البلاد تنزلق نحو الهاوية !...كلمة تتكرر كثيرا على لسان الجميع من مواطنين عاديين وخبراء وصحافيين وسياسيين.. أعدادٌ لا تحصى من تقارير ومقالات وتعليقات..ولكن المستغرب حقا هو أن الجميع،حكومة ومعارضة،لا يهمهم ولا يعنيهم الإصلاح بل ينقبضون من مجرد سماع مبادرة إصلاحية لتغيير وجهة السفينة التي تتقاذفها العواصف ولكن..هل أن تلك التحذيرات والتعليقات هي شفقة وطنية أم تشف وتشوق لرؤية الكارثة !!فكثيرا ما سمعنا كلمات غير مسؤولة: البلاد تحتاج ثورة ثانية !..فلا يخفى على ذي عقل وذي أدب أنّ هذه «الثورة الثانية» المزعومة لن تكون سوى انفلاتا نهائيا وصوملة.. إنّ كل الذين يرفضون الوفاق (من داخل السلطة ومن خارجها) يدفعون،صراحة أو ضمنا، إلى هذا «الحل»..والعجيب أننا كثيرا ما سمعناهم يُنشدون: فلا عاش في تونس من خانها ***ولا عاش من ليس من جندها.... ما يذكرنا بالمقولة « tout acte manqué est un discours réussi» عقلية النفاق التي استشرت زمن المخلوع..وهو ما يثير دهشة التساؤل: هل إلى هذه الدرجة أفسدَنا حكمُ التجمع «الدستوري.. الديمقراطي» !؟ لماذا نحن سلبيون وأنانيون وعنيدون إلى هذا الحد حتى مع وطننا وشعبنا؟ !..وقد يقول قائل: شيء طبيعي أن يوجد عداء بين ثلاثي يحكم وأغلبية «مغبونة».. فمن ناحية :»الدنيا غرورة» ومن ناحية ثانية:(كل ذي نعمة محسود) !..ولكن هذا ليس المبرر الصحيح لأن التجاذب والعناد والأنانية نجدها أيضا في نفس الحزب الواحد وقد توصِل أحيانا إلى التشاتم والتلاكم ، والدليل ظاهرة التشظي المتزايدة..نتساءل من جديد: لماذا الشعب التونسي هكذا؟! هل كان التجمع شيطانا رجيما إلى هذا الحد؟! والجواب :نعم! التجمع لم يكن سوى مؤسسة إفساد فكري وسلوكي ممنهج.. قبيل 14جانفي ،و قبيل عودته من فرنسا بأيام ، أرسل احد كبار سياسيينا مقطعا عبر الفايسبوك وخلاصته:»..الديكتاتور سيسقط في مزبلة التاريخ .. ولكن بعد ما افسد البلاد والعباد فجعل من الأنانية والتحيل والكذب والخداع.. صورة مثلى.. علينا أن نتجاوز هذا!» لقد كانت كلمات بليغة ودقيقة وفاضلة وعلى حق تماما، فمن منا لا يذكر أننا كدنا أن نيأس من شعبنا ،حتى كان مجرد التعبير الصادق عن موقف سياسي أو اهتمام بالشأن العام ناهيك عن النضال، ضربا من السخافة و»الدروشة».. ولكن الآن هل بقي لنا من مبرر بعدما أنجز شعبنا ثورة تاريخية رائدة ونقية؟ !!!.. الآن انقلبت الصورة 180درجة فصار الشعب هو اليائس من انغلاق وأنانية ودهاء النخب الحزبية والسياسية ، في الحكومة وفي المعارضة، فقد أصبح مجرد التعبير الصادق عن موقف سياسي أو اهتمام بالشأن العام ناهيك عن النضال، ضربا من السخافة و»الدروشة».... أعود من جديد إلى المبادرات الإصلاحية:لقد نشرتْ لي هذه الجريدة المحترمة بتاريخ 8ماي مقالا بعنوان « دعوة إلى إنشاء برلمان توافقي»..ولا اذكر أنني وجدت تفاعلا أو حتى ردا عليه سوى واحد فقط جاء فيه:»..البرلمان لا يشكل بهذه الطريقة..أنت ضد حكم الإسلاميين..» ورغم أنني سبقتُه إلى نقد نفسي، اشكره على كل حال على الاطلاع والاهتمام..