يتضمن "تنازلات".. تفاصيل مقترح الإحتلال لوقف الحرب    اكتشاف أحد أقدم النجوم خارج مجرة درب التبانة    ليبيا ضمن أخطر دول العالم لسنة 2024    بمشاركة ليبية.. افتتاح مهرجان الشعر والفروسية بتطاوين    جماهير الترجي : فرحتنا لن تكتمل إلاّ بهزم الأهلي ورفع اللقب    كلوب يعلق على المشادة الكلامية مع محمد صلاح    وزارة السياحة أعطت إشارة انطلاق اعداد دراسة استراتيجية لتأهيل المحطة السياحية المندمجة بمرسى القنطاوي -بلحسين-    وزير الخارجية يواصل سلسلة لقاءاته مع مسؤولين بالكامرون    عمار يدعو في ختام اشغال اللجنة المشتركة التونسية الكاميرونية الى اهمية متابعة مخرجات هذه الدورة وتفعيل القرارات المنبثقة عنها    رئيس البرلمان يحذّر من مخاطر الاستعمال المفرط وغير السليم للذكاء الاصطناعي    سجنان: للمطالبة بتسوية وضعية النواب خارج الاتفاقية ... نقابة الأساسي تحتجّ وتهدّد بمقاطعة الامتحانات والعمل    بن عروس: حجز 214 كلغ من اللحوم الحمراء غير مطابقة لشروط النقل والحفظ والسلامة الصحية للمنتجات الغذائية    الرابطة 2: نتائج الدفعة الأولى من مباريات الجولة 20    الترجي الرياضي يفوز على الزمالك المصري. 30-25 ويتوج باللقب القاري للمرة الرابعة    بطولة مدريد للماسترز: أنس جابر تتأهل الى الدور ثمن النهائي    زيادة ب 4.5 ٪ في إيرادات الخطوط التونسية    إمضاء اتفاقية توأمة في مجال التراث بين تونس وإيطاليا    وزير الثقافة الإيطالي: "نريد بناء علاقات مثمرة مع تونس في مجال الثقافة والتراث    توزر: الندوة الفكرية آليات حماية التراث من خلال النصوص والمواثيق الدولية تخلص الى وجود فراغ تشريعي وضرورة مراجعة مجلة حماية التراث    تعاون مشترك مع بريطانيا    سوسة: القبض على 5 أشخاص يشتبه في ارتكابهم جريمة قتل    تامر حسني يعتذر من فنانة    بن عروس: حجز 214 كلغ من اللحوم الحمراء غير مطابقة لشروط النقل والحفظ والسلامة الصحية    الرابطة الثانية : نتائج الدفعة الأولى لمباريات الجولة السابعة إياب    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    اعتماد خطة عمل مشتركة تونسية بريطانية في مجال التعليم العالي    الإتحاد العام لطلبة تونس يدعو إلى تنظيم تظاهرات طلابية تضامنًا مع الشعب الفلسطيني    رئيس الجمهورية يستقبل وزير الثقافة الإيطالي    الإتحاد العام لطلبة تونس يدعو مناضليه إلى تنظيم تظاهرات تضامنا مع الشعب الفلسطيني    صادم/ العثور على جثة كهل متحللة باحدى الضيعات الفلاحية..وهذه التفاصيل..    عاجل/ عالم الزلازل الهولندي يحذر من نشاط زلزالي خلال يومين القادمين..    رئيس الاتحاد المحلي للفلاحة ببوعرقوب يوجه نداء عاجل بسبب الحشرة القرمزية..    خط تمويل ب10 مليون دينار من البنك التونسي للتضامن لديوان الأعلاف    القطب المالي ينظر في اكبر ملف تحيل على البنوك وهذه التفاصيل ..    سيدي حسين : قدم له يد المساعدة فاستل سكينا وسلبه !!    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف لقوات الاحتلال على النصيرات    البطولة الوطنية: النقل التلفزي لمباريات الجولتين الخامسة و السادسة من مرحلة التتويج على قناة الكأس القطرية    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    طقس السبت: ضباب محلي ودواوير رملية بهذه المناطق    كيف نتعامل مع الضغوطات النفسية التي تظهر في فترة الامتحانات؟    ابتكرتها د. إيمان التركي المهري .. تقنية تونسية جديدة لعلاج الذقن المزدوجة    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    وزير الخارجية يعلن عن فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    طقس اللّيلة: الحرارة تصل 20 درجة مع ظهور ضباب محلي بهذه المناطق    وزير الفلاحة: "القطيع متاعنا تعب" [فيديو]    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    منوبة: تفكيك شبكة دعارة والإحتفاظ ب5 فتيات    قفصة: ضبط الاستعدادات لحماية المحاصيل الزراعية من الحرائق خلال الصّيف    تونس : أنس جابر تتعرّف على منافستها في الدّور السادس عشر لبطولة مدريد للتنس    مقتل 13 شخصا وإصابة 354 آخرين في حوادث مختلفة خلال ال 24 ساعة الأخيرة    عميرة يؤكّد تواصل نقص الأدوية في الصيدليات    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    انطلاق أشغال بعثة اقتصادية تقودها كونكت في معرض "اكسبو نواكشوط للبناء والأشغال العامة"    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الطاهر بن عمّار ومخاض مفاوضات الاستقلال التام
في الذّكرى الثالثة والخمسين للاستقلال
نشر في الصباح يوم 20 - 03 - 2009

بعد كفاح مرير خاضه الشعب التونسي بجميع طبقاته وبعد تضحيات جسيمة سالت فيها دماء زكيّة وزجّ بالوطنيّين في السّجون والمعتقلات أدرك أحرار فرنسا وعقلاؤها وفي مقدّمتهم السّيّد "منداس فرانس" (Mendès-France) رئيس الحكومة الفرنسيّة آنذاك
الذي أعلن عن استعداد فرنسا فتح مفاوضات قصد إحراز تونس استقلالها الدّاخلي وذلك في خطابه الشّهير بقرطاج يوم 31جويلية 1954.
