عرفته عن قرب منذ سنوات طوال.. »محراث«.. في مرحلتي الدراسة والعمل.. مُدمن عمل.. ليلا نهارا.. بما في ذلك في الاعياد والعطل.. لا يكلّ ولا يملّ.. لا يطالب بحقوقه ويشتغل.. ولايعترف بكلمة الملل.. يعطي ولا يأخذ.. »عوج« الزمان.. نقل صاحبنا من ميدان إلى ميدان.. ظروف المهنة قذفته من اختصاص إلى آخر.. لم يرفض عملا ولا خطّة وظيفية.. بل لم يسع يوما إلى ترقية أو مسؤولية.. انتهى الامرُ بأصدقائه وأصحابه إلى اليأس من لقائه في المقاهي.. وفي أي نوع من أنواع الملاهي.. قبل أيام فوجئت وأنا أهاتفه بأنّه ابتعد عن مقر وظيفته كيلومترات.. ولم تمرّ على نهاية الدّوام إلا دقائق معدودات.. أصررت على أن أكشف السرّ. قالت لي رفيقة دربه منشرحة:« صحة ليه.. أحالوه على »الفريقو«.. خليه يرتاح.. و«يخدم لهم على قد فلوسهم«.. لقد أصبح له وقت مثل بقية الناس.. ليصطحبنا إلى جلساتنا الخاصة بعيدا عن »الخدمة« ووجع الرأس.. واللي خدموا كلهم ماتوا و« لاباس«.. صديقه »المكتباجي« قال: »لقد عاد إليه نهمُه إلى شراء الكتب والكراسات.. وفتح لديّ حسابا جديدا.. لان »الفريقو« فرصة للمطالعة والقراءات..« زُرتُه في مكتبه.. فلم تكن على مكتبه ملفّات.. بل لم تكن على مكتبه لا أقلام ولا ورقات.. لا كاتبة ولا حاجب ولا زميل قطعوا علينا حديثنا.. وتركيزه كان كلّيا.. ورغبته في أن أظل معه كانت بيّنا.. فلما هممت بمغادرته ضحك.. وصافحني ونبرة الحزن بادية على وجهه قائلا: مع السلامة.. يحيا »الفريقو«.. ثم أضاف ردا على نظرتي الحائرة والمستنكرة: »نعم أنا في الفريقو«.. والارجح أنّني لن أخرج منه إلاّ عندما أحال على التقاعد.«.. اعترتني رجفة.. وارتعش كامل جسدي.. وانقبض صدري.. استحضرت تحقيقات تلفزية عن الانتحارات ومحاولات الانتحار التي تكاثرت في مؤسّسة فرنسية.. وكأنّ صديقي قد قرأ، مرّة أخرى، ما يجول في خاطري.. فاندفع نحوي وهمس في أذني: »لم أحزن لنفسي.. بل أنا حزين لبلدي ولابناء شعبي.. بسبب تكاثر المحالين على »الفريقو«.. غضبت أول الامر من مديري »الفريقوات«.. ومن كل الادارات والمؤسسات.. التي تطحن عددا من أبنائها.. ومن »المسؤولين« الذين يحصّنون كراسيَهم.. بجبال من »الفريقوات«.. وبأن يخلقوا من حولهم الفراغ وبأن يهمّشوا كلّ مجتهد..«. حصل هذا عام 2009.. فهل تغلق كل »الثلاجات« في الادرات.. و«الفريقوات« في المؤسسات.. العمومية والخاصة عام 2010؟ أمنية.. وكل عام وأنتم بألف خير..