تونس الصباح ظاهريا تبدو برمجة القناتين الوطنيتين تونس 7 وتونس 21 وكأنها منحت الفرصة لجمهور المشاهدين خلال شهر رمضان لهذا العام للإختيار فيما يتعلق بالدراما التلفزيونية التونسية. ثلاثة مسلسلات تمتد على كامل شهر الصيام. «مكتوب» على قناة تونس 7 والذي جاء تتمة لأحداث الجزء الأول من المسلسل الذي عرض خلال رمضان من العام الماضي وورد كل جزء منهما في ثلاثين حلقة (30). مسلسلان على قناة تونس 21، الأول بعنوان «عاشق السراب» تأليف علي اللواتي وإخراج الحبيب المسلماني والثاني بعنوان «أقفاص بلا طيور» تأليف جمال شمس الدين وإخراج عز الدين الحرباوي .وتولت المخرجة سلمى بكار تنفيذ الإنتاج للتفزة التونسية. ظاهريا هناك ثلاثة اختيارات ولابد من الإشارة في هذا السياق إلى أننا لا نقصد بالاختيارات وجود أكثر من فرصة لمشاهدة عمل درامي تلفزيوني خاصة وأن الإنتاج الدرامي التونسي مازال شحيحًا نوعًا ما، بقدر ما نقصد توفر الفرصة لمشاهدة مقترحات فنية مختلفة ومتنوعة. يعني ذلك إن صادف ولم يتناسب هذا العمل مع ذائقة المشاهد فإن هنالك فرصة أن يجد المشاهد ضالته في العمل الآخر. لكن عندما نتأمل الواقع نتفطن إلى أن الإختيارات كانت تقريبًا على مستوى الظاهر فحسب. لا هذا ولا ذاك فما إن يتأكد الواحد من بيننا من أنه لا رجاء في مسلسل «مكتوب» الذي كان عبارة عن تراكم لمآسي الخلق جميعًا حتى يحول الوجهة إلى «أقفاص بلا طيور» الذي بدوره لا يمكن أن يكون الملاذ الأمثل لأن الإنتاج التونسي هذا العام تقرر أن يكون كالآتي: إما أن تقبله دفعة واحدة أو ترفضه دفعة واحدة. لماذا إذن لم نجد مسلسل «أقفاص بلا طيور» الذي تبثه قناة 21 خلال النصف الثاني من شهر رمضان كفيلاً بأن ينسينا خيبة الأمل في مسلسل «مكتوب»؟ وللتذكير فإن المقارنة بين العملين تفرض نفسها لأنه كان ينبغي أن ننتظر مرور العدد الأكبر من حلقات مسلسل «مكتوب» حتى يقع التيقن بأنه ربما قد حان الوقت لتوجيه الاهتمام إلى عمل آخر. حينئذ تكون أحداث مسلسل «عاشق السراب» قد انتهت ولم يبق أمامنا إلا «أقفاص بلا طيور». تدور أحداث هذا المسلسل حول رجل وقع ضحية تحيل بالخارج بإيعاز من صهره ويعود إلى زوجته وابنته بعد انقطاع أخباره عنهما لسنوات طويلة راغبًا في استعادة العائلة وحياته ببلده وطبعًا يسعى إلى تصفية حسابه مع الظالم ولتبرئة ساحته أمام عائلته وأصدقائه. يقوم بأدوار البطولة في هذا المسلسل الممثل أحمد الحفيان الذي عرفناه خاصة في أعماله السينمائية وهو يعيش حاليا بين تونس وإيطاليا وقد شارك في مجموعة من الأعمال السينمائية الإيطالية مؤخرًا. معروف عن هذا الممثل طبعه الهادئ جدًا وطريقة أدائه التي تعتمد على الإيقاع البطيء. لا ننتظر من أحمد الحفيان أن يعلو صوته كثيرًا حتى ولو عاش انفعالات كبيرة .لكن ماذا لو أن العمل بكامله ساير نسق هذا الفنان وعدلت الكاميرا إيقاعها على إيقاع الممثل أحمد الحفيان؟ تحولنا إذن من عمل على غرار «مكتوب» تتراكم فيه الأحداث بكثافة شديدة وإلى درجة يصعب معها التركيز أو الإقتناع إلى عمل يكاد لا يحدث فيه شيء. لا يكاد يحدث شيء في «أقفاص بلا طيور» رغم أن العمل من المفروض أنه يقوم على مؤامرات كبيرة أدت بأحدهم إلى السجن الذي ظل قابعًا فيه سنوات عديدة. لا يكاد يحدث شيء في هذا العمل رغم أن الزوج ترك البيت لسنوات ثم استرجع مكانه في بيته ببساطة وكأن السنين ليست كفيلة بأن تخبئ له بعض المفاجآت. سكون و سكينة تم استعمال تقنية «الفلاش باك» (العودة إلى الوراء) لوصف الأحداث التي لم يسردها المسلسل بشكل مباشر مما جعل التفاعل مع ما هو من المفروض مأساة عاشها الرجل المظلوم صعب للغاية. حتى المشاهد التي تصف مساندة البعض للرجل المظلوم على غرار السيد رشيد حيث يجسّد الممثل هشام رستم دور الرجل المثقف والمتحيز للقيم كانت مشاهد جد متكلفة وغير مقنعة. أما الصراع الذي من المفروض أنه موجود في العائلة الموسعة من أجل الشركة والثروة فعلينا أن نفهمه بالقوة. تعمد المخرج الإيجاز إلى درجة فقدت فيها الأحداث قيمتها. حاول المخرج من جهة ثانية أن يدخل بعض الحركة على العمل من خلال تشريك الممثل المنصف السويسي الذي يتميز بطبيعة متقدة لكن الدور كان ثانويًا و«كاريكاتوريا» تقريبا حتى لو جسّده ممثل في قيمة الفنان المنصف السويسي. الأسماء الشابة المشاركة في هذا العمل تملك بدورها ملامح تجعلها أقرب إلى السكون فكانت السكينة تغلب على مختلف الحلقات. ربما تقوم معالجة المخرج للأحداث على ذلك النسق البطيء الذي يسمح بتأمل الأحداث والشخصيات، وقد ركزت الكاميرا على تقاطيع وجوه الفنانين وكانت عادة ما تضع في الإطار وجه الممثل أو الممثلة بكامل تقاطيعه مما يسمح بالتعرف على انفعالات الممثل عن قرب. لكن وبحكم تواصل نفس الإيقاع كامل الحلقات تقريبًا فإن الملل يغلب على المشاهد الذي من الصعب أن تشده أحداث تفتقد إلى التشويق تماما. لم تنجح كذلك المحاولات في تقديم شخصيات تكاد تكون من كوكب آخر (مقارنة بالسائد في هذا العمل) في استقطاب المشاهد على غرار شخصية «رؤوف» أحد مالكي الشركة المتنازع حولها والتي يجسدها الممثل زهير بالرايس وهي شخصية مقبلة على الحياة ولها رؤية مختلفة حول التفاني في العمل بمعنى أن العمل ليس من أولويات الرجل. ولا يمكن القول إن شخصية محمد علي بن جمعة (موظف بالمتحف) في هذا المسلسل قد أضافت له شيئًا ذلك أن الدور كان هامشيًا وبلا وزن تقريبًا. بالتوازي مع ذلك يجب الاعتراف بأن مسلسل «أقفاص بلا طيور» قد نجح في أمرين اثنين.. ربما لم تنجح عملية «الكاستينغ» جيدا خاصة في توزيع أدوار الأزواج (رؤوف بن عمر/ درصاف مملوك، وحيدة الدريدي/ المنصف السويسي وآمال علوان/ هشام رستم). ولكن المسلسل جمع عددًا من الممثلين المحترفين على غرار أحمد الحفيان ووجيهة الجندوبي (في دور زوجة العائد) وهشام رستم والمنصف السويسي ورؤوف بن عمر وآمال علوان ودرصاف مملوك وغيرهم مما يمنح الشعور بأن هناك سعيا لتقديم تجربة جدية في الدراما التونسية. هناك أيضا مسألة البيئة التونسية. تشعر ببساطة عند متابعة أحداث المسلسل وعبر أماكن التصوير سواء في المنازل أو في الشوارع وفي المقاهي والمطاعم والمشاهد الطبيعية أننا في تونس اليوم. ليس هنالك محاولة لتجميل الواقع أو لتهويله. هناك واقعية واضحة في تقديم صورة المجتمع التونسي المعاصر من خلال هيئة الشخصيات والحوار وكذلك من خلال المواقف وبعض النقاشات التي تطرح حول عدد من الإشكاليات على غرار التعليم والعلاقة مع الأبناء لا سيما البنت والعلاقة كذلك بين الأزواج إلخ. لكن يجب أن يتسلح المشاهد بصبر شديد حتى يتابع كامل أحداث هذا العمل. الخلل يقع في مستوى بناء الأحداث ونسقها بالخصوص إلى جانب التقشف الشديد في الحركة والأحداث حتى يخيل إلينا أحيانا أن بعض المشاهد تكاد تكون هي ذاتها بمعنى أنها تتكرر.