بقلم نبيل خلدون قريسة (وَقُلْ جَاءَ الْحَق وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِن الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) صدق الله العظيم. لم أكتب كلمة واحدة في الصحافة التونسية منذ سنة 2008. كنت أنظر إلى المشهد الذي اكتشفت حقيقته وتوقعت انفجاره في أي لحظة بحسرة وألم زادهما شدة ما أصابني من الظلم والحصار، ولم تكن مصيبتي أكبر من غيري لكنها استدعت مني جهدا نفسيا وفكريا وصبرا وجَلَدا لتجاوزها بوسائلي المتواضعة. لقد كتبت الكثير منذ سنة 1994 في صحف مختلفة داخل تونس وخارجها وساهمت في منابر سمعية/بصرية وفضاءات حوار متنوعة منبها في كل مرة إلى الاخطار المحدقة بحركة التغيير المعلنة في بلادنا آنذاك من داخلها وبفعل عوامل ذاتية أكثر مما كان يتردد بشكل مبالغ فيه من العوامل الخارجية. تحدثت عن انهيار القيم والمبادئ وانحرافات «الاصلاحات» التي كانت تنفذ على أرض الواقع في مختلف القطاعات وخاصة في مجالي التعليم والبحث العلمي وكذلك الثقافة فيما كان مخالفا تماما للخطاب الرسمي المنمق والمجمل. لقد كان هذا الخطاب الرسمي (الرئاسي دوما) مستحوذا على المطالب المشروعة للقاعدة الشعبية وللمثقفين في آن واحد، وكان يهدف بالفعل إلى إغرائهم واستقطاب دعمهم ومساندتهم. لكنه كان في كل يوم جديد يفعل عكس ما يقول ويجهض الاحلام والامال التي ولدها بالامس. تحدثتُ عن اشكاليات الثقة والحرية والمواطنة والديمقراطية وقضايا التنمية والعولمة والتحديث وغيرها، وكان آخر ما تعرضت إليه قضية تشغيل حاملي الشهادات مع التركيز على ضرورة إيجاد حلول شاملة وجذرية تحمي كرامة شبابنا العاطل الذي أصبح يلقي بنفسه إلى الموت في البحر أو يلتجئ إلى العنف والانتحار ودعوت إلى عقد اجتماعي وسياسي جديد في تونس. لكن لا حياة لمن تنادي. لستُ تجمعيا ولكني أعرف التجمع من قريب وأعرف عددا من التجمعيين، أعرف أنه كان في الاصل فكرة توافقية بدت للبعض تصالحية اعتمدت على احتواء مناضلي الحزب الدستوري في صيغته البورقيبية، ثم سرعان ما تحول إلى جهاز خطير للفرز والاقصاء والتغييب، فراح ضحيته أفضل الكوادر المناضلة في الحزب الدستوري وعوضهم أسوء الطفيليين والانتهازيين. لذلك، بقيتُ خارجه ورفضت كل الاغراءات للالتحاق به ودعم توجهاته الاستبدادية وآخرها الدعوة إلى التمديد للرئيس السابق. وعندما دخلت إلى بنايته الجديدة مدعوا من وزير التعليم العالي في إطار خطتي مديرا للمعهد الاعلى لتاريخ الحركة الوطنية، فوجئتُ بل صُعقتُ من الفراغ الانساني الرهيب داخل ذلك الصندوق الاسمنتي المستفز وتأكدت أنه لم يعد هناك حزب بل هناك شبح مخيف أو جثة هامدة تُنهش باستمرار. لذلك أقول بكامل الموضوعية أن حل هذا الحزب أو انحلاله أصبح أمرا ضروريا حتى يتحرر من تبقى فيه من المناضلين الدستوريين المخلصين للقيم الوطنية الاصيلة والمبادئ الجمهورية فيستعيدون حياتهم الحزبية الحقيقية التي حُرموا منها طوال عقدين من الزمن في إطار حزبي جديد يستلهم روحه من النضال الدستوري المتجذر في التربة الوطنية التونسية التي تعود إلى ما قبل الاستقلال وحتى بدايته. وسيكون لهم من الوقت ما يكفي حتى يعيدوا صياغة هذه الروح ويجددوا بنيتهم الحزبية الجديدة خارج حسابات الكراسي والتلهف على المناصب التي قضت على نضاليتهم الحزبية وفرضت عليهم شرذمة من الانتهازيين والوصوليين واختطفت من بين أيديهم هياكلهم الحزبية التاريخية. وتبقى تونس في حاجة إلى الحزب الدستوري الاصيل