بقلم: الدكتور محمد الحداد طفت على السطح في المدة الاخيرة النزاعات حول الفصل من الدستور وقضية الدين والدولة، ولئن كان الأمر في ذاته متوقعا فإن الخطير أن العنف قد سبق المناقشات المعمقة حول المصطلحات والمفاهيم، وأن بعض وسائل الاعلام ومنشطي الرأي العام قد اختار حصر الناش في المواقف الأكثر راديكالية، بل دعوة من لا باع له في الموضوع من الأصل. وقد دفع هذا الوضع الى مناخ من الخلط وسوء الفهم بدل التهيئة لأرضية وفاقية حول هذا الموضوع الحساس. نحن الذين اشتغلنا على قضايا الجدل حول العلمانية في الفكر العربي ونشرنا الدراسات والمقالات في الموضوع لا نملك إلا أن ندعو الجميع الى التعقل واستلهام الروح الوفاقية التي ميزت المجلس التأسيسي التونسي الأول (1956 - 1959 ) فلئن كان الهاجس الأكبر لأعضائه آنذاك تأكيد استقلال البلد ثم الانتقال به من النظام الملكي الى النظام الجمