٭ بقلم: محسن الكعبي (ضابط متقاعد من الجيش الوطني) فى حياة الشعوب أجيال يواعدها القدر، ويختصها دون غيرها بأن تشهد نقط التحول الحاسمة في التاريخ، إنه يتيح لها أن تشهد المراحل الفاصلة في تطور الحياة الخالد؛ تلك المراحل التي تشبه مهرجان الشروق حين يحدث الانتقال العظيم ساعة الفجر من ظلام الليل إلى ضوء النهار. إن هذه الأجيال الموعودة تعيش لحظات رائعة، إنها تشهد لحظات انتصار عظيم لم تصنعه وحدها، ولم تتحمل تضحياته بمفردها؛ وإنما هي تشهد النتيجة المجيدة لتفاعل عوامل أخرى كثيرة واصلت حركتها في ظلام الليل ووحشته، وعملت وسهرت، وظلت تدفع الثواني بعد الثواني إلى الانتقال العظيم ساعة الفجر. 24 ديسمبر 2011 الموافق ل 19 صفر 1432ه، يوم من الأيام الخوالد التي سيحفظها التاريخ لأبناء هذا الوطن ليبقى راسخا في الأذهان، ومعززا ومكرما في قلوب التونسيين. إنه يوم الانقاذ والتغيير، ونقطة تحول وقطع مع الماضي في سبيل انطلاقة جديدة، تؤمن لتونس حياة ديمقراطية حضارية راقية، لا تهميش فيها ولا إقصاء. لقد تعرض الجيش الوطني طيلة تاريخه إلى سلسلة من المؤامرات قصد تهميشه وتقزيمه، بدأت منذ أوائل الستينات حيث وضع تحت المراقبة المستمرة من أجهزة وزارة الداخلية ومليشيات الحزب الحاكم وفي نطاق سياسة فرق تسد، بين مكونات الدولة دق إسفين بينه وبين الشرطة والحرس الوطني، وأبعد عن الحياة الوطنية، وأصبح ينظر إليه كأنه كائن خارج التاريخ، يقع اللجوء إليه فقط عند الحوادث الكبرى، إذ وقع الزج به في أزمة 26 جانفي 1978 حين عمدت بعض المليشيات إلى الاندساس داخل جموع المواطنين وأطلقت الرصاص على أفراده لإيقاع بينه وبين الشعب. ثم كانت أحداث الخبز في جانفي 1984 التي تفطن فيها الجيش إلى الدسائس واستفاد من تجربة 1978 حين قامت أجهزته بتصوير ما يحدث وأثبتت بالوثائق المصورة تورط نفس الجهات في ارتكاب جرائم في حق الشعب وممتلكاته. ثم كان سنوات القهر والظلم والإقصاء والتهميش حينما استولى الدكتاتور المخلوع على مقاليد الحكم في «مسرحية العهد الجديد»، وكان أول ما بدأ به هو إفراغ الجيش من عناصره الوطنية المستقيمة، فكانت 150 ضابط سنة 1987 أي بعد أيام من استيلائه على السلطة، حيث وقع التنكيل بهم وطردهم ومنهم من مات تحت التعذيب. ثم كانت حملات الايقافات الكبرى الممنهجة سنتي 1990 و1991 في صفوف شرفاء الجيش الوطني من ضباط وضباط صف وجنود شملت 1063 من خيرة أبنائه، وقع التنكيل بهم في أقبية وزارة الداخلية حيث تعرضوا إلى حملات تعذيب تفوق في فضاعتها ما حدث في سجون «أبو غريب» في العراق ومعتقل «دلتا» بغوانتنامو، وتتالت حملات التصفية في حوادث مشبوهة كحوادث الطرقات، وكان آخرها «سقوط» طائرة الهيليكوبتر «ليكورسكي» الشهيرة والتي راح ضحيتها قيادات أركان الجيش الوطني (الجنرال عبد العزيز سكيك وأركانه). هذا وقد تم اضعاف الجيش الوطني من خلال العدول عن برنامج التجنيد إذ لم يتعد عدد المجندين سنويا 10٪ ممن بلغوا سن التجنيد. ووقع إبدال التجنيد الاجباري بالتعيينات الفؤدية (قانون 1989 وقانون 1992 المنقح)، التي كان ريعها يذهب إلى جيوب عصابات اللصوص في العهد الدكتاتوري البائد، مما عرض أمن البلاد للخطر وأصبح عدد الإطارات يفوق عدد الجنود، وأضعف الروح المعنوية لجيشنا العظيم