لا إلى أي حزب شكلي يحمل هذا الاسم ويقدم نفس الوجوه ويعيد إنتاج نفس الممارسات المشينة التي عانى منها المناضلون الوطنيون داخله وخارجه. إن هذه الثورة القائمة في تونس اليوم، ثورة الكرامة والحرية والعدالة، أمر عظيم يعبر عن معدن التونسيين الحقيقي، معدن الرجولة والشهامة والاباء والاخلاص للوطن، لذلك لا نعجب أنها نبعت من مناطق الرجولة والاباء التي كافحت الاستعمار بدون حسابات وساهمت بدمها وعرقها في بناء دولة الاستقلال، لكنها بقيت تعاني تركة تاريخية ثقيلة من اختلال التوازنات بين المناطق الساحلية والمناطق الداخلية لم تفلح جميع السياسات التنموية المنتهَجة بعد الاستقلال في إصلاحها نظرا إلى ركونها إلى الحلول السهلة وعدم اعتمادها على الكفاءات من الاختصاصات غير التكنوقراطية في مجالي التخطيط الاستراتيجي والدراسات الميدانية، وأعني بها بالخصوص اختصاصات العلوم الانسانية المقموعة. وقد عشتُ تجربة معبرة عن هذا الضيم الكبير عندما كنت مديرا للمعهد الاعلى لتاريخ الحركة الوطنية لمدة سنة واحدة، أقصيت بعدها من إدارته بصورة متعجرفة مهينة في ظروف لم أكن أقدر على الافصاح بها إلا لبعض المقربين، حتى جاء هذا اليوم الذي سمح لي فيه أبنائي من التلاميذ والطلبة الذين وهبت لهم كل طاقاتي، مثلي مثل أعداد كبيرة بل أجيال من المربين في تونسنا العزيزة، بفضل ما قدموه للوطن من تضحيات حاسمة وفي مقدمتهم الشهيد محمد البوعزيزي، كي أبين بأن جوهر المأساة التي تعيشها تونس اليوم تتمثل في العلاقة المختلة بين المنظومة التعليمية والابداع الثقافي والاعلامي من ناحية والفعل الاجتماعي (السياسي وقبله الحق الطبيعي في الشغل) من ناحية ثانية، بحكم احتكار الادارة الاخطبوطية المتعسفة لمحور هذه العلاقة، بما ولد تعطل المشروع الانساني في مستوى كل واحد من هؤلاء الشباب المجاهد في التحصيل التعليمي ثم العاجز عن تفعيل ذلك الجهد وتحقيق أحلامه وطموحاته المشروعة. هذا هو جوهر المأساة، وهو ما يفسر انعدام الثقة الحاصل اليوم بين الشباب ومحيطهم الاجتماعي والسياسي. يجب علينا ألا ننسى أو نتناسى أن شبابنا من التلاميذ والطلبة كانوا هم وقود هذه الانتفاضة ومحركها الاساسي وأنهم عبروا بصريح العبارة عن درجة الوعي التي بلغوها في الوقت الذي بقي المجتمع بمؤسساته ونخبه الثقافية والسياسية غائبا عن الوعي بما يجري على أرض الواقع أو عاجزا عن تحريكه نحو الاتجاه الصحيح. لقد كان هذا الشباب على وعي بخطورة بقاء الوضع على ما هو عليه بما يصادر حقه في العيش الكريم بل مستقبله بأكمله، وضعٌ تميز باستبداد المسؤولين الاداريين في كل المستويات واختناق الفضاءات الجامعية والثقافية لانعدام الحرية واحتقار المبادرة الفردية وقطع الطريق على أفق التشغيل بفعل استحكام ممارسات الاستهتار واللامبالاة والرشوة والمحسوبية الخ.. ولعل قضية «الكاباس» وما أدراك ما «الكاباس» والرشاوى الخيالية التي التصقت بها تغْني عن كل تعليق. وفي المقابل، نجد هذا الشباب المثقف الذكي يستغل أفضل استغلال سلاح الوسائط الاتصالية الحديثة للالتفاف على هذا الاخطبوط الاعمى وتوليد خطاب حداثي متقدم أشواطا على الواقع الاعلامي المحلي سمح لهم بتفجير طاقاتهم الابداعية والتعبير عن رفضهم للواقع المغلق والافق المظلم. لقد عشتُ تجربة أليمة في هذه الادارة التونسية ومعها، خبرتُ من خلالها أن المشكل لا يكمن في الاشخاص رغم تحميلنا لبعضهم مسؤولية ما جرى، ولا يكمن فيما يطلق عليه بالنظام، وهو النظام