لا نستطيع أن نجزم ان كانت سهرة الاربعاء بقصر النجمة الزهراء مع الفنان الباكستاني عاصف علي خان وبطانته في إطار الدورة الثانية لتظاهرة موسيقات تدخل في خانة الاكتشاف بالنسبة للجمهور التونسي أم لا. فالموسيقى الصوفية بمختلف تياراتها وأي كان مأتاها تجد هوى في نفس هذا الجمهور ثم إن عاصف علي خان يسير على نفس النهج الذي رسمه الفنان الكبير الراحل نصرت فتح علي خان الذي يعرفه الجمهور التونسي جيدا وقابله دائما بحفاوة بالغة. العرض إذن وإن كان يقدم لاول مرة فإنه وجد أرضية مهيئة للسماع والقبول الحسن. والحفاوة كانت كما اعتدناها من جمهور يحسن الانصات ولا يبخل بالتحية كلما كان العرض يتماشى مع الانتظارات إذ وقف إثر نهاية العرض واستمر التصفيق للحظات مطولة انتهت بعودة الفنان إلى الركح وإضافة بعض الدقائق استجابة إلى رغبة هذا الجمهور. مدح وحمد وشعر إن هذا التفاعل الواضح وملاحظات الاطراء العديدة التي التقطناها على ألسنة بعض الحضور عند انتهاء العرض تؤكد أنه إن تمكنت"القوالي" هذه التعبيرة الموسيقية الصوفية ذات الاصل الهندوستاني (هندي باكستاني) من اختراق الزمن ويتوارثها جيل بعد جيل على امتداد القرون منذ بداية ظهورها في أواسط القرن الثاني عشر إلى أيامنا هذه فإن ذلك يعتبر دليلا على أصالة هذا اللون الموسيقي وثراء مخزونه وقدرته على التجدد. وفي الحقيقة وإن كنا لا نضيف بقولنا جديدا فإننا نحب أن نؤكد مجددا أن الموسيقى عندما تكون متقنة ووراءها أناس من ذوي الصنعة فإنها لاتحتاج إلى مترجم. قد لا نفقه شيئا من الكلام احيانا ولكن النغمات والاصوات وحالات التجلي والمناجاة ومختلف الاحاسيس تصلنا مع ذلك. لكن لنعترف أن مهمتنا كانت يسيرة نوع ما في سهرة الاربعاء بما أن قسما من العرض كان بلغة القرآن. اشتمل العرض على مدح للرسول صلى الله عليه وسلم (نعت شريف) وحمد لله وقصائد صوفية وقدمت المجموعة هدية إلى الجمهور التونسي تمثلت في أغنية من التراث الصوفي الباكستاني التقليدي. اللغات المستعملة وبالاضافة إلى اللغة العربية تمثلت في الاوردو (لغة الباكستانيين) والبنجابي (إقليم البنجاب) والفارسي. عاصف علي خان وكما سبق وذكرنا يؤدي"القوالي" ويشتق هذا المصطلح من كلمة قول أي الكلام والكلام في هذا السياق قصائد. وقد خضع هذا اللون الموسيقي إلى عدة تأثيرات عربية وفارسية بالخصوص. النشأة كانت وفق ما نقرأ من وثائق مع ظهور الحركة الصوفية في شبه الجزيرة الهندية. كان أتباع الحركة ينشدون قصائد شيوخ الصوفية في مجالس تعقد للغرض. وها أن القرون من الزمن تتواتر ويستمر هذا التعبير الموسيقي في شد الاهتمام بل أن أصحابه يعتبرون سفراء لبلادهم من خلال ترويجهم لهذه الموسيقى الهندوستانية إلى الخارج التي تجد الحظوة أينما حلت. أصوات رخيمة تخاطب الروح قد يوحي ما سبق بأن العرض هو مجرد ذكر ومدح وحمد ولكن في الحقيقة هو عرض موسيقي متكامل. بطانة عاصف علي خان تتكون من والده وإخوته الستة. ترتدي الفرقة بكامل عناصرها اللباس التقليدي الباكستاني ومعها كانت تحمل عطر الشرق الذي يبقى محتفظا لدينا بذلك السر الذي يجعله في أعيننا مثيرا للفضول وللاعجاب وللتساؤل. حضارة رهيبة ضاربة في عمق التاريخ وثقافة شاسعة وتشبث بالهوية والاصالة إلى حد الدهشة. تم في هذا العرض استعمال نوعين فقط من الالات الموسيقية: الطبلة والارمونيوم وهي آلة تقليدية هوائية وإليها يعود الفضل في إصدار الاصوات الشجية. كان هناك تناغم في الاداء. جل الاصوات تقريبا رخيمة ورقيقة إلى درجة تهدهد الانفس. المراوحة بين ايقاع الطبلة وأصوات الارمونيوم كان لها دورها في تخليص العرض من الوتيرة الواحدة. لا يدخل هذا العرض الموسيقي بالطبع في خانة العروض الفرجوية وإن كان يحلو لنا في العادة متابعة حركات أيدي المنشدين والعازفين ومراقبة تعابير وجوههم التي تكشف حالات حسية مختلفة فنرى أحيانا الانتشاء والفرح وأحيانا تشتد قسمات الوجه فنلاحظ الوله والوجع إلخ ولكن القوالي يبقى فنا نستقبله من الاعماق نطرب ونهتز لما نسمعه. فن يخاطب الروح ويثير في المستمع الاشواق ويأخذه بعيدا فيستسلم للمشاعر والحالات العاطفية التي تتولد فيه في حينها. قد تكون حالات شجن وحزن وقد تكون حالة رضا عن النفس وقد تكون لحظة قسوة معها. ليس ذلك مهما المهم أن تقوم الموسيقى بدورها وتغسل بعض الادران العالقة لدينا. ولهذا السبب على الارجح قرأنا على وجه الجمهور المغادر لبهو النجمة الزهراء علامات الامتنان لعاصف علي خان وبطانته. مع العلم أن الدورة الثانية لتظاهرة موسيقات التي يشترك في تنظيمها كل من مركز الموسيقى العربية والمتوسطية النجمة الزهراء ومؤسسة سكوب لتنظيم العروض ووضعت تحت اشراف وزارة الثقافة والمحافظة على التراث كانت قد انطلقت في سهرة 19سبتمبر الماضي وتتواصل إلى غاية 6 أكتوبر الجاري وهي تظاهرة تعنى بالتعابير الموسيقية التقليدية أو المستلهمة من التراث. وقد عرفت التظاهرة وإلى حد الان إقبالا كبيرا فاق ربما درجة الاقبال بالنسبة للدورة الاولى العام الفارط التي اعتبرت بدورها دورة ناجحة.