الحمامات-الصباح: طغت مسألة الاختلاف في تحديد نسب السقوط والتعويض عن الأضرار المهنية بين اللجان الطبية والقضاء، على فعاليات الملتقى الطبي الأول للأخطار المهنية الذي انتظم على مدى يومين واختتمت أشغاله يوم أمس بنزل كرتاقو بالحمامات الجنوبية. وكان هذا الملتقى الأول للأخطار المهنية فرصة لتبادل وجهات النظر بخصوص مجال التعويض عن الأضرار المهنية الناتجة عن حوادث شغل، والبحث خاصة في أسباب ارتفاع مؤشرات بعض الحوادث دون غيرها وطرق تحديدها واحتساب نسب السقوط فيها، فضلا عن أسباب اختلاف تقدير نسب السقوط والعجز للمتضرر بين اللجان الطبية، والهيكل القضائي. وكان السيد الناصر الغربي ر م ع صندوق التأمين على المرض قد تولى الإشراف على افتتاح الملتقى بحضور السيد توفيق الناصف رئيس عمادة الأطباء التونسيين. وعدد من إطارات الصندوق، ومن متفقدي الشغل، والأطباء المستشارين، وقضاة وجامعيين باحثين.. ويستمد موضوع الملتقى أهميته من استمرار ارتفاع حوادث الشغل والأمراض المهنية، وخاصة ارتفاع النزاعات القضائية الناشئة بسبب لجوء غالبية المتضررين إلى القضاء لعدم اقتناعهم بنسب السقوط والعجز التي تحددها اللجان الطبية. من ذلك أن عدد القضايا في هذا المجال تصل لأكثر من ألفي قضية سنويا.. يعتبر مرض العصب الناصف الذي يصيب الأعضاء الفوقية للعامل ويتمثل مظهره في حصول ارتعاش وتململ في الأطراف، من الأمراض الأكثر انتشارا في تونس في مجال الأمراض المهنية المصرح بها، حسب مداخلة السيد نجيب مريزق عميد كلية الطب بسوسة. وتبلغ نسبتها ما يناهز ال40 بالمائة من جملة عدد حوادث الشغل والأمراض المهنية، تأتي بعدها الإصابة بالطرش بنسبة 30 بالمائة. جدير بالذكر أن نسبة الأمراض المتعلقة بالعصب الناصف، شهدت ارتفاعا ملحوظا مقارنة بسنة 2007. عاملات النسيج من أبرز ضحايا الأمراض المهنية وغالبا ما يتم تسجيل هذه الإصابات في صفوف العمال والمؤجرين خاصة بالمؤسسات الناشطة في قطاع الصناعات المعملية على غرار النسيج، والصناعات الغذائية، والصناعات الالكترونية والميكانيكية.. وتنتشر هذه الأمراض المهنية خاصة بولايات الساحل التي تكثر فيها صناعات النسيج على وجه الخصوص. وحسب تقارير صادرة عن إدارة الوقاية من الأخطار المهنية بصندوق التأمين على المرض فإن معظم الاصابات المسجلة بمرض العصب الناصف يصيب النساء، على اعتبار أن أكثر من 90 بالمائة من الصناعات المعملية تشغل العنصر النسائي. وتتطلب موافقة اللجان الطبية المتخصصة على اعتبار الأمراض المهنية وخاصة منها العصب الناصف أو الطرش، إلى دراسة موقع العمل الذي حصل فيه حادث الشغل. وقد اقترح بعض المتدخلين في هذا المجال دعم دراسة موقع العمل، بصور فيديو لمكان وقوع الحادث وموقع الإصابة، بهدف القيام بتشخيص موضوعي للمتضررين من حوادث شغل وأمراض مهنية. اختلاف في تحديد نسبة السقوط والعجز ودون الخوض في تفاصيل عمل اللجان الطبية المستقلة صلب صندوق التأمين على المرض، وتقيدها بجداول توجيهية تضم مقاييس معينة لتحديد نوعية المرض المهني، وكيفية استجابته لشروط إدراجه ضمن حادث شغل يتطلب تعويضا آليا مباشرا، استنادا إلى التراتيب والأوامر والمراجع القانونية للغرض خاصة منها قانون 1994 الضّابط لنظام تعويض الأضرار الناتجة عن حوادث الشغل والأمراض المهنية.. يتركز الإشكال في هذا السياق أساسا حسب ما أوضحته بعض المداخلات التي ألقيت في هذا الملتقى هو في اختلاف تحديد نسبة السقوط والعجز عند دراسة ملفات الأمراض المهنية المصرح بها، لدى أعضاء اللجنة نفسها ولو في بعض الحالات. لكن الثابت في الأمر، أنه ورغم توافق اللجان الطبية على تحديد نسب السقوط، إلا أن معظم المصابين بحوادث شغل أو امراض مهنية يلجؤون للقضاء بسبب عدم اقتناعهم بنسب السقوط المحددة، من قبل اللجنة. وهنا تأتي اشكالية ثانية وهي البون الشاسع لمعظم الحالات المحالة على القضاء، في ما يتعلق بنسب السقوط المستحقة للمتضرر، ونسب العجز مقارنة بنسبة السقوط المحددة سلفا من قبل اللجان الطبية. وعادة ما تلجأ الدوائر القضائية المختصة إلى خبراء عدليين مدرجين ضمن قائمة الخبراء العدليين المعتمدين كمساعدي قضاء لمزيد التأكد من نسب السقوط المستحقة للمتضرر. دور القضاء في فصل النزاعات المتعلقة بالأمراض المهنية هذا