*لما اندلعت الثورة كان شعارها الأساسي «حرية وكرامة» و«شغل للعاطلين». وكنت أعتقد أن الذين هتفوا وتظاهروا يحملون مشروع مواطنة جديد ولهم هموم خصوصية معقولة. فصفقت لذلك وابتهجت وهذه البلاد أصبحت منذ زمن حبسا للأنفس وحكرا لبعض عائلات الحكم. ولكن وما أن هرب الرئيس الفاسد وجمعه حتى انقلبت الأهداف وتبدّل الكلام. فغدا الترفيع في الأجور والترسيم في العمل والاعتصام لقلب وال أو لتنحية متصرف أو مدير... هي أهم المطالب. وعمّ الصراخ وكثرت الاحتجاجات والمسيرات بل واشتدت الفوضى «والفوضى كما يقول ابن خلدون مهلكة للبشر ومفسدة للعمران». وتفاقم الأمر في ظل أمن اختل ودولة تبحث عن طريق. وزاد الطين بلة إعلام رديء همّه إرساء مصداقية كان فقدها منذ زمن طويل. و هكذا انتهز أناس كثيرون الوضع وكسبوا ما لا حق لهم فيه أحيانا كثيرة. و مسّت الانتهازية شؤونا أخرى. فهذا يفتك شقة على غير حق والآخر أرضا ليست له وثالث ينتصب فوق رصيف طريق... وكل هذه التجاوزات نراها يوميا فنمتعض ونسكت. وآخر هذه التجاوزات نشاهده في جهة قفصة، فهذا شباب عتيّ يقطع الطريق ويقتحم المباني ويحرق الشارع ويفزع الناس... غايته، فيما نقل، توفير مراكز شغل جديدة للعاطلين. ولعل وجود شركة فسفاط قفصة في هذه الجهة أصبح مشكلة. فكثرة البطالة وتشنّج الأنفس بالإضافة إلى الفهم الخاطئ لدور المؤسسة الاقتصادية غدا اليوم خطرا على الشركة ذاتها ولن يستقيم الوضع بمثل هذا السلوك. فشركة فسفاط قفصة هي شركة اقتصادية وليست الهلال الأحمر وليست جمعية خيرية. وككل شركة يجب أن تظل غايتها أولا وآخرا اقتصادية. وحتى تكون كذلك فهي مدعوّة دوما إلى التخفيض في نفقاتها جميعا والسعي إلى الترفيع في مداخيلها المالية جميعا. وحتى تخفّض من المصاريف عليها الحدّ من الأجور وتعويض العمال كلما أمكن بآلات أو بإعلامية أو بتنظيم أقل تكاليف... وهذه قواعد تصرفية بدائية لا يشوبها شكّ. وإن لم تتخذ مثل هذه التدابير وغيرها للحدّ من الإنفاق مع الحرص على الزيادة في الإنتاج وتحقيق البيع والربح فهذا يعدّ تقصيرا يحاسب عليه المتصرفون. ولكن وبعد الثورة كثير من الناس يعتقد أن الشركات والأراضي العمومية بل وأحيانا الشركات الخاصة هي مدعوة ضرورة إلى استيعاب البطالين وتشغيلهم وإن لا يوجد شغل لهم فيها. وكما حصل لشركة فسفاط قفصة حصل لشركة الحلفاء بالقصرين وفي «بريتش غاز» وفي غيرها... وهذا خطأ كبير. فبقدر إيماننا بضرورة إيجاد ما يلزم من حلول، من الحكمة أيضا، حماية لهذه الشركات وحرصا على بقائها، أن لا نلتجئ إلى الحلول السهلة وأن لا نشغل الناس باطلا. فالشغل هو عمل إنتاجي يرجى من ورائه دفع للإنتاج وخلق لمزيد الثروة أما أن نقحم كما حصل في شركة فسفاط قفصة نحو 4000 عاطل بدعوى أنهم من حاملي شهائد أو هم من عائلات معوزة فهذا سوء تصرّف لا يقبله العقل ولن ينفع الشركة ولا البلاد. ثم كيف لهذه الشركة أن تستوعب مثل هذا العدد في ظرف وجيز وكان من الأفضل لها أن توزع أجورا مجانية دون أن تدفع بهذه الآلاف في مكاتبها وأروقتها دفعة واحدة. ثم كيف يمكن لفسفاط قفصة أن تحيا في سوق يأكلها التنافس والديوان الملكي لفسفاط المغرب مثلا ينتج ضعف ما ننتج ويشّغل نصف ما نشغّل ! أخشى أن يثقل هؤلاء الجدد لا فقط ميزانية الشركة بل تنظيمها كذلك وفيه ولا شك أرباك كبير للإدارة ولتسيير الشؤون فكل عامل زاد على الحاجة فيه مضرة للإنتاج وفيه مس بمنظومة العمل وبقوانين التصرّف. نحن اليوم نعيش فوضى فهمية ونريد أن نلقى من الحلول أسرعها خوفا من غضب الشارع وفكا للاعتصامات... ولكن مثل هذا التمشي فيه حرق للزرع وأكل للحم الحيّ للبقرة الحلوب فالحلول السهلة تلك التي يلجأ إليها السياسيون أحيانا قد تحل المشكلة إلى حين وقد ترضي المعتصمين ولكن عواقبها مفسدة للاقتصاد ومهلكة للمجتمع في المدى القصير. ويظل السؤل قائما : كيف تشغيل البطالين؟ أعتقد أن كل خلق لمواطن عمل جديدة يجب أن لا يكون على حساب المواطن المتوفرة حاليا. فالزيادة المفرطة في «أكواخ الشغل» تلك التي لا تنفع ولا تزيد المؤسسة قدرة تنافسية يجب الحدّ منها قدر الإمكان. ولخلق مواطن شغل نافعة أي مربحة للجميع يجب دعم الاستثمار الداخلي والخارجي وذلك بتوفير الأمن والاستقرار أولا وبتأمين الربح ثانيا. ثم وفي انتظار تنقية المناخ العام وحتى تتّضح الرؤية لأصحاب المال تستطيع الدولة الدفع بمشاريع تشغيلية كبرى ذات مصلحة عامة كأن تمدّ الطرقات شرقا وغربا وأن تقيم القناطر والمواني وتهيئ الأرض وتزرعها وأن تشرع كذلك في حملة تكوينية واسعة تمسّ العاملين جميعا والمعلمين والأساتذة والإداريين ورجال الأمن حتى يغيروا ما علق بأنفسهم من تراكمات العصر وأدرانه مع الحرص دوما أن لا تكون الدولة هي الفاعلة مباشرة داعية المقاولين وأهل الاختصاص لإنجازها لأن الدولة كما نعلم سيئة التصرف غير قادرة على تسيير المؤسسات الاقتصادية كما أكد ذلك ابن خلدون. * أستاذ بالمعهد العالي للتصرف بتونس