ولكن أقول له كلمة ويبدو انه كما كتب بقلمه»إسلامي» :أنت شديد التمسك بالأنماط والقوالب الغربية شديد التناسي للسيرة النبوية والمحمدية، ومنها توفيقه بين القبائل التي كادت تتناحر على أحقيّة وضع الحجر الأسود في جدار الكعبة المشرفة !.. ومن ناحية أخرى انه على هؤلاء «المنتصرين» أن يدركوا أنّ الشعب التونسي لم ينتخبهم لولا اعتقاده في إيثارهم و في نقاء ضمائرهم على منهج سيدنا عمر (لوعثرت بغلة في العراق لسألني الله عنها : لِمَ لم تمهد لها الطريق يا عمر..) ولكننا نرى الآن الشعب التونسي بأكمله عاثر...كل يوم نكبات وجرائم وحسرات!..ولكن... لا سبيل إلى القبول بتعديل المسار ولو سقطت البلاد بأكملها! وعلى كل حال ربما تكون فكرة برلمان توافقي ليست هي المثلى(رغم أنها لا تمس بوظائف الوزراء،على عكس حكومة الوحدة الوطنية، وإنما تسندهم و..تراقبهم طبعا..) ولكن ومهما تختلف التصورات فانه لا مهرب من الوفاق الوطني للخروج من هذا المطب الخطير..فقد سببت الانتخابات محاصصة بعيدة كل البعد عن الواقع الموضوعي الذي يستوجبه توازن البلاد..ففي مرحلة بالغة الخطورة عزلتها عن أغلبية الشعب ووضعتها في حكم الأقلية.. (وهذه حتمية الحزبية..الحزبية الاعتباطية)..إن ّ تونس ليست أرنبا حتى تُرفع من أذنيها..انه من رابع المستحيلات رفع زرافة من أذنيها.. إنّ من أكبر المصائب التي حلت بالعرب هو تقليدهم الأعمى للغرب ،تقليد خال من أية حرية إلى درجة توحي بأنهم قد جُبلوا على كل ما هو معوج وهجين (ما أتى به الغرب فخذوه وما تركه فاجتنبوه).. إنّ الحزبية التي نجحت في الغرب قد تسبب كارثة للعرب لأسباب عدة ومنها اثنان: 1) ليس للحزبية مبرر واقعي وإنما مزاجي «طائفي» غير مجد ويتعارض مع الدين الذي ينهى عن التفرّق والصراع (ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية..) 2) من ناحية مادية: لا سبيل إلى مقارنتنا بالمجتمعات الغربية (خُمس العالم يستأثر بأربعة أخماس الثروات العالمية !) دول فيها الانتخابات «نُزهة»..يفوز من يفوز وهو مبتسم ويخسر من يخسر وهو أيضا مبتسم.. وهكذا فانه بقدر ما يعاني العالم الثالث من ديكتاتورية الحزب الواحد فان تعدد الأحزاب، في غياب حكمة التوافق، يمكن أن يجر إلى ما هو اخطر... إننا مُجبرون فعلا على مسايرة العالم ولكن غير مجبرين على التخلي عن أصولنا وعقولنا والتنكر لواقعنا وإمكانياتنا المادية والسلوكية....إن الحزبية شر «لا بد منه» ولكن ظروفنا المادية وأصولنا الثقافية تحثنا على أن لا نتخذ من الاختلاف والتنوع تصادما وإنما تكاملا وتعاونا.. ختاما :إن الذين يحلمون بسقوط الحكومة أو بانتهاء المدة لخلافتها هم واهمون تماما لأنّ حلمهم يوم يعتلون «أرجوحة الحكم» لن يجدوه سوى كابوسا وغثيانا..كمصارع غرّ يمتطي ثورا هائجا... كمن سبقهم بل أدهى وأمر !!..وهكذا بالتناوب يستمر تدمير الوطن على آخره.. إننا فعلا قد وقعنا في مطب صراعات حزبية متسلسلة خطيرة... فأين المفر من الوفاق !؟ رائف بن حميدة