فحدث إجماع حول السيّد الطّاهر بن عمّار وتشكّلت بكلّ سرعة حكومة تونسيّة برئاسته ووقع الشّروع في المفاوضات مع الحكومة الفرنسيّة ولكن نظرا للضغوطات المسلّطة على "منداس فرانس" من طرف أعضاء البرلمان الفرنسي سقطت حكومته وتولّى مكانه "إدغار فور"(Edgar Faure) وتواصلت المفاوضات مع هذا الأخير إلى أن حصل الاتفاق على منح تونس استقلالها الدّاخلي وتمّ إمضاء الاتفاقية يوم 3جوان 1955 بين الطّاهر بن عمّار و"ادغار فور" وبقي عرض الاتفاقية على أعضاء البرلمان الفرنسي. وفعلا عرضت الإتفاقيّة على البرلمان وحرص السيّد الطّاهر بن عمّار كلّ الحرص على الحضور صحبة السيّد المنجي سليم المداولات البرلمانيّة وكانت النتيجة التصويت لفائدة الاتفاقية وارتاح السيّد الطّاهر بن عمّار وزملاؤه لهذا الفوز واعتبروه اِنتصارا وأملا قويّا في أن تأخذ المفاوضات التونسيّة-الفرنسيّة مستقبلا مجراها الحقيقي ألا وهو الإحراز على الإستقلال التام منتهى أمل التونسيّين.
وفي يوم 12 سبتمبر 1955 قدّم السيّد الطّاهر بن عمّار حسب ما يقتضيه الظرف إستقالة حكومته وعندئذ طلب منه الباي تشكيل حكومة ثانية، فرفض الطّاهر بن عمّار واقترح عليه تعيين الزّعيم الحبيب بورقيبة الذي كان آنذاك رئيس الحزب الحرّ الدستوري التونسي. ولكن بورقيبة إمتنع (أنظر صحيفة "لابراس" الصّادرة أيّام 12، 13، و14 سبتمبر 1955) بتعلّة أنّ الدّيوان السياسي رشّح بالأغلبيّة الطّاهر بن عمّار، ليبقى بورقيبة على رأس الحزب لإعادة تنظيمه.
هذا ظاهر الأمر ولكن بورقيبة خشي أن تفشل المفاوضات المؤديّة للاستقلال أو أن تستغرق وقتا طويلا ينجرّ عنه اليأس والقنوط لاسيّما وأنّ تاريخ الإعلان عن الاستقلال الدّاخلي لم يمرّ عليه وقت طويل ولم يكن هذا الإعلان محلّ إجماع بين الدستوريّين وفي مقدّمتهم الشقّ اليوسفي من جهة ويلاقي معارضة شرسة من قبل الفرنسيّين المقيمين بتونس وبعض السّياسيّين المؤثّرين بفرنسا من جهة أخرى. وفضّل بورقيبة ترك الأمر بين يديّ الطّاهر بن عمّار لتشكيل الحكومة. وزاره بمنزله الكائن بخير الدّين يوم 14 سبتمبر 1955 في ساعة متأخّرة من اللّيل صحبة أعضاء الدّيوان السّياسي وألحّ عليه في قبول تشكيل الحكومة. ومن الغد قدم إلى منزل الطّاهر بن عمّار وفد من الاتّحاد العام التّونسي للشّغل برئاسة كاتبه العام أحمد بن صالح صحبة قياديين في المنظّمات القوميّة لمساندة الطّاهر بن عمّار (أنظر صحيفة لابراس بتاريخ 15 سبتمبر 1955) وتشكّلت الحكومة يوم 17 سبتمبر 1955 وهي أوّل حكومة تونسيّة صرف (Gouvernement homogène) . وقد سعى السيّد الطّاهر بن عمّار إلى ضمّ أفضل الكفاءات من الوزراء مع مراعاة مختلف الحساسيّات قصد تكوين حكومة مصالحة وطنيّة (Gouvernement de réconciliation nationale) وعرض على السيّد صالح فرحات رئيس الحزب الدّستوري (القديم) حقيبة وزاريّة إلاّ أنّه طالب بنفس عدد الحقائب المسندة إلى الحزب الدّستوري الجديد فلم تقع الاستجابة لذلك. وتوّا شرعت الحكومة في تطبيق اتفاقيّة 3جوان 1955. ومن أهمّ القرارات الّتي اتخذتها حكومة الطّاهر بن عمّار يوم 29 ديسمبر 1955 القرار القاضي بإنشاء المجلس التأسيسي وعيّنت انتخابات النوّاب ليوم 25 مارس 1956، ناهيك وأنّ هناك قوائم كانت تنافس قائمة الجبهة القوميّة التي كانت تضمّ الحزب الحرّ الدستوري والاتّحاد العام التّونسي للشغل وإتحاد الصناعة والتجارة والمستقلّين وعيّنت جلسة الإفتتاح ليوم 8 أفريل 1956.