الجمهوري الذي لا نريد له بديلا، وإنما يكمن في المنظومة السياسية والادارية المتعفنة، المبنية على عقلية منحرفة نجدها متلبسة بها وقد ازداد انحرافها مع تكثف طبقة تراكمات الانانيات والمصالح الضيقة والاطمئنان إلى عدم المحاسبة وغياب المراجعة الجذرية للممارسات بل وللقوانين والتراتيب المنظمة لهذه الادارة وخاصة لهيكلية أخذ القرار فيها الذي بقي تفرديا استبداديا قاهرا دون وسيلة للردع واسترجاع الحقوق، وكأن المناصب الادارية ملكيات خاصة أو إقطاعات مستحقة عوض أن تكون مسؤوليات حقيقية تجاه المواطن يحاسِب عليها هذا المواطن كل موظف ويُحاسَب الموظف مهما كانت رتبته من قبل هياكل الموظفين الاخرين فضلا عن المواطنين. كيف يمكن أن يدلس الكاتب العام إمضاء مديره ويخفي رئيس الجامعة أدلة الجريمة المادية ويغطي موظف سام على بقاياها ثم يطرد الوزير المدير لكونه لم يستسلم للاغراءات والتهديدات وبقي صامدا وحده يصارع العواصف من كل مستويات الادارة؟ هل هذا الذي جرى لي شخصيا أمر طبيعي في وزارة التعليم العالي؟ يشهد الجميع أني خدمتُ زملائي الباحثين بالمعهد بكامل الاخلاص ونكران الذات بما أعطى صورة متألقة لهذا الصرح العلمي هو بها جدير، كما خدمتُ الاعوان الاداريين بنفس الصدق دفاعا عن حقوقهم وحفاظا على كرامتهم، ورفضتُ جميع الضغوط التي كانت تدفع بي إلى مخالفة القانون والتستر على التلاعبات بالمال العام، إلا أن ذلك لم يرُق للمتنفذين داخل المعهد وخارجه فأقصيتُ منه. ثم جاءت المصيبة الاكبر أن عمدت وزارة التعليم العالي إلى إلغاء شهادة دكتوراه الدولة بصورة مهينة للعلم ورجاله لم يكن أحد من الباحثين -وعددهم أكثر من مائة وخمسين على حد علمي- ولا العمداء ولا المشرفين يتوقعها، إذ تحول التاريخ النهائي للايداع فجأة إلى تاريخ نهائي للمناقشة فأُسقط في أيدينا. وبعدها تكرمت الوزارة بالسماح بالمناقشة لمن أودعوا رسائلهم قبل ذلك التاريخ، ولم تلتفت إلى حالة الاخرين وأنا من بينهم، وكثير منهم خدم الادارة وتحمل المسؤوليات الجامعية المختلفة وأطر أجيالا من الباحثين الشبان لفترات طويلة عطلته عن إتمام بحثه المعمق بالسرعة التي كان يأملها، وكأن الجامعة التونسية في غير حاجة إلى كفاءاتها العليا ولا إلى زبدة بحوثهم التي عانوها لاكثر من عشر سنين وأحيانا حتى عشرين سنة. لقد بلغت الممارسات التي عشناها في الجامعة في السنوات الاخيرة بالخصوص حدا لا يُطاق من التعسف والاستبداد وإقصاء الكفاءات أو تهميشها أو تعطيل ترقياتها وكسر طموحاتها من بين الاساتذة والطلبة والاعوان على حد السواء بما أحدث حالة عامة من الاحباط والاحتقان نراها اليوم تنفجر. وبلغ حد استخفاف الادارة أن حرمت بعض الاساتذة من جراياتهم لمجرد المطالبة بحقوقهم المشروعة. ولكن كل ذلك وغيره كثير كان للاسف على أيدي زملاء لهم جامعيين تحملوا مسؤوليات القرار المستبد داخل الادارة وفي مواقع النفوذ. وبذلك تاهت «الاصلاحات» الجامعية في أنفاق المزايدات الانانية والتصورات الاعتباطية والممارسات النفعية بما قتل جذوة الابداع الفكري وهمش مشاريع البحث العلمي وجعل التدريس نفسه ممارسة سطحية بدون هوية ولا بوصلة، ما نتج عنه انقطاع تام مع الواقع التشغيلي والاجتماعي والثقافي والسياسي. وفي مستويات أخرى من الادارة والمشهد السياسي والاجتماعي نلحظ نفس العقلية الاقطاعية التي كانت تسعى إلى الدفاع عن مصالح مهنية أو فئوية ضيقة على حساب القطاعات المهنية الاخرى أو دون مراعاتها وكأن المركب لا