أعترف أولا أنني كنت فيما قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة من غير المتابعين للانتخابات الأمريكية، لا الرئاسية ولا انتخابات مجلسي الشيوخ والنواب ولا الانتخابات المحلية. بل كنت أعتبر أن المشاركة في الانتخابات الرئاسية مضيعة للوقت، لا فرق في المواقف بين الجمهوريين والديمقراطيين فيما يتعلق بقضايا العرب والمسلمين وخاصة القضية الفلسطينية، القاسم المشترك بين كل العرب. وكمعظم العرب الأمريكيين كنت أعتقد يقينا أن الحزبين الأساسيين وجهان لعملة واحدة يتفقان ويختلفان حول القضايا المحلية لكنهما يتسابقان في من يثبت أنه أكثر دعما لإسرائيل وأكرم عطاء لها وأشد حماسة لسياساتها وأغمض عينا عن انتهاكاتها وأوسع صدرا لابتزازها وأكثر انصياعا لإملاءاتها. إلا أن هذه الفكرة تعرضت للمراجعة والاهتزاز والتعديل بعد ثماني سنوات عجاف من إدارة الرئيس الجمهوري بوش وحفنة المحافظين الجدد من حوله. الانتخابات الرئاسية الأخيرة كانت سابقة لم يكن لها مثيل في كافة الانتخابات الأمريكية السابقة. والانتخابات الأقرب منها تلك التي جرت عام 1960 عندما تقدم مرشح شاب من أتباع المذهب الكاثوليكي ليصبح رئيسا لدولة بروتستانية . كان ترشح جون كندي آنذاك أشبه بالزلزال حيث لم يكن أحد يتخيل أن دولة غالبيتها الساحقة تتبع مذهبا واحدا يمكن أن تهضم وجود رئيس تابع للأقلية الدينية تحت أي ظرف من الظروف. إلا أن النجاح حالف ذاك المرشح الشاب رغم الصعوبات الجمة مسجلا بذلك سابقة تاريخية ومجسدا بانتخابه تحولا جذريا لدى غالبية المجتمع الأمريكي نحو التسامح الديني لا يعادله أو يزيد عليه إلا التحول الجذري في أجيال اليوم والذي جسّد بانتخاب أوباما ووصول هيلاري كلينتون إلى محطة التنافس الأخيرة في حزبها تحولا جذريا آخر نحو التسامحين العرقي والجنساني. كان المرشحان الأساسيان للحزب الديمقراطي يعتبران، كل في مجاله، سابقة لا مثيل لها في الماضي. هيلاري كلينتون كانت ستكون أول سيدة تصبح رئيسا للولايات المتحدة لو تجاوزت منافسها من نفس الحزب أوباما، وباراك حسين أوباما سيكون أول رئيس أمريكي من أصول أفريقية يهزم مرشح حزب الأغنياء والمتعصبين والمحافظين ويصل البيت الأبيض. المشهد كان أشبه بلوحة سوريالية لا تفهم منها شيئا إذا نظرت إليها من بعيد. أما إذا اقتربت من تفاصيلها فستكتشف أن منطق الأمور والتغيرات العميقة في الأجيال الجديدة والخراب الذي سببته إدارة بوش على جميع المستويات المحلية والدولية يؤكد أن الإدراة القادمة لا بد أن تكون من نصيب أحد مرشحي الحزب الديمقراطي وأن أفضلهما هو باراك حسين أوباما، ذلك الشاب المثقف البليغ النظيف الذي يمثل المستقبل والأقرب إلى حس الشارع الأمريكي وخاصة الشباب. وكغيري من ملايين العرب الأمريكيين بدأت أتابع الانتخابات بكل تفاصيلها وكنت أسهر إلى منتصف الليل أيام الانتخابات التمهيدية لمعرفة النتائج. وقد ترسخت لديّ قناعة تامة منذ نوفمبر عام 2007 بأن الرئيس القادم سيكون أوباما. وبلغ عندي هذا التوقع حد اليقين وأعلنت ذلك في أكثر من مقابلة متلفزة ومقال منشور بل وراهنت وديا مع بعض الأصدقاء من المعتقدين أن الشعب الأمريكي غير جاهز لرؤية "رجل أسود في البيت الأبيض" على حدّ تعبير أحد الأصدقاء، وبالفعل كسبت تلك الرهانات الودية جميعها. بعد ظهور نتائج الانتخابات التي مالت بأغلبية ساحقة لصالح مرشح الرئاسة الديمقراطي أوباما وفوز كاسح للحزب في مجلسي الشيوخ والنواب، اتفق كثير من المحللين على أن الشعب الأمريكي بهذه النتائج إنما أراد أن يعاقب إدارة بوش والحزب الجمهوري على ما ارتكبوه من سياسات حمقاء دمرت البلاد وأدخلتها في حروب دموية غير مضمونة النتائج وشوّهت صورة الولاياتالمتحدة