وفي هذه الأثناء تجدر الإشارة إلى سقوط حكومة "إدغار فور" (Edgar Faure) وتشكيل حكومة يرأسها الإشتراكي " قِي مُولّي" (Guy Mollet) الذي تعرّض في خطابه الافتتاحي أواخر جانفي 1956 إلى أنّه لا يرى مانعا في أن تتطوّر العلاقات التونسيّة-الفرنسيّة فاغتنم الحبيب بورقيبة رئيس الحزب الدستوري التونسي فرصة وجوده بباريس ليتقابل يوم 7 فيفري 1956 مع بعض أعضاء الحكومة الفرنسيّة ومنهم بالخصوص "آلان سافاري" (Alain Savary) وكانت فحوى هذه المقابلة رغبة الحبيب بورقيبة في أن تنطلق المفاوضات مع فرنسا في أقرب الآجال ونادى لأوّل مرّة بفكرة الاستقلال في إطار التّكافل بين تونس وفرنسا (Indépendance dans l'interdépendance) (أنظر جريدة لابراس بتاريخ 25فيفري 1956).
وفعلا ففي يوم 10فيفري 1956 طلب الطّاهر بن عمّار من المندوب السامي الفرنسي "روجي سايدو" (Roger Seydoux) عند استقباله من طرف الباي رغبة الحكومة التّونسيّة في افتتاح المفاوضات قصد تطوير العلاقات التونسيّة الفرنسيّة المؤديّة إلى استقلال تونس. (أنظر صحيفة "لبتي ماتان" (Le Petit Matin) الصّادرة يوم 11 فيفري 1956).
وفي يوم 11فيفري 1956 فوجئت الحكومة التونسيّة بتصريح "روجي سايدو" قبل امتطاء الطّائرة في طريقه إلى فرنسا قال فيه: "إنّ فرنسا لا تقبل إلغاء اتفاقيات 3جوان 1955 لاسيّما وأنّ هذه الإتفاقيات لم يمضِ عليها أكثر من خمسة أشهر". ثمّ أنّ هذا التطوّر في العلاقات المرغوب فيه من طرف الحكومة التونسيّة سوف يمسّ بحقوق الجالية الفرنسيّة المقيمة بتونس والتي كانت وفيرة العدد في تشييع "روجي سايدو" بمطار العوينة وقد ذهب آنذاك المندوب السّامي الفرنسي لمصافحة جمع ملتفّ حول شخصين معروفين هما "جاكيي" (Jacquier) و"لوبورتون" (Lebreton) وقال لهما: «لقد أتيتم إلى هنا لتذكّروني بوجهة نظركم وأنا أشاطركم في كثير من النّقاط، وأنا متأثر جدّا بحضوركم وهذا من شأنه أن يعينني في المحادثات التي سوف تجري مع المسؤولين في الحكومة الفرنسيّة» (أنظر صحيفة "لابراس" الصّادرة يوم 12 فيفري 1956). وأثارت هذه التصريحات استغراب الحكومة التونسيّة خصوصا أنّها سعت إلى تطبيق إتفاقيات 3جوان 1955 بكلّ صدق وشجاعة مع الحرص الشديد على مراعاة الجالية الفرنسيّة ومكاسبها. وقد صرّح الطّاهر بن عمّار خلال زيارته داخل البلاد بما يُطَمْئِنُ الجالية الفرنسيّة حول أشخاصها ومكاسبها.
وإثر تصريحات "سايدو" علّق السيّد الطّاهر بن عمّار بأنّ ما صرّح به المندوب السامي فيه كثير من المبالغة فيما يخصّ الإضطرابات التي وقعت بين البورقيبيّين والأمانة العامة اليوسفيّة من جهة ومن جهة أخرى بين التونسيّين والفرنسيّين. وأنّ الحكومة التونسيّة كانت تختار عدم الدّخول في مجادلة مع ممثل فرنسا والواقع يقتضي بأن تتفاوض في كلّ ما من شأنه أن يعرقل صفو العلاقات التونسيّة الفرنسيّة وأن تسود روح التفاهم بين الطّرفين سيّما ونحن على أبواب فتح المفاوضات..(أنظر صحيفة لابراس الصّادرة يوم 14 فيفري 1956).
وفي يوم السّبت 18 فيفري 1956 وفي ساعة متأخّرة من اللّيل دعا الطّاهر بن عمّار كافة الوزراء للاجتماع صباح يوم الأحد 19 فيفري 1956، وتقرّر تقديم طلب إلى الحكومة الفرنسيّة للإسراع بفتح المفاوضات. كذلك تمّ النّظر في تشكيل وفد التفاوض الذي يرأسه السيّد الطاهر بن عمّار. أمّا بقيّة أعضاء الوفد فسيقع الإعلان عنهم فيما بعد واتصل السيّد الطّاهر بن عمّار بالسيّد "روبار جيلاي" (Robert Gillet) الوزير المفوّض لدى المندوب السّامي المتواجد وقتئذ بباريس لإعلامه برغبة الحكومة التونسيّة في الإسراع بفتح المفاوضات شريطة أن يكون الوفد الفرنسي مرؤوسا من طرف السيّد "قي مولي" رئيس الحكومة الفرنسيّة. (أنظر إلى موقع واب www.taharbenammar.com rubrique Documents du 24/02/1956).
ولنتساءل لماذا كلّ هذا الإسراع في فتح المفاوضات؟ وللجواب عن هذا السّؤال:
1)أن لا يقع تجاوزنا من طرف الإخوة المغاربة لذا تعيّن فتح المفاوضات يوم الخميس 23 فيفري 1956 على أساس الإتفاق الذي أٌُمْضِىَ قبل يوم أي السبت 18 فيفري 1956 والذي اعتبره الطّرف التونسي ممتازا.
2) الحصول على إتفاقيّتي الدّفاع والعلاقات الخارجيّة قبل بداية الحملة الإنتخابيّة المتعلّقة بإنشاء المجلس التأسيسي.
3) عدم ترك المجال للطّرف الفرنسي حتّى لا ينكمش إثر الإضطرابات التي جدّت بالجزائر يوم 6 فيفري 1956 وبتونس خلال الأيّام الفارطة والتي أشار إليها المندوب السامي الفرنسي في تصريحه إثر انتقاله إلى باريس.
ونظرا لتواجد الحبيب بورقيبة بفرنسا سعى أن يُسْتَقْبَلَ من طرف "قي مولي" رئيس الحكومة الفرنسيّة و"كريستيان بينو" (Christian Pineau) وزير الخارجيّة الذي صرّح إلى لجنة الشّؤون الخارجيّة المنبثقة من البرلمان الفرنسي والمجتمعة تحت رئاسة "دانيال ماير" (Daniel Meyer) بأنّ الحكومة الفرنسيّة سوف تتفاوض مع السيّد الطّاهر بن عمّار لا مع الحبيب بورقيبة.(أنظر صحيفة "لابراس" الصّادرة بتاريخ 17فيفري 1956).
وفي يوم 24 فيفري 1956 مع الساعة الخامسة انعقد اجتماع وزاري مضيّق برئاسة الطّاهر بن عمّار للردّ على تصريحات "بينو" وزير خارجيّة فرنسا الّذي أكّد بأنّ فرنسا مستعدّة بأن تجري محادثات (conversations) ولا مفاوضات مع الطّرف التونسي علما أنّ هذه المحادثات تهدف الى شرح بعض النّقاط الواردة في اتفاقيّة 3جوان1955 والتي لا تمسّ بجوهر هذه الإتفاقيّة. وأمام هذه التصريحات المحيّرة بادر رئيس الحكومة التونسيّة السيّد الطّاهر بن عمّار بتوجيه رسالتين الأولى يحتجّ فيها الطّاهر بن عمّار على تصريحات "بينو" والثانية تضمّنت طلبا رسميّا كتابيّا لإعلام الطّرف المقابل بتطوّر الأمور الشيء الذي يقتضي إلغاء معاهدة باردو الممضاة يوم 12ماي1881 ومراجعة اتفاقيّة 3جوان 1955 كي تتمكّن تونس من ممارسة سيادتها على الوجه الأكمل (أنظر إلى موقع واب www.taharbenammar.com rubrique Documents 24/02/1956)
وفي الجلسة الوزاريّة المضيّقة تمّ تشكيل الوفد التفاوضي الذي يضمّ:
* الطّاهر بن عمّار : رئيس الوفد التفاوضي
* الباهي الأدغم: الذي تمّت تسميته كنائب لرئيس الحكومة يوم 24 فيفري 1956.
* المنجي سليم: وزير الداخليّة
* محمد المصمودي: وزير الإقتصاد
هذا الوفد سوف يكون مصحوبا بالسادة:
* الأستاذ توفيق بن الشيخ مدير ديوان رئيس الحكومة
* محمد السنوسي: المستشار القانونيّ للحكومة التونسيّة
* الحبيب الشطي: رئيس مصلحة الصحافة لدى الوزير الأوّل
* الطّيب سليم: وكيل الشّؤون الخارجيّة برئاسة الحكومة
* الشاذلي رحيّم: وزير البريد والبرق والهاتف الّذي رافق الوفد بطلب من السيّد الطّاهر بن عمّار رئيس الوفد.
علما أنّ المفاوضات سوف تفتح يوم الإثنين 27 فيفري 1956 وبهذه المناسبة وجّه الحبيب بورقيبة إلى الرّئيس الطّاهر بن عمّار برقيّة هذا نصّها:
«في الوقت الذي يستعدّ فيه وفد التفاوض التونسي تحت رئاستكم لخوض معركة الإستقلال التام أهنّئكم أنتم وزملاءكم بالتصريح الجليّ الذي يضبط قواعد المفاوضات أتمنى لكم نجاحا باهرا في الاضطلاع بهذه المهمّة الثقيلة وأؤكّد لكم اعتزازي الكامل».
وكان بورقيبة واعيا بثقل هذه المهمّة نظرا لدهاء المفاوضين الفرنسيّين وتعوّدهم على خوض المفاوضات من ناحية ولأنّ "قي مولي" لا يتمتّع بأغلبيّة مريحة داخل البرلمان ولأنّ هامش التصرّف لديه محدود بمراعاة مختلف الحساسيّات السّياسيّة المكوّنة للأغلبيّة الّتي لم تكن كلّها مساندة لاستقلال تونس.
والملاحظ أنّ تونس في هذه الفترة بالذات كانت تشتكي من عدّة أزمات:
1) من الناحية الإقتصاديّة: البلاد تتخبّط منذ أربع سنوات في الجفاف مع انتشار الجراد ممّا أنتج مجاعة في عدّة مناطق في البلاد ولاسيّما في الوسط والجنوب الأمر الذي يضطرّنا إلى مدّ أيدينا طلبا لمساعدة الخصم أي فرنسا علما أنّنا لم نتلقّ أيّة معونة غذائية من أيّ بلد كان.
2) من ناحية الأمن والإستقرار:
- كانت تونس تعاني من معركة شرسة كادت تؤول إلى حرب أهليّة بين شقّين تونسيّين الشق الذي ينتمي إلى الأمانة العامة والثاني ينتمي إلى الديوان السياسي.
- ثمّ أنّ الفرنسيّين المقيمين بتونس وفي مقدّمتهم "أنطوان كولونا" (Antoine Colonna) غير راضين على أيّ تطوّر كان في العلاقات بين تونس وفرنسا خشية المسّ بممتلكاتهم ومصالحهم ومكاسبهم وكانوا يتحرّكون بقوّة داخل البلاد مكثّفين الاتّصالات بالسّياسيّين الفرنسيّين قصد إفشال المفاوضات.
3) الأزمة الإجتماعيّة نتيجة الأزمة الإقتصاديّة حيث كثرت البطالة وتصاعدت، الأمر الذي جعل المنظّمة الشغيلة تقرّر الإضرابات التي زادت الطّين بلّة.
4) المراوغات والمماطلات من الجانب الفرنسي حول التفاوض وكيفيّة تصوّرهم له وهي عبارة عن حرب أعصاب من الطّرف المقابل.
5) ثمّ إنّ الأزمة الوزاريّة في فرنسا نتيجة سقوط حكومة "ادغار فور" والسّعي إلى تكوين حكومة تتمتّع بمساندة أغلبيّة برلمانيّة جعل الطّرف الفرنسي غير جاهز للتفاوض ولم يكن ذلك ممكنا قبل تعيين الإشتراكي "قي مولي" على رأس الحكومة الفرنسيّة في أواخر جانفي 1956. وحتّى الأغلبيّة الّتي مكّنته من تشكيل الوزارة كانت أغلبيّة هشّة قائمة على تحالف عديد الأحزاب السّياسيّة والرّاديكاليّة الّتي تحدّ من تصرّفه وتلزمه على السّعي للحصول على إرضاء الجميع.
هذا هو الإطار الذي جرت فيه مفاوضات الإستقلال وهو ليس بالأمر الهيّن وقد تحمّل السيّد الطّاهر بن عمّار، وزملاؤه السّادة الباهي الأدغم والمنجي سليم ومحمد المصمودي، هذه المسؤوليّة الجسيمة بكلّ شجاعة وثبات وصبر.
وفي يوم 26 فيفري 1956 وعلى الساعة الرابعة تحوّل الوفد التفاوضي إلى باريس وكان أوّل اتصال بالوفد التفاوضي الفرنسي يوم 27 فيفري 1956 حول مأدبة غداء التي جرت فيها محادثات وكان الطّاهر بن عمّار بأسلوبه المرن يخفّف من شعور الهيمنة التي كان عليها الطّرف المقابل الأمر الذي جعل "قي مولي" (Guy Mollet) يصرّح بأنّ تصريحات السادة "روجي سايدو" (Roger Seydoux) و"كريستيان بينو" (Christian Pineau) و"آلان سافاري" (Alain Savary) لم تفهم على حقيقتها من طرف الحكومة التونسيّة وهكذا افتتحت مساء يوم 29 فيفري 1956 المفاوضات على السّاعة الرّابعة إلاّ ربع مساءً تحت رئاسة "قي مولي" من الجانب الفرنسي والطّاهر بن عمّار من الجانب التونسي. وقد بدت من الجلسة الأولى اختلافات في وجهات النّظر. إذ فاجأ الطّاهر بن عمّار في كلمته الطّرف الفرنسي بتمسّكه بإلغاء معاهدة باردو المنعقدة بين تونس وفرنسا يوم 12 ماي 1881 (أنظر صحيفة الصّباح الصّادرة بتاريخ 1 مارس 1956) هذا الطّلب أثار دهشة ممثّلي فرنسا في المفاوضات حتّى أنّ "كريستيان بينو" رأى أن لا يجيب على الطّلب الّذي قدّمه رئيس الوفد التّونسي قائلا «أنتم تدركون ولا شكّ أنّ الحكومة الفرنسيّة لا يمكنها أن تجيب على مطلب تقدّمونه لها إلاّ بعد التّفكير وإمعان النّظر علما أنّ معاهدة باردو وثيقة ديبلوماسيّة» وخلال الاجتماعات الموالية طلب الطّاهر بن عمّار بالاعتراف باستقلال تونس كاملا ناجزا غير منقوص ولا مشروط ولاسيّما في ميداني الدّفاع والعلاقات الخارجيّة.
