بقلم: محسن الكعبي عندما خرج الشعب التونسي رافعا صوته مناديا « الشعب يريد إسقاط النظام»، كان جيشنا آنذاك في حالة طوارئ قصوى يراقب الأحداث عن كثب، ويتابع التطورات، إلى أن دقت ساعة الحسم والقرار وانضم إلى جماهيره الشعبية بالموقف الشجاع الصادر عن رئيس أركانه الجنرال رشيد عمار، عندما أمره القائد الأعلى للقوات المسلحة بإطلاق النار على المحتجين، فأبى ورفض، بل وأعطاه حسب الأنباء المتواترة مهلة زمنية قصيرة للنجاة بجلده، ففرمن ساحة الميدان وجلب لنفسه العار.. كنت من بين الذين تمنوا لو ألقى القبض على الرئيس المخلوع وايداعه السجن العسكري بالعوينة أو بباب سعدون، صحبة سيدته الأولى وحارسه الأمين ومدير أمنه الرئاسي، ليقدم فيما بعد للمساءلة والمحاكمة على كل الجرائم التي اقترفها في حق الشعب التونسي بداية بجريمة تآمره على المؤسسة العسكرية في بداية التسعينيات التي من المفروض أن يكون سليلها البار، لقد ضرب الجيش الوطني موعدا آخر مع التاريخ، وانضم إلى ثورة غير مسبوقة أطاحت بأعتي دكتاتورية في وطننا العربي يؤرخ لها العالم. لقد صنع لنفسه موقعا رفيعا، وانتزع مكانة مرموقة بين الشعوب والأمم، وأصبح حديث العام والخاص في قنوات العالم بأسره وعلى المنابر الدولية... الشعب التونسي العظيم وغيره من الشعوب العربية والإسلامية الشقيقة مدين لجيشنا الوطني العتيد ليس بترسانته العسكرية المتواضعة ولا بموارده البشرية العالية، التي تآمر عليها وللأسف في بداية التسعينات الرئيس المخلوع (مسرحية المؤامرة «براكة الساحل») حيث وقع التنكيل بالعديد من الشرفاء في أقبية وزارة الداخلية وتعرضوا لحملات تعذيب تفوق في فظاعتها ما حدث في سجون أبو غريب في العراق ومعتقل «دلتا» في غوانتنامو، بل بموقفه الشجاع والوطني واصطفافه إلى جانب شعبه من اجل الحرية والكرامة، والقطع مع الماضي في سبيل انطلاقة جديدة تؤمن لتونس حياة ديمقراطية راقية لا تهميش فيها ولا إقصاء. حقا كان جيشنا في مستوى الحدث، وفهم الرسالة المنوطة بعهدته فهما جيدا، لحماية العباد والبلاد، وكان بارعا في إدارة الأزمة والكارثة المحدقة بوطننا العزيز، وهو إلى الآن مرابط ومنتشر في كافة أنحاء البلاد، فكان بحق درعا لهذا الوطن ومبعث فخر لمنتسبيه. إن الذين يشككون في الجيش الوطني ووفائه للثورة، هم بلا شك أعداء الثورة وأعداء الوطن، وعلى كل تونسي غيور أن يقف لهم بالمرصاد، وأن يتصدى لهم ويقطع الطريق أمامهم. وهذه الفئة المشككة، هي في الحقيقة من بقايا العهد الدكتاتوري البائد الذي كان مسؤولا عن تفريغ المواطن من العزة والايجابية، وإفساد ضميره وأخلاقه، وشحنه بالسلبية واللامبالاة، والكفر بالوطنية، والقيم السامية والنبيلة. إن تونس اليوم بحاجة لكل أبنائها، بمختلف مشاربهم وأهوائهم، لم يعد هناك مكان للحزب الواحد ولا للون الواحد ولا للزعيم الواحد، ولا احد يستطيع أن يحكم البلاد بمفرده في ظل ما آلت إليه الأوضاع من خطورة. فلا قوى الشباب الصاعدة ولا حركات أقصى اليمين ولا أقصى اليسار ولا الوسط، ولا غير هؤلاء يستطيع أن يدعي قدرته على إيجاد منظومة الحكم الرشيد، بل يجب على الجميع وضع اليد في اليد من اجل تحقيق الأمن والعدالة والتنمية والحرية والكرامة، والسمو والتسامي والإيثار والتوافق، واضعين مصلحة تونس فوق كل اعتبار، إذ لا مصلحة لحزب أو لفئة إذا لم تكن تصب في مصلحة البلاد العليا. ويكون الجيش في هذه المرحلة بطبيعة الحال، الرقيب والساهر على حماية مسار الثورة من قوى الجذب إلى الخلف قوى الردة، واضعا عينه على البلاد وإصبعه على الزناد، يتدخل إذا استدعت الضرورة لذلك، ولا احسب أن تدخله يتجاوز إرجاع الأمور إلى نصابها ووضع الثورة ومتطلباتها في المسار الصحيح بمرافقة وحماية القوى السياسية وتمكينها من القيام بواجبها الوطني، ثم العودة بعد ذلك إلى ثكناته ومواصلة تحضير مهماته الأساسية للذود عن البلاد من كل خطر داهم... إني انبه الشباب، مسعر الثورة الأول ووقودها وحاميها، من الإشاعات التي تخرج من حين لآخر لبث البلبلة في الصفوف وللتشكيك في نقاوة ثورته وإخلاص الجيش لها، فالمتربصون كثر وجيوب الردة مندسة هنا وهناك، وتسعى في السر والعلانية، في الداخل والخارج، للفتنة وقلب الأوضاع..لذلك ادعوكم أيها الشباب المتحمس للمناورة قدر المستطاع ولا باس من إعادة النظر، وتقويم المعوج، وتهذيب المنحرف، على أن نستهدي في العمل بروح الثورة التي قامت من اجل الشعب ولخير قاعدته العريضة..و لا يصح أن تؤثر في تفكيرنا نوازع ذاتية، أو رغبات استبدادية مكبوتة، لان الذي يقاوم الدكتاتورية، يجب عليه أن لا يسقط في « دكتاتورية الطلب « بل يجب عليه أن يتوخى سياسة فقه الأولويات، لان الاختلاف في الآراء ووجهات النظر رحمة، وتقدير المصلحة العامة مسؤولية، لذلك فالطلبات لا تلبى» بكن فيكون»، بل بالشعار الذي ودعتم به اعتصام القصبة 2، والذي كتبتم كلماته بدماء شهدائنا الأبرار «إن عدتم عدنا». إنها طبيعة الثورة التي تأبى الاستسلام والهزيمة، فيها قوى كامنة للخير والبقاء والبناء..سوف يتصدى للفتن مكافحون مجاهدون يشهرون إرادتهم بدعوة صادقة، ويطردون من سمائنا سحب الاكدار السوداء فتشرق الشمس من جديد.