجم عن التنقل خارج السودان لتامين سلامته وضمان عدم الايقاع به. وفي كل الاحوال فان كل احتمال من هذه الاحتمالات لا يمكنه ان يلغي او يزيل من الاذهان الاسباب الحقيقة لهذه المحاكمة التي تحركها خيوط خارجية وجدت لها ما يكفي من الابواق الدعائية لخدمة وترويج حملاتها التي تجاوزت حدود الحرب الشخصية بين الرئيس السوداني والمدعي العام لتتخذ ابعادا سياسية واسعة... ولاشك ان الحقيقة التي لا تقبل التشكيك هي ان تحقيق العدالة المغيبة ليس الهاجس الذي يؤرق المدعي العام لويس اوكامبو مهما حاول المعني بالامر انكارها وهو يتلو تصريحاته القانونية ويستعرض قائمة شهوده المرتزقة واتهاماته المطولة ويجدد دعوته لاعتقال الرئيس السوداني ومقاضاته ولو اراد اوكامبو تحقيق العدالة لوجد في الجرائم العلنية المرتكبة على يد الاحتلال الاسرائيلي في الاراضي الفلسطينية المحتلة ما يكفي من الحجج والوثائق والشهادات لمحاكمة القادة العسكريين الاسرائيليين الذين يتنقلون بحرية في العالم ولكان ايضا وجد في ابوغريب العراق وغوانتانامو وافغانستان ما يمكن بمقتضاه ان يلاحق اكثر من مسؤول امريكي وبريطاني بتهم الفساد وارتكاب الفظاعات والانتهاكات في تلك الحرب اللامشروعة التي اعلنت تحت غطاء البحث عن اسلحة الدمار الشامل... قد لا يختلف اثنان بما في ذلك الاطراف التي اعلنت حربها على الرئيس البشير بان تحقيق العدالة الدولية ونصرة الاطفال والنساء والمظلومين من ضحايا العنف في اقليم دارفور هي ابعد ما تكون عن نوايا واهداف وطموحات المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بل لعله لا يختلف اثنان بان تحركات المدعي العام الارجنتيني كانت ولاتزال منذ البداية مرتبطة بمنطق القوة وبما تفرضه حسابات واولويات الاجندة التي حركته اول مرة ضد السودان ومع ذلك فان نسق الاحداث المتسارعة المرتبطة بازمة السودان وما يمكن ان تؤول اليه في الساعات القليلة القادمة من شانها ان تدفع الى وقفة متانية لاعادة النظر في العديد من محطاتها بعيدا عن محاولات الاستخفاف والاستهزاء التي احاطت بها حتى الان والتي قد لا يكون من المبالغة في شيء الاقرار بانها بلغت حد التهريج الذي يمكن ان ينقلب على صاحبه حتى وان كان في غير موقع اتهام . ولعل في الاقرار بان الهجوم يبقى احسن وسيلة للدفاع لم يكن دوما موضع خطا... لقد اختار الرئيس السوداني استباق الاحداث وعمد الى ان يكون تدشين سد مروى حدثا مميزا يسبق الاعلان عن قرار الجنائية الدولية وبقدرما يمكن الاشادة بالمشروع الذي وصف بانه الاكبر في افريقيا يمكن الاقرار بان السودان قد تاخر في الاعلان عن استعداده للمعركة الحاسمة التي تنتظره وهي معركة لا تستوجب منه استعراضا لما يمتلكه من اسلحة اودبابات ولكن بما يمتلكه من رهانات ومشاريع تنموية وحضارية يحتاجها هذا البلد لتغيير الصورة النمطية المتواترة في مختلف الفضائيات وما تقدمه من مشاهد غارقة في الفقر والبؤس والتخلف في عديد الاقاليم السودانية حيث تغيب ابسط مقومات الحياة الكريمة بين الاف الخيم البالية بما لا يمكن باي حال من الاحوال ان يتناغم مع روح العصر في هذا العقد الاول من القرن الواحد والعشرين. صحيح ان السودان ومنذ استقلاله عانى الكثير من مخلفات الحرب الاهلية والصراعات الدموية التي انهكته واستنزفت ثرواته وحولت وجهة المعركة الاساسية من اجل البناء والرقي وصحيح ايضا ان الحصار العازل الذي فرض على هذا البلد قد زاد الوضع تعقيدا ولكن الواقع ايضا ان فرصا كثيرة اهدرت من اجل تحقيق المصالحة الوطنية وتجنيب هذا الشعب المزيد من الانشقاقات والخلافات. المشهد القادم من السودان بكل ما تضمنه من تضامن ومن تعبئة شعبية وتحركات جماهيرية لمختلف الفئات الرسمية السياسية خلال الساعات التي سبقت صدور القرار غير المفاجئ للمحكمة الجنائية الدولية من شانه ان يؤكد غياب الحلقة الاهم في تلك التحركات وهي الحلقة المتعلقة بالاستعداد للتعامل مع الاحتمال الاسوا منذ أن اعلن لويس اوكامبو قبل اشهرتقديم مذكرة اعتقال في حق رئيس اكبر بلد افريقي ليثير بذلك زوبعة سياسية وقانونية قد لا تهدا قريبا. والامر من شانه ان يتجاوز في هذه المرحلة الحساسة حدود التعاطف والتاييد التلقائي المطلوب وفق مبدإ "انصر اخاك ظالما أو مظلوما" ولا ايضا بالتشبث بمنطق المؤامرة الخارجية والتواطؤ بحثا عن شماعة من صنع عربي تكون قابلة لرد كل الاتهامات على اصحابها ولكن الامر يرتبط بمنعرج حاسم يتعلق بحاضر السودان ومستقبله وهو منعرج من شانه ان يحتاج الى اكثر من تحريك الشارع السوداني او اثارة مشاعرالشارع العربي الذي يشعر بالسخط والغضب بسبب انانية الغرب وسياسة المكيالين الظالمة التي يتعامل بها مع شعوب العالم العربي... اسباب كثيرة جعلت الانظار تتجه الى السودان خلال الساعات القليلة الماضية تحسبا لما سيتضمنه صدور قرار المحكمة الجنائية الدولية بشان الاتهامات الموجهة للرئيس السوداني عمر البشير بارتكاب جرائم حرب في اقليم دارفور وبكل ما يمكن ان يفرزه هكذا قرار من تداعيات محلية واقليمية ودولية باعتبار ان الامر يتعلق برئيس يمارس مهامه ويتمتع بالحصانة التي يوفرها له منصبه بما يجعل قضية الحال سابقة في تاريخ المحكمة منذ نشاتها قبل سبع سنوات بموجب ميثاق روما بموافقة مائة وعشرين دولة للنظر في جرائم الابادة الجماعية والجرائم ضد الانسانية وجرائم الحرب وهي سابقة من شانها ايضا ان تجعل موقع ومصداقية المحكمة التي تطلع اليها المستضعفون على المحك وتجعل منها اداة لخدمة مصالح واهواء القوى العظمى ومصالحها الاستراتيجية بعيدا عن اسس وشروط واهداف العدالة الدولية التي ستكون الضحية الاولى في هذه المحاكمة...