أمّا الطّرف الفرنسي فكان يريد أن تضبط علاقات التكافل (L'interdépendance) قبل الإعلان عن الإستقلال هذا من جهة ومن جهة أخرى لم يقبل الطّرف الفرنسي إلغاء معاهدة باردو. وبعد اجتماعات لم تفلح في تقريب وجهات النّظر أكّد الطّاهر بن عمّار في ساعة متأخّرة من اللّيل موقفه حيث قال: «لا فائدة في أن نذكّر بالظّروف الخاصّة بقدوم الوفد التونسي إلى باريس للتفاوض في اتفاقيّات جديدة مع فرنسا. والجميع متّفق على ضرورة إعادة النّظر في العلاقات بين البلدين حسب المعطيات الجديدة. بالنسبة للرّأي العام التونسي وكذلك الفرنسي كما هو الحال أيضا بالنسبة للرّأي العام العالمي تعتبر تونس عن جدارة البلد الشمالي-إفريقي الرّائد في التجربة اللّيبراليّة. لقد أعدّ كلّ من جانبه مشروع اتفاقيّة، ولاحظ الوفد التونسي أنّ المشروع الفرنسي يعتبر استقلال تونس موضوع تفاوض في حين أنّ المشروع التونسي يعتبر الإستقلال قاعدة لا نقاش فيها. والمفاوضات هي التي ستضبط صيغ التكافل (Interdépendance). ففي كنف المفاوضات الحرّة والإتفاقيات المبرمة من قبل تونس المستقلّة يمكن أن يتّخذ التكافل الفرنسي-التونسي كلّ قوّته ومصداقيّته. وهذا يعني رفع سوء التفاهم واللّبس. فالوفد التونسي مقرّ العزم على أن تنطلق المفاوضات في هذا الإطار. ويؤكّد أنّه يوافق على تكافل منظّم في كنف الحريّة وأيضا في كنف التضامن الفاعل بين فرنسا وتونس وكما نرجوه ونتمنّاه يكون الوفد الفرنسي على اتّفاق معنا على هذه الصّيغة في ترتيب مستقبل علاقاتنا. والمفاوضون التونسيّون على استعداد أن يواصلوا في كامل الأريحيّة المهمّة المناطة بعهدتهم. وسنبشّر التونسيّين الذين ينتظرون بفارغ الصّبر النّبأ العظيم الذي يطمئن شعبنا. وإذا افترضنا - وهو ما لا نرجوه فعلا- أن يدوم سوء التفاهم والإلتباس يمكنكم سيّدي أن تعتبروا أنّ مهمّتنا بكلّ أسف قد انتهت».
وتدخّل الطّاهر بن عمّار يوم 3 مارس 1956 لفائدة الحبيب بورقيبة في المجيء إلى باريس كي يتابع المفاوضات وأن يتوسّط له في مقابلة مع "قي مولي" رئيس الحكومة الفرنسيّة يوم 6مارس 1956 بعد الزوال صحبة الباهي الأدغم إلاّ أنّ المقابلة قد أُخْتُزِلَتْ...
ومن الغد أي مساء يوم 7مارس 1956 وقع اجتماع تعثّرت فيه الأمور ورفض الجانب الفرنسي إلغاء معاهدة باردو وتمسّك بتقديم مبدأ التّكافل على الاستقلال وأمام تصلّب الموقف الفرنسي اِرتبك الوفد التّونسي وتواصلت المفاوضات بين أخذ وردّ حتّى يوم 9 مارس 1956 وحصل الاتفاق من ناحية المحتوى والمبدأ ووقع التّخلي عن مسألة الاعتراف بالاستقلال في نطاق التّكافل (L'indépendance dans l'interdépendance) وإلغاء معاهدة باردو لسنة 1881. وقد أصرّ السيّد الطاهر بن عمّار على موقفه المعلن عنه في تصريحاته ومن ناحية أخرى ألحّ على إيجاد صيغة لا لبس فيها صريحة تؤدّي معنى الإستقلال التام غير المشروط مع إلغاء معاهدة باردو وتولّي الحكومة التونسيّة إدارة شؤون الدّفاع والعلاقات الخارجيّة وتبادل السّفراء. (أنظر صحيفة لابراس بتاريخ 8 مارس 1956 وصحيفة الصّباح بنفس التاريخ).
وقبل ذلك أي يوم 8 مارس 1956 وقع اغتيال الأخوة "توماسين" (Thomassin) المتعاطفين مع القضيّة التونسيّة فاضطربت الأحوال واختلّ الأمن.
ومن الغد أي يوم الجمعة 9مارس 1956 اضطربت الأحوال بشدّة وأحدث الفرنسيّون المتطرّفون المناهضون للإستقلال التونسي شغبا وهاجموا كلاّ من جريدة "Le Petit Matin" ومقرّ جريدة "العمل" والقنصليّة الأمريكيّة تحت أنظار البوليس الفرنسي الذي كان موقفه سلبيّا كما حدثت مصادمات كبيرة مؤلمة أثناء جنازة الأخوة "توماسين" بمقبرة "بورجل" كما اعتدوا على سيارة المندوب السامي "روجي سايدو" الّذي وجد الحماية من الشّرطة التونسيّة ومزّقوا العلم الفرنسي وداسوه بالأقدام. وفي هذا الجو المكهرب المضطرب الخطير جدّا أظهر الطّاهر بن عمّار وزملاؤه الجرأة لاستغلال هذه الأحداث لفائدتهم والضغط على الطّرف الفرنسي ليسرع الخطى في إنجاح المفاوضات على أحسن حال. (أنظر صحيفة الصّباح الصّادرة يوم 10 مارس 1956 وصحيفة العمل بتاريخ 11 مارس 1956).
