لقد علمنا التاريخ أن الثورة هي القطيعة مع الماضي، وهذه القطيعة لا تقتصر على تجديد المؤسسات والهياكل والأنظمة القانونية، وإنما وهو الأهم من تغيير العقليات والمرجعية المعرفية تفكيرا وسلوكا. ولعل البعد النفسي لثورة أهم من بعد المؤسساتي، فالثورة يجب أن تغيّر بنية العقل ونظام القيم وكيفية النظر للأشياء وتقدير الامور بشكل جديد ينسجم مع اهداف الثورة لا سيما التوق إلى الحرية. وفي هذا الإطار ما يتخذ من تدابير وإجراءات لتحقيق أهداف الثورة لا بد أن ينظر إليه من زاوية فلسفة الثورة في ضخ طريقة تفكير جديدة ومنهج مختلف عما كان سائدا، كل ذلك في سياق تنسيب يراعي معادلة أو هامة هي ثنائية الثورة والثورة المضادة. وفي هذا الإطار لاحظت كمتابع للشأن العام أحد أبرز التدابير التي تم اتخاذها تجسيما للثورة، هو إحداث لجنة الإصلاح السياسي والتي لا ننسى أنها أحدثت بقرار من الرئيس المخلوع وهو جانب رمزي لم ننتبه إليه رغم أهمية نسب وأبوة هذا الإجراء إن كان يمثل الابن الشرعي للثورة أم الابن الطبيعي للثورة المضادة؟ وخطورة أهمية هذه اللجنة تكمن في كونها، خلافا للجنتي التقصي في شأن الأحداث والتجاوزات والرشوة والفساد اللتين تعنيان بالماضي، موجهة نحو مستقبل الثورة. لكنّ المتمعّن في تركيبة هذه اللجنة يجد نفسه مسيجا بأفكار وهواجس محيّرة ومخيفة تجعله يفرك عينيه أكثر من مرة ليتثبت إن كانت الثورة حقيقة أم مجرد أضغاث أحلام. بمجرد قراءتي لتركيبة اللجنة تذكرت عنوان الرواية الشهيرة لfrançoise sagan «صباح الخير يا حزني» bonjour tristesse وداهمتني مصطلحات كم تمنيت لو حذفت من القاموس السياسي وهذه المصطلحات هي: المصطلح الأول: يعرف باللغة الفرنسية بle copinage ويعرف بأنه: » la pratique politique qui consiste à nommer à un poste une personne non sur un critère de compétence mais parce q?elle est une amie »ويمكن ترجمة هذا المصطلح بعبارة المحسوبية favoritisme والتي تعني تعيين شخص في منصب بناء على أهمية العلاقة الشخصية التي تربطه بسلطة التعيين. المصطلح الثاني: والذي يعرف باللغة الفرنسية بle népotisme ويعرّف بأنه: » le népotisme (de l?italien nepotismo, de nepote » neveu «) est la tendance de certains papes à favoriser l?ascension de leur famille ou leur entourage dans la hiérarchie «. على غرار ما قام به البابا (1644-1568) Urbain VIII لما عيّن ثلاثة من أبناء أخوته في خطة كاردينال. وهو سلوك يمكن أن نترجمه بعبارة «الأقربون أولى بالمعروف» ولو في سياق مختلف من حيث اختيار اشخاص في مناصب حسب درجة القرابة وهنا مجاز وليس بحسب القرابة الدموية وإنما بحسب درجة الانسجام والمودة التي تربط بين سلطة التعيين ومن يتم تعيينه. ولجنة السيد عياض بن عاشور (المحدثة بقرار من الرئيس المخلوع) هي لا محالة، وبالنظر إلى تركيبتها، تشكل ترجمانا صادقا ووفيا للمصطلحين المذكورين، هذا علاوة على كونها لجنة معينة وغير منتخبة. أحدثت بقرار من بن علي المخلوع ووضعت تركيبتها على ما يبدو من شخص رجع فقط إلى ما تضمنته قائمة هاتفه الخلوي من أصدقاء أو أصدقاء الأصدقاء. وفي الحقيقة هذا الأسلوب «الرعواني» في العمل، يحيل إلى فكرة شخصنة العمل السياسي حول شخص واحد، محاط بمجموعة من المقربين الذين لا يناقشونه في شيء وغالبا ما يكونون قليلي أو منعدمي الإشعاع وضيقي الأفق ومحدودي الطموح حتى لا يعارضوه في شيء. كيف لا وهو عرّابهم وولي نعمتهم. وهو عين ما فعله بن علي لما أحاط نفسه بمساعدين يعتبرونه ولي نعمتهم والحاضن لهم ووالدهم بالتبني، كل ذلك وفق سمفونية هو الذي يضع نوتتها وهو الذي يعطي درجة الla بعد أن يدير ظهره للجمهور ويشرع في قيادة الجوقة. أو لم يدر السيد عياض بن عاشور ظهره لجمهور المهتمين بالشأن العام من مختلف مشاربهم باحثا عن مريديه المنبهرين به بكلية العلوم القانونية؟ إن الأمر مخيف ومحير في نفس الوقت. ففي العهد السابق كانت تتم تزكية الأشخاص في مناصب معينة بمكالمات هاتفية من نوع فلان «متاعنا» أو «ما تخافش منو نفس مومنة» وأنه مطيع «وما يلويش العصا في اليد» وبأنه «منسجم» و»ناس ملاح». و»دعك من فلان» لأنه «دعوة» و»يتعبك» و»راسه صحيح» و»غير منسجم». وهي مفردات تحيل إلى مفهوم الدولة الإقطاعية حيث توزع الامتيازات حسب مزاج caprice الملك أو حسب الولاءات الشخصية. أمر مخيف ومحيّر. ألم يقتل عثمان بن عفان بسبب تبجيله لذوي القربى بالهدايا والعطايا الى قول قوم لما عيّن أخاه لأمّه الوليد بن عقبة» أراد عثمان كرامة أخيه بهوان أمة محمد»؟. وكانت بداية النهاية لثورة دفع ثمنها أشقياء مثل أبي ذر الغفاري وبلال بن رباح وغيرهما ممن كانوا وقود الثورة لكنهم لم ينتموا إلى «بطانة» أو نسب عريق. أمر مخيف ومحيّر عندما تنكفئ الثورة إلى ممارسات «فقه الإجازة والتزكية» وتوزيع «صكوك التوبة» كما يفعل رضوان خازن الجنان في رسالة الغفران. أمر مخيف ومحيّر لأن المشروعية الثورية التي يجب أن تتلوها مشروعية قانونية في الإشراك في العمل الإصلاحي عبر آليات قانونية كالانتخابات أو استشارة الهياكل والمؤسسات لاصطفاء من تراه جديرا بذلك، تلتها عقلية «اللي تعرفو خير من اللي ما تعرفوش» وليتهم عرفوا فعلا بعض من اختاروهم. أمر مخيف ومحيّر لأن الفكر الانتهازي هو المستفيد الوحيد من هذا التمشي. فلنتذكر تلك المقولة المشهورة: "الثورة يخطط لها الأذكياء ويقوم بها الشجعان ويستفيد منها الانتهازيون"