الأستاذ محمد علي اليوسفي تونسي من مواليد باجة هاجر إلى الشرق العربي بغاية الدراسة عاش بين سوريا ولبنان -خلال الحرب الأهلية- والأردن وقبرص أكثر من عشرين سنة كانت خلالها حياته زاخرة بالانتاج الصحفي والأدبي المتنوع والعطاء للثقافة العربية بصفة عامة ولتونس بصفة خاصة. بدأ شاعرا ومترجما لروائع الأدب العالمي من شعر ورواية، «حكاية بحار غريق» و«خريف البطريك» لغبريال غارسيا ماركيز" و"الباب الأخضر" لميغيل انخل أستورياس و"مملكة هذا العالم "لأليخو كاربنتييه و"البيت الكبير" لألفارو سيبيدا ساموديو" و"ليلة طويلة جدا" لكريستين بروويه و"بلزاك والخياطة الصينية الصغيرة" لداي سيجي. وقد أفرزت تجربته الشعرية ثلاثة دواوين هي: "حافة الأرض" و"امرأة سادسة للحواس" و"ليل الأجداد" ولما ضاق النص المكثف القصير عن شخصياته وحواراتهم خرج بهم إلى فضاء أرحب ليمكنهم من حرية لا يمكن للقصيدة أن تؤمنها لهم.. خرج بهم إلى الرواية..والرواية الشاعرية بالذات فكانت رواياته الست:"توقيت البنكا الحاصلة على جائزة الناقد في لندن 1992 وشمس القراميد الحاصلة على جائزة كومار التونسية لسنة 1997 ومملكة الأخيضر وبيروت ونهر الخيانات ودانتيلا وعتبات الجنة. إضافة الى العديد من الأعمال في السينما والدراسات والرحلات والكتابات في السيرة الذاتية. للحديث عن تجربة هذا المبدع ذو الإنتاج المتميز بالتنوع والغنى في الأشكال والأجناس الأدبية نلتقي اليوم معه لنسأله: * ما كان تأثير إقامتك في الشرق وفي اليونان على تجربتك الإعلامية والأدبية والحياتية، ماذا أضاف المكان لهذه التجربة وكيف أثر عليها؟ - من الطبيعي أن تكون هناك آثار ملموسة في الحياة وفي الكتابة، وأخرى متغلغلة حتى في اللاشعور وربما في السلوك. ولكي أتوصل إلى إدراك ذلك التأثير يتطلب مني الأمر تأملات طويلة؛ هي في الحقيقة من دور المراقب أو الناقد. لكنني كثيرا ما أعيد المثل القائل إن في السفر سبع فوائد: ولقد سافرت كثيرا من دون أن أعرف تلك الفوائد السبع كلها حصرا. غير أنني أعرف بعضها. من ذلك أن ملكة المقارنة تشكل مرتبة أولى في المعرفة. وأحيانا يشعر المسافر، عندما يكون في غير بلده، بأنه يشبه عمدة قرية، يفقد الكثير من وجاهته وسلطته في المدينة الكبيرة أو في العاصمة. وقد يكون في ذلك بداية استرابة في امتلائنا بالمكان؛ سواء أكان مكان النشأة أم مكان التيه المؤقت. وفي كل الأحوال ما من عودة إلى الأرض إلا وتكون محملة بخسارات الزمن، أي ما قد نسميه "التجربة" في نهاية المطاف. فالتجربة هي دائما خروجك من المعتاد وعدم قدرتك على العودة إلى تلك النقطة، نقطة ما قبل لحظة المجازفة بدقائق... ويكون كل شيء قد تبدل: بالنسبة للمغادر كما بالنسبة للمقيم. فأين تكون نقطة التلاقي عندئذ؟ * بدأت شاعرا وبموقف سياسي ما، مما يدور حولك، فهل مازال الشعر وسيلة نضال وهل مازال له قراء أم تغلبت عليه الرواية؟ التجربة الشعرية أعمق من الآني - لا الشعر وسيلة نضال ولا الرواية كذلك؛ إلا إذا اعتبرنا ابتكار الجمال نضالا. أما الشعر السياسي فله دور مرحليّ كثيرا ما يجعل صاحبه يعيد النظر لاحقًا، كما في مثال محمود درويش الذي تطور بتجربته وطوّرها إلى حد أنه بات يشعر بغضب مّا، إزاء كل من يصفه بشاعر المقاومة. التجربة الشعرية أعمق بكثير من الآني، ولها لغتها المحلقة باللحظة الطارئة إلى الآفاق الإنسانية الأرحب. الشق الثاني من السؤال حول المقارنة بين غلبة الشعر أم الرواية، لا يستدعي حسما في الحكم؛ للشعر ناسه ومحبّوه وأمكنته وأوقاته، وللرواية كذلك. والشعر حتى عندما يُطرد من الأبواب- كما في الغرب- فإنه يتسلل من النوافذ: ينبجس في كل الفنون الأخرى ويأخذ منها كما يعطيها. * ألا ترى ان توزيع الكلمات على الأسطر وان الإيقاع البصري الذي تتوخاه الجملة الشعرية قد سهل الأمر على مرصفي الكلمات تنازليا على اختطاف صفة الشاعر..؟ ليس من الضروري ان يكون كل الصناع مهرة - يتم ذلك إعلاميّا ومن أجل الفوز بشهرة مرضية (بالمعنييْن!) وفي أيام الشابي فاز هؤلاء بإمارة الشعر وبمناصبه الأخرى! ولست أرى ضيرا في أن يكتب الجميع وينشروا ما يريدون. الكتابة في بعض وجوهها تشبه الهوايات والمهن الأخرى: ليس من الضروري أن يكون كل الصُّنّاع مَهرة أو كل الرياضيين أبطالاً... لكنهم يشكلون في المحصلة بيئة مواتية -بعنَبِها وحصرمها - لنضج العناقيد الأجمل. * لك أسلوب استفزازي في كتابة الرواية وطريقة تعامل فوقية مع القارئ إذ أكدت على أكثر من منبر أنك لا تلاحق القارئ ولا تساير الموضة في الكتابة فهل من توضيح؟ ما أسهل مسايرة الموضة في كتابة الرواية - لا أدري إن كان اختيار الأسلوب استفزازا مقصودًا. أنا قارئ مدمن للكتابات العالمية، ومترجم لبعضها لاحقًا. وعندما أكتب لا أفكر في نجيب محفوظ أو البشير خريّف فقط. ولا أفكر في القارئ أيضا. أنطلق من العلاقة الحميمة التي تربطني بالكتابات الرائعة. وهي علاقة تتم في السر وفي الصمت: حوار بيننا وبين الكتاب. وفي قولي إنني لا ألاحق القارئ اعتراف بجدارة القارئ الذي قد توفره المصادفات. وإلا ما أسهل مسايرة الموضة الراهنة. الوصفة جاهزة: الكثير من الجنس إلى حد البورنو، الانتهاك المجاني للمقدسات الدينية واعلان الحرب الدونكيشوتية على السلطة: نجاح باهر! لكنه خادع وزائل. إيقاع الأحداث.. وسيطرة الحكاية * الرواية بالنسبة إليك صورة أم حوار أم لغة؟ - الثلاثة معًا: فيها حيز للصور، وللغة. لكن من دون أن يكون ذلك على حساب إيقاع الأحداث ما أؤمن به وأسعى إليه هو كيفية جعل الشعر متأتيا من شعرية الأمكنة ومن علاقات الشخوص إنْ حبًّا أو كرها( جمالية القبح!) وليس من تدفّق رومنسي للغة. ثمة عنصر مهمّ في الرواية وإلا كفّتْ عن أن تكون كذلك - وهو الإيقاع؛ إيقاع الأحداث وسيطرة الحكاية بما يشبه الهاجس. * الاحتفال بشخصية الجد غريبة نوعا ما عن الأدب العربي الذي احتفل بالأم والأب والجدة خاصة فلماذا الجد بالذات؟ - لست أدري، أو ربما أدري: أنا شخصيا، أحببت جدي، وما زلت أكره جدتي (يرحمها الله!) والجد، في مدلوله الرحب، هو إحدى ركائز المثلث الزمني : هو الماضي والمستقبل (للحفيد) فيما يكون الأب في منزلة بين منزلتين= هي الأسوأ في نظري! * ماذا يمكن ان تقول لنا عن تجربة الترجمة ..وما رأيك حول ما رميت به بعض الترجمات من تقصير أو فشل في بلورة المناخات الأصلية للرواية والقصيدة باعتبار اختلاف الحضارات والثقافات؟ ليس كل من أجاد لغتين مترجما بارعا بالضرورة - الترجمة مشتتة في العالم العربي وعندما تكثر المؤسسات يزداد الأمر سوء. ولمنطق التجارة والربح دور كبير في التساهل مع المترجمين السيئين. وليس كل من أجاد لغتين مترجما بارعا بالضرورة؛ ثمة لحظة مهمة بين اللغتين هي لحظة القدْح... * اهتممت بالنقد ولكن نقدك كان انطباعيا يعتمد على الذائقة فهل هذا موقف من بقية المدارس ؟ وما رأيك في من يقول ان هذا النوع من النقد قد يفرز كتابات رديئة أو يسكت كتابا قد تثبت الأيام تميزهم؟ - اهتممت بالنقد، نعم. لكنني لا أدعي بأنني ناقد. كل ما هنالك أنني أستطيع الذهاب إلى أي نص بما تحصلت عليه من ثقافة شخصية ودراسة أكاديمية في الفلسفة والعلوم الإجتماعية. وحتى تساؤلك: "ان هذا النوع من النقد قد يفرز كتابات رديئة أو يسكت كتابا قد تثبت الأيام تميزهم؟" هو تساؤل ينطبق على كل أشكال النقد، بما فيها النقد الجامعي... * أغلب مبدعينا بلا آراء سياسية أو يعتمدون التقية ولا يسمون الأشياء بأسمائها في كتاباتهم فهل يعقل ان يختفي المبدعون وراء التعابير المجازية ويستقيلون من أدوارهم كمفكرين؟ كتاب بلا مواقف... - حتى اللاموقف هو موقف. وليس مطلوبا من كل كاتب أن يحمل أفكارا بعينها. وقد أدركنا من العالم أن الكثيرين من الكتاب كانوا بلا مواقف وربما تحالفوا مع أعداء الإنسانية دون أن يعني ذلك بخسهم جدارتهم الأدبية. الأدب وعاء واسع لكل أنواع الإيديولوجيات. المهم أن تكون الكتابة جيدة حتى وإن كانت الرسالة "سيئة"! * ما جديدك؟ - مرت سنتان عامرتان بالكثير من الترجمات (مختارات من الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث، وشذرات مختارة من الأعمال الكاملة لسيوران في الأردن، وكتاب نظرية الدين لجورج باتاي في سوريا...) وإعادة طبع بعض الترجمات التي نفدت من الأسواق مثل روايات ماركيز وكاربنتييه وأستورياس وغيرهم ( في كل من لبنان وسوريا). أما في الرواية فقد أصدرت "عتبات الجنة" في بيروت، كما أعدت فيها طباعة رواية "شمس القراميد" التي صدرت منذ وقت قريب. كما أصدرت مجموعة شعرية جديدة عن الهيئة السورية العامة للكتاب بعنوان " ليل الأحفاد" بعد المجموعة السابقة " ليل الأجداد" طبعا... الأجداد دائمًا!