وإزاء تصاعد الأحداث طلب السّيّد الطّاهر بن عمّار يوم 10 مارس سنة 1956 من وزير الدّاخليّة السّيد المنجي سليم أن يعود إلى تونس على جناح السّرعة لتهدئة الأجواء والعمل على استتباب الأمن خشية أن تكون مثل هذه الاضطرابات سببا في فشل المفاوضات وفعلا وصل السيّد المنجي سليم مصحوبا بالسيّد حمّادي السّنوسي إلى تونس على السّاعة الثانية بعد الزّوال وعلى السّاعة الواحدة من نفس اليوم أي يوم 10 مارس تلقّى السّيد الطّاهر بن عمّار مكالمة هاتفيّة من السيّد الصّادق المقدّم يطالبه فيها بالرّجوع حالا إلى تونس نظرا لتطوّر الأحداث وأخذها منعرجا خطرا جدّا على الأرواح والمكاسب وخصوصا الموقف السّلبي لقوات الأمن. وقد وجد الفرنسيّون المقيمون بتونس ذريعة للاحتجاج على الحكومة التّونسيّة الّتي أخذت على عاتقها تأمين أشخاصهم وممتلكاتهم واعتبروا وجودها حبرا على ورق ودليلهم على ذلك اغتيال الأخوين "توماسين" المتعاطفين مع التّونسيّين غلطا وذلك "بالعروسة"(قرب مجاز الباب) وتأكّدوا أنّ ما ينتظر الفرنسيّين غير المتعاطفين بعد الاستقلال سيكون رهيبا على أشخاصهم ومكاسبهم وهكذا عاد السيّد الطّاهر بن عمّار إلى تونس آخر مساء يوم 10مارس1956 مصحوبا بالسّادة الشاذلي رحيّم وتوفيق بن الشّيخ والحبيب الشطّي وصرّح: «كلّ شيء على أحسن ما يرام ونحن متفقون على جميع القضايا المطروحة: استقلال، إلغاء معاهدة باردو إلى آخره... ولم يتبقّ إلاّ إنجاز الصّيغة النهائيّة وسيتمّ إمضاء وثيقة الاستقلال في ظرف أسبوع. ورجعت إلى تونس بسبب الاضطرابات التي جدّت على الساحة ولم أفهم لماذا لم يقم البوليس بواجبه ومسؤوليّته ثقيلة في ما حدث وما كان ليموت فرنسيّ لو قام البوليس بواجبه». (أنظر صحيفة العمل الصّادرة يوم 11 مارس 1956 وصحيفة لابراس بنفس التاريخ).
ولإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه لعب السيّد الشّاذلي رحيم دورا هاما عند وجوده بباريس إذ كان يكلّفه الطّاهر بن عمّار باتّصلات مع "قي مولي" و"كريستيان بينو" وغيرهم لتهدئة الأجواء وعدم التأثر بما قد يمكن أن يصرّح به هذا أو ذاك.
وفي الأثناء أعلن الطّاهر بن عمّار عن تاريخ انتخاب المجلس التّأسيسي الّذي سيكون يوم 25 مارس 1956 وشرع في تنظيم الحملة الانتخابية وتمادت الاتّصالات الهاتفيّة بين السيّد الطّاهر بن عمّار والزّعيم الحبيب بورقيبة والباهي الأدغم من جهة وبين الطّاهر بن عمّار و"قي مولي" و"ألان سافاري" و"كريستيان بينو" وسياسيّين فرنسيّين آخرين لهم ثقلهم وتأثيرهم على السّاحة السّياسيّة أمثال "منداس فرانس" و"ادغار فور" وغيرهم.
و في يوم 17 مارس 1956 تكثّفت الاتّصالات الهاتفيّة بين نفس الأشخاص المذكورين إلى آخر المساء قصد إنهاء المفاوضات خشية التّطويل الممل والأخذ والرّد وحرب الأعصاب علما أنّه إثر محادثة هاتفيّة بين الطّاهر بن عمّار و"بينو" قابل هذا الأخير الحبيب بورقيبة وكان هذا اللّقاء لطيّ صفحة سوء التّفاهم. وهنا التحق الطّاهر بن عمّار بباريس من جديد صحبة المنجي سليم لإمضاء وثيقة الاستقلال الّتي قرأها عليه رئيس الحكومة الفرنسيّة "قي مولي" يوم 17 مارس 1956 ليلا عن طريق الهاتف واتّفقا على الصّياغة النّهائيّة لبروتوكول الاستقلال التام. وفي يوم 20 مارس 1956 على الساعة الخامسة وخمس وأربعين دقيقة أمضى السيّد الطّاهر بن عمّار بوزارة الخارجيّة مع "كريستيان بينو"(Christian Pineau) وزير الخارجيّة الفرنسي وثيقة الاستقلال بحضور كامل الوفد التونسي الّذي سرعان ما طار إلى تونس صحبة الحبيب بورقيبة للاحتفال بالحدث في حين بقي الطّاهر بن عمّار بباريس لتدبّر الأمر لمواجهة المجاعة الّتي تعصف بالوسط والجنوب وفعلا تحصّل على هبة من الحكومة الفرنسيّة تتمثل في 250 ألف قنطار القمح على خمسة أشهر لمساعدة المنكوبين وضعفاء الحال وإبعاد شبح المجاعة عن هؤلاء. والتقى الطّاهر بن عمّار بالسيّد "الآغا خان" (khan Agha) الزّعيم الرّوحي للاسماعليين الّذي أبدى رغبته في أن يدفن بالقيروان تبرّكا بها وطلب تمكينه من أرض ليشيّد بها مزارا وقدّم له ملفّا في هذا الموضوع أحاله الطّاهر بن عمّار على الحبيب بورقيبة عند تسلّمه مهامّه رئيسا للحكومة من بعده...