حتى غدت الاستقالات في صفوفه تسجل رقما تصاعديا مثيرا للاستغراب والريبة. وعندما اندلعت الثورة المباركة التي أسقطت الدكتاتور وعصابة اللصوص والمافيا، تلقى النظام البائد صفعة مدوية، حينما رفض الجيش الوطني حماية هذه العصابة وانحاز الى صفوف الشعب واختار مكانه الطبيعي في حماية الثورة وممتلكات الشعب، فكان بحق درعا لهذا الوطن ومبعث فخر لمنتسبيه. وبعد أن انزاح الكابوس الرهيب الذي كتم انفاس شعب بأكمله، ولفضه حتى من كان يسانده وصوروه على أنه «السد المنيع أمام التطرف والارهاب»، تلك الفزاعة التي كان يخيف بها أسياده ويبتز من خلالها أموالا طائلة تذهب لحساباته وحسابات سيدته الاولى وبطانة السوء التي تعمل في عهد الرئيس المخلوع للاقصاء والتهميش والتعذيب والتجاوزات الصارخة، ويعلنوا دعمهم المطلق لجيشنا الوطني، ووضع أنفسهم رهن الاشارة دفاعا عن حرية الشعب ومكتسبات الثورة وتلبية لنداء الواجب، رافضين اي تدخل خارجي في شؤوننا الداخلية، أو محاولة أطراف خارجية فرض وصايتها لاحتواء الثورة والحد من مدها، كما يطالبوا المزيد من اليقظة لقطع الطريق أمام أذناب العهد البائد ورموزه الذين يحاولون استعادة مواقعهم ببث الاشاعات ومهاجمة دور الاتحاد والاعتداء على الرموز الوطنية والتشويش على مسيرة الثورة، وتحميلهم مسؤولية تسهيل هروب عصابات اللصوص والمافيا خارج الوطن، والمساس بالممتلكات العامة والخاصة وأعمال النهب وحرق وثائق الادانة وإتلاف الارشيف. هذا ونطالب بفتح الملفات للتحقيق في ظروف إيقاف وطرد العديد من الشرفاء في الجيش الوطني، وخاصة «مسرحية الانقلاب ببراكة الساحل» سنة 1991، والتي كان منشؤها كيديا، ألف حولها النظام المخلوع مسرحية سيئة الاخراج طالت قطاعات مدنية أخرى... ونؤكد اصرارنا على المطالبة بكبل الطرق القانونية على ضرورة إعادة الاعتبار لجميع المظلومين من خلال استرجاع الحقوق وجبر الأضرار وكل التعيوضات التي يكفلها القانون. ولا يفوتني في هذه المناسبة الكريمة التذكير بما أورده العلامة ابن خلدون في مقدمته، أن التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الاخبار وفي باطنه خبر وتحقيق. لذلك ان الأوان لفتح ارشيفنا للمؤرخين والمحققين حتى يقف الرأي العام على الانتهاكات الفظيعة التي مورست ضد شرفاء جيشنا الوطني في حقبة حكم الدكتاتور بن علي البوليسية. واليوم، ولولا الثورة المباركة التي انطلقت شرارتها الاولى من أعماق تونس العميقة، وأخذت تنمو وتكبر الى أن وصلت العاصمة، لما كان لي شرف الالتحاق بها، ومشاركة طلائعها الشبابية حتىلا يضيع مني هذا الموعد الهام مع التاريخ،وكنت مصحوبا في ذلك باثنين من أبنائي، كانوا مندفعين كالتيار الجارف ينادون باسقاط النظام البائد كأنهما يثأرا لوالدهما الذي مورست ضده كافة ألوان الاقصاء والتهميش والظلم والقهر في عهد الرئيس المخلوع. لقد مارس هذا الشباب حقه في التظاهر السلمي والاحتجاج، حتى ننعم اليوم بالحرية والانعتاق والكرامة التي افتقدناها لأكثر من عقدين. تحيي الثورة المباركة، يحيي أبناؤنا الشباب من بنزرت الى بنقردان، يحيا الشعب الكريم... تحيى تونس حرة متلاحمة مع جيشها الوطني البطل، والمجد والخلود لشهداء شعبنا العظيم وأمتنا العظيمة والخزي والعار والموت للخونة وليخسأ الخاسئون.