التباين بين اللجان الطبية، والقضاء كان محور اليوم الثاني من الملتقى الذي ركز على دور القضاء في فصل النزاعات المتعلقة بالأمراض المهنية وحوادث الشغل. وقد فسحت المداخلات التي القيت في هذا المجال لطرح نقاش مستفيض، وجدل ثري بشأن دور كل هيكل ومسببات الاختلاف بينهما خاصة في ما يهم تحديد نسب السقوط والعجز واحتساب مقادير التعويض وغيرها. فحسب مداخلة السيد نزار بركوتي (صندوق التأمين على المرض)، الذي ركز فيها على تقييم الاختبار الطبي بين عمل اللجان الطبية، والخبراء العدليين. فإن من أسباب الاختلاف بين الطرفين هو في عدم اعتماد الخبراء العدليين الذين يلجأ إليهم القضاء بمعايير قياس الأضرار المعتمدة، وفي عدم توافق آراء أعضاء اللجنة الطبية نفسها، كما أن الخبير العدلي حسب رأيه يرجح الجانب العاطفي والمعنوي على الاختبار الفني والتقني للأضرار. وأكد على أهمية توفر عنصر الاختصاص عند القيام بالاختبار الطبي، لأنه أمر مهم يسمح بالقيام بتشخيص موضوعي للملفات المحالة على اللجان الطبية، معتبرا أن أعضاء اللجنة تضم أطباء مستشارين ملزمين باحترام المبادئ العليا لمجلة الواجبات الطبية، وباحترام مبدإ الاستقلالية والحياد. ورغم توافق عمل الهيكلين في المراجع القانونية، وفي مضمون الاختبار، فقد بين المحاضر أن اللجوء إلى اللجان الطبية ملزم وأن مرحلة التسوية الآلية والرضائية وجوبية قبل اللجوء إلى القضاء على اعتبار أن عمل اللجنة منظم وفق اوامر وتراتيب وقوانين. وهي تختلف عن التنظيم الفرنسي، في هذا المجال الذي يوكل الرأي الطبي للخبراء الطبيين. واقترح في السياق ذاته ترشيد مسألة اللجوء إلى الاختبار من قبل الجهاز القضائي، والاعتراف بأهمية دور اللجان الطبية وقراراتها، والعمل على إحداث هيئات قضائية تضم أطباء متخصصين، وأن يكون الاختبار الطبي بطريقة المواجهة بين المتضرر وطبيبه المباشر، وبين الأطباء المستشارين الأعضاء في اللجان الطبية قبل البت في النزاعات عبر اللجوء إلى القضاء. أية أضرار يتم تعويضها ؟ وفي مداخلة القاضي والجامعي فتحي الميموني مدير مركز البحث القانوني والقضائي، حول لجوء المتضرر من حوادث الشغل إلى القضاء. تبين أن أهم محاور الاختلاف بين قرارات اللجان الطبية، والقضاء. هو في تحديد نسب السقوط والعجز والتعويض. وخاصة في ناحية الأضرار التي يمكن تعويضها. وأفاد أن الفقه القضائي رجح تعويض المتضرر من حادث شغل ليس فقط من أضرار مادية، بل أيضا من الأضرار المعنوية والاقتصادية وحتى الجمالية. وهي أضرار ومخلفات ثانوية تحصل للمتضرر ولها علاقة بحادث الشغل. وبين وجود علاقة تبعية بين الحادث ومكان العمل، وهي علاقة مزدوجة الأطراف، مشيرا إلى أن إثبات حادث الشغل يرتكز على قرينة بسيطة وهي ان الحادث وقع في مكان العمل أو مرتبطة بالعمل. ويمكن إثبات العلاقة حتى بشهادة الشهود. وذكر أن النزاعات القضائية تنشأ ليس فقط في تحديد نسب العجز والسقوط، ولكن أيضا في تفصي مسؤولية المؤجر عبر تعمد تغيير العلاقة التعاقدية مع الأجير، وفي هذه الحالة يعتمد القضاء على الأجرة الحقيقية التي يتقاضاها الأجير بمقتضى الاتفاقيات القطاعية. مؤكدا على أن لجوء المتضرر إلى القضاء هو حق وواجب ويؤسس على مخالفة احتساب الجراية والنسب المحددة من قبل اللجنة الطبية. لكن المحاضر بين في هذا السياق عدم وجود نص قانوني يوجب المرور عبر اللجنة الطبية عند حدوث حادث شغل، وبالتالي فإن اللجوء إلى التقاضي ليس مرهونا بالمرور عبر اللجنة حسب تعبيره. مضيفا أن اللجنة الطبية في تركيبتها تعتبر طرفا وحكما وخبيرا في نفس الوقت، فهي التي تحدد نسب السقوط والتعويض، وهي أيضا طرف في النزاع. وأشار السيد فتحي الميموني أن الاختبارات الطبية لها أساس قانوني يستند إلى قانون 1997، الذي حدد شروط الاختبار. من ذلك أنه يوجب على الخبير أداء اليمين أمام محكمة الاستئناف حتى يكون مدرجا ضمن جدول الخبراء العدليين، وبالتالي يمكن الاستعانة بآرائهم من قبل القاضي. لكن القاضي أكد على أن مسألة الاختلاف بين الجانب القضائي، واللجان الطبية هو اختلاف إجرائي تنظيمي بالأساس، على اعتبار أن أعضاء اللجنة الطبية لا يمكن اعتبارهم خبراء محايدين إلا في صورة أدائهم لليمين أمام المحاكم المختصة، والذي يمنحهم الاستقلالية في اتخاذ القرار.