وفي يوم 24 مارس 1956 عاد الطّاهر بن عمّار إلى تونس وأُعدّ له استقبالٌ تلقائيّ بهيج وفي يوم 25 مارس 1956 انتخب نائبا بالمجلس التّأسيسي وصرّح في يوم 9 أفريل 1956 بتقديم استقالته معتبرا أنّ مهمّته قد انتهت:
«تقدّمت الحكومة التونسيّة صباح اليوم باستقالتها إلى جلالة الباي وقد تشكّلت غداة حصول البلاد التونسيّة على الحكم الذاتي وقد تشرّفت الحكومة بالحصول على الاعتراف باستقلال البلاد التونسيّة الكامل وبتنظيم الانتخابات لتأليف المجلس القومي التأسيسي وبالإشراف على تنصيبه وبذلك انتهت مهمّتها المتمثّلة في استرجاع السّيادة وكان عليها احتراما للمبادئ الديمقراطيّة أن تترك المجال لمن سيختارهم الشّعب للإضطلاع بالمهام التي تمليها الظّروف الجديدة. ولا يسعني إلاّ أن أعبّر عن ابتهاجي الكبير بعد اللّحظات التي يعجز عنها الوصف أن أرى بلادنا ترتقي إلى الإستقلال في كنف ممارسة الديمقراطيّة وتنصيب المجلس التأسيسي في يوم مشهود في القاعة الكبرى بقصر باردو في غمرة التأثّر الذي مسّ كلّ البلاد يجسّم بالنسبة لي حلما طالما راودني وكرّست من أجل تحقيقه جهد حياتي كما كان أمنية الشعب التونسي برُمَّته.
وأعظم فخر لي بعد انقضاء خمسة وثلاثين عاما على اليوم الذي تولّيت فيه قيادة الوفد التونسي الثاني سنة 1921 إلى باريس للمطالبة ب "دستور" لتونس هو إمضاء وثيقتي الإستقلال الدّاخلي والتّام لبلادي ورئاسة الحكومتين اللّتين أقرّتا وأرستا دعائم تونس الحرّة.
فإلى الحكومة التونسيّة الجديدة التي يحمّلها جلالته مهمّة السّهر على الأمّة أتوجّه بأحرّ الأماني لها في النجاح في مهمّتها النبيلة والثقيلة وإلى بلدنا العزيز الذي لم يخيّب أبدا إيماننا به وتفاؤلنا أصدق عبارات الرّجاء في الإزدهار والرّقيّ وإلى جلالة الملك سيّدي الأمين باي الذي ساندنا جميعا في الأيّام الحالكة كما شاطرنا الفرح في أيّام المسرّة اعترافنا له بالجميل وأخيرا إلى ذلك الذي يمثل منذ ربع قرن الضّمير الوطني الرّئيس الحبيب بورقيبة مشاعر الإعجاب والإعتراف بالجميل. وأمام مؤشّرات الحاضر الباعثة على التفاؤل ستعرف تونسنا الفتيّة - وأنا على يقين من ذلك- في كنف العمل والتضامن أيّاما مشرقة».
وفي يوم 11 أفريل 1956 وقع بقصر الحكومة بالقصبة تنصيب الزّعيم الحبيب بورقيبة كرئيس حكومة خلفا للسيّد الطاهر بن عمار رئيس الحكومة المستقيل. فأشار الطّاهر بن عمّار متبسّما ومخاطبا الحبيب بورقيبة وأحمد بن صالح قائلا «لأوّل مرّة في تاريخ تونس يحيل رئيس حكومة بنفسه إلى خلفه جميع صلوحياته بهذا الشكل».
تلك هي مراحل المفاوضات المؤدّية إلى استقلال تونس نذكرها بكلّ فخر واعتزاز وأغتنم هذه الفرصة لنعطي لكلّ من ساهم في النّضال الوطني مهما كان موقعه وحسبما تسمح به طاقته حقّه كي يكون هؤلاء المناضلون قدوة للشباب الذي سيستلم المشعل وعلى رجال التاريخ والباحثين أن يزيلوا غبار النسيان على رجال أخلصوا ما عاهدوا الله عليه، والذين مع الأسف الشديد طواهم النسيان وعدم الاعتراف بالجميل فلنكن عند حسن الظنّ وفي المستوى المطلوب إزاء رجالنا الأبرار.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.