بعد عرض القوالي للفنان الباكستاني عاصف علي خان وبطانته اقترح منظمو تظاهرة موسيقات في نسختها الثانية التي تقام بقصر النجمة الزهراء على الجمهور سهرة خاصة بالموسيقى الكلاسيكية الإيرانية التي تعرف بالرديف، كان ذلك ليلة الخميس الماضي. ولئن كانت تجمع بين السهرة الأولى والثانية أكثر من علاقة من بينها خاصة الجغرافيا والخلفية الموسيقية إذ لم نخرج من أجواء الشرق وأجواء الموسيقى الصوفية فإنه كان لسهرة الخميس طعم خاص. فقد كانت كلها مهداة إلى مولانا جلال الدين (يفضل الإيرانيون الوقوف عند جلال الدين وبالتالي تجنب كلمة الرومي فهو فارسي ووصف الرومي يبدو لهم في غير محله) لذلك عندما أعلن علي رضا غرياني الخبر حرص على عدم نطق الرومي بقي أن الرجل معروف على مستوى عالمي بتسمية جلال الدين الرومي. لماذا كان للسهرة إذن مذاق خاص؟ كان الأمر كذلك لأن ذكر اسم الشاعر الصوفي الكبير جلال الدين الرومي الذي يملك أضخم ديوان شعر صوفي (حوالي 27 ألف بيت شعر) لوحده يعلن على لون العرض وعنوانه. فمن غيره ينشد أجمل الكلام وأرقه في الحب وفي الحب الإلاهي تحديدا. هي دعوة إذن السباحة في فلك بعيد. فلك تسمو فيه الروح وتنآى بشوقها إلى خالقها. ولد جلال الدين الرومي في بداية القرن الثالث عشر ميلادي وتوفي بعد سبعين عاما قضى اغلبها في الدراسة والعلم والابداع. مرت قرون عديدة على رحيل الشاعر ومازال زوار قبره بقونية بتركيا يبكون مولاهم. عرف جلال الدين الرومي الهجرة وعاصر عصر انحطاط الاسلام واكتساح المغول لبلاده وكان يكابد وفق ما نقلته بعض الروايات ووفق ماكتبه من أشعار الشوق للأرض التي اقتلع منها (بلخ أو أفغانستان اليوم). لذلك كانت في أشعاره مسحة حزينة تترجم عنها آلة الناي كأفضل ما يكون. وهكذا فقد احتلت هذه الآلة مساحة شاسعة في عرض علي رضا غرياني وذلك أمام ترحاب شديد من قبل الجمهور. اشتمل العرض على ست مقطوعات تطرقت إلى أغراض معروفة لدى جلال الدين الرومي كالعشق والوله وحب الإله والصداقة والتأمل في الطبيعة إلخ. الصوت المصقول والألحان العذبة برز الفنان علي رضا غرياني بصوت مصقول إذ تصدر من حنجرته الكلمات ألحانا ونغمات الشيء الذي يغنينا عن البحث في فحوى ما يردده. لكن مخارج الحروف كانت واضحة والصوت مهيمنا ومن الطبيعي أن يكون كذلك وقد تربى هذا المنشد على تجويد القرآن الكريم. كما أن آداء الرديف (الموسيقى الكلاسيكية الإيرانية) يتطلب التحكم في التقنيات والتمتع بخصال عديدة من بينها جمال الصوت والقدرة على الآداء في طبقات مختلفة تمكن صاحبها من اضفاء لمساته الخاصة تماما كما نلاحظه في الأغنية الطربية العربية.. استمع الجمهور خلال العرض إلى ألحان شذية ورقيقة وكانت الفقرة التي أنشد فيها علي رضا غرياني رفقة عازف الناي فقط تقطر عذوبة. ثم فسح المجال للعازفين لتقديم تقاسيمهم بشكل منفرد. الفرقة التي تتكون من أربعة عازفين يعزفون على آلات الإيقاع والناي وما يطلقون عليها آلة الكامانشي تشارك أيضا في صياغة الألحان. جل الألحان تقريبا كانت في مقام النواه باستثناء واحدة قال عنها الفنان علي رضا غرياني أنه استعمل نفس المقام مع ادخال بعض التغييرات. القطعة تحمل عنوان "دار آشاغي" وهو مايعني تقريبا موضوع العشق. لا بد من التذكير أن علي رضا غرياني من الجيل الجديد للرديف الإيراني. وهو يعتبر أحد المختصين البارعين في هذا اللون الذي ظل يتناقل بطريقة شفوية عن طريق شيوخ هذا الفن. كل عناصر المجموعة من جيل الشباب أيضا وهو ما يعني توفر حظوظ الحفاظ على هذا الفن الأصيل من التلاشي. جمهور النجمة الزهراء كان في الموعد كعادته منذ انطلاق المهرجان في سهرة 19 سبتمبر الماضي كله رغبة في اكتشاف تجارب موسيقية مختلفة. هذا إن اعتبرنا أن الموسيقى الإيرانية تعتبر اكتشافا والحال أن الثقافة الإيرانية العريقة تحظى بكل تقدير في العالم وهي مصدر للتأثير في عدة ثقافات أخرى خاصة لدى جيرانها العرب.