ليس فقط لدى العرب والمسلمين بل وحتى بين حلفائها التاريخيين وانتهكت الحقوق المدنية للمواطنين ومارست التعذيب وأقامت السجون السرية وأثقلت الميزانية بالديون وأوصلت البلاد إلى حافة الانهيار الاقتصادي. لقد تبيّن أن العرب الأمريكيين لعبوا دورا نشيطا في هذه الانتخابات بشكل لم يسبق له مثيل. فقد أعلن 95 % منهم أنهم سيشاركون في الانتخابات وأن 88% شاركوا فعلا في الانتخابات الرئاسية وهي من أعلى النسب لدى أية مجموعة عرقية أخرى. ومن بين المصوتين أدلى نحو 70% من أصواتهم لصالح أوباما وصوت للمرشح الجمهوري نحو 20 % فقط معظمهم من أنصار قوى 14 آذار في لبنان وبعض العراقيين الذين ما زالوا يهللون لبوش وحزبه بسبب إسقاط نظام صدام حسين. كان من بين العرب الأمريكيين العديد من المتطوعين في حملة أوباما الانتخابية وكثير منهم قدم تبرعات لتمويل الحملة كما شارك في مؤتمر الحزب الذي عقد في دنفر أربعون مندوبا من أصل عربي . وقد تبين أن عدد العرب المسجلين في الحزب الديمقراطي تضاعف قياسا بعدد المسجلين في الحزب الجمهوري. ففي عام 2000 كانت النسب متقاربة، 40% مع الحزب الديمقراطي و38% مع الحزب الجمهوري، وقفزت النسبة عام 2008 لتصل إلى 54% لصالح الحزب الديمقراطي مقابل 27% للحزب الجمهوري. لا نشك أن الرئيس أوباما قد أخذ علما بدعم الجالية العربية والإسلامية له. وهو حريص في كل ما يقول وفي كل قرار يتخذه أن لا يثير حساسية العرب والمسلمين. بل على العكس من ذلك نلاحظ أنه أكثر تفهما للعرب والمسلمين من كافة الإدارات السابقة، فقد عين "راي لحود" وزيرا للمواصلات وعين جورج ميتشل مبعوثا خاصا للشرق الأوسط في محاولة جادة من رجل جادّ من أصول عربية لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. كما أنه اختار في خطابه أمام الكونغرس أن يذكر الإسلام مباشرة بعد ذكر الدين المسيحي وقدمه على الدين اليهودي في معرض حديثه عن تنوع الأديان في الولاياتالمتحدة. كما اقتبس في مناسبة أخرى حديثا عن الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، حول عدم جواز ان ينام المسلم شبعا وجاره جائع وغير ذلك الكثير كان آخرها خطابه المتوازن والتصالحي مع العالم الإسلامي الذي ألقاه في تركيا يوم الإثنين السادس من شهر أفريل الحالي. إن هذه الانتخابات ونتائجها لا بد أن تشكل درسا وحافزا للمزيد من المشاركة والعمل والتدخل في العملية السياسية. فمن حق كل مواطن أمريكي من أصل عربي أن يتمتع في هذه البلاد بكافة حقوقه بل ويصرّ على تحصيل هذه الحقوق كما أن عليه أيضا واجبات قانونية واجتماعية وسياسية تحتمها شروط المواطنة. وبالمزيد من المشاركة والتكاتف تبدأ الجالية العربية بتغيير الصورة النمطية السلبية التي عممتها وسائل الإعلام بدفع وتشجيع وتمويل من قبل جهات الضغط صاحبة المصلحة في نشر وتعميق تلك الصورة البشعة. لقد خطت الجالية العربية أولى خطواتها في الطريق السديد. إلا أن المسؤوليات ما زالت جساما والتحديات ما زالت عظيمة. لكن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة. فهل اتعظ العرب الأمريكيون وقدموا مصالحهم العامة على المصالح الخاصة وبنوا إطارا قويا للضغط والتعبئة والتثقيف بهدف تغيير الصورة النمطية السلبية المزروعة في أذهان الملايين من الأمريكيين ضحايا الدعاية المغرضة وحملات التشوية وأنشطة منظمات الضغط المتخصصة لتوسيع الهوّة بين الشعب الأمريكي والعرب والمسلمين لتسهيل تمرير المخططات المسمومة والحاقدة لإبقاء السيطرة على أراضي العرب وثرواتهم وأسواقهم ومعاملاتهم المالية وتعميق الفرقة والتمزق والتخلف في الوطن العربي الكبير. × أستاذ العلوم السياسية ودراسات الشرق الأوسط في جامعة رتغرز بنيو جرزي