يسع إلا الفئة القليلة المحظوظة ولا يحث في وقت الازمة على التضامن والدفاع عن المصالح المشتركة والبحث عن صيغ التوافق الجماعي في مواجهة المخاطر المحدقة بالجميع دون استثناء. وقد سمح هذا الوضع المأساوي بكل ما شهدناه من التجاوزات والتخريب الممنهج للقيم والمبادئ الوطنية والمواطنية، إلى أن أصبح المجتمع التونسي بأكمله تحت وصاية من الانتهازيين والمنافقين من أشباه المثقفين والجياع المتعطشين إلى النهب والسرقة، وكأنه رجل يمشي على رأسه الجهلةُ فيه على سدة القيادة والعلماء والمثقفون المبدعون منبوذون مسحوقون في الاسفل، بما أغرق المركب بمن فيه جميعا في لجة العنف والفوضى. لم يعد ممكنا اليوم في نظري أن يزايد أحد على غيره من التونسيين، فالجميع مساهم بدرجات متفاوتة في تدعيم عقلية الاحتقار والتسلط والانانية الضيقة والغش والنفاق والمحسوبية والتزلف ورفض الاختلاف. وإني أرى أن التغيير الجذري لهذه العقلية هو الهدف الحقيقي والاسمى لهذه الثورة المباركة وإن كان هدفا صعب المنال، كبير التضحيات، إلا أنه يجب أن يتحقق ولو على مراحل. لقد آن الاوان كي نغير مقولة (لا يُعذر مواطن بجهله للقانون) فتصبح كالتالي: (لا تُعذر الادارة بجهل المواطن للقانون) بمعنى أن يصبح المواطن هو الهدف من سن القانون لا مجرد خاضع له، فتتحمل الادارة مسؤوليتها في خدمته والسهر على حفظ حقوقه حتى وإن لم يكن على علم بها، بل يصبح من أوكد واجباتها إعلامه بها وتثقيفه على كيفية التمتع بها، ذلك هو المعنى الحقيقي لثورة الكرامة في تونس اليوم. الثورة مثل كرة الثلج، بل مثل موج البحر، ينطلق موجة هادئة ما تلبث أن ترتفع فتتحول إلى ما يشبه موج «تسونامي» ثم قد تنتهي إلى ما لا يُحمد عقباه: طوفانا غامرا لا يُبقي ولا يذر. فلتنحسب من القادم، ولنلتزم باليقظة التامة ولا ننشغل بالانتقام والتشفي بما يعمينا عن الاصلاح الحقيقي وإعادة الحقوق إلى أصحابها في إطار الشرعية والشفافية، ولنحافظ بالخصوص على مؤسساتنا ومكاسبنا التي بنتها أجيال من المناضلين واضعين في الحسبان أنّ انتفاضة اليوم ستكتمل ثورة فعلية عندما تنجح في زحزحة كتلة العقليات والسلوكيات المناقضة لمفهوم المواطنة ولقيمتي الكرامة والحرية. فالدولة التونسية عريقة تاريخيا ومؤسسات المجتمع بصفة عامة متجذرة ولا مصلحة لاحد في التشكيك فيها جملة وتفصيلا إلا إذا كان من دعاة الفوضوية الايديولوجية العمياء. وما الحديث عن مراجعة الدستور أو القوانين الانتخابية أو إعادة تركيب الحكومة وغير ذلك إلا دعوة إلى إعادة صياغة ما هو قائم على أسس تاريخية راسخة بصورة واقعية ووفق المبادئ العقلانية، أما أفق الثورة فهو يكمن في الحقيقة في مستوى ما ذكرناه من ضرورة تغيير العقليات السلبية وبالتالي الممارسات المشينة وضمان المؤسسات المختلفة من خلال التشريعات الجديدة لعدم إعادة إنتاج نفس تلك الممارسات, وقد كان عبد الرحمان الكواكبي نبه إلى أن شجرة الاستبداد تُبقي بعد قطعها جذورها التي تعاود بواسطتها الظهور من جديد. ولننتبه أخيرا إلى أن لا شيء يُبنى في الفراغ، وأن الديمقراطية مجرد آلية وليست هدفا نهائيا، وأن الحرية أعظم المكاسب التي يكافح من أجلها الانسان منذ ظهوره على وجه الارض، لكنها في نفس الوقت أمانة كبيرة، وعندما تُفتك - وهي لا تُهدى أبدا - تكون كالجمرة الحارقة لا بد أن تُضم إلى القلب العاشق للوطن وتُدمج في الضمير المخلص له قولا وفعلا حتى تصبح بردا وسلاما وأمانا. أستاذ التاريخ بكلية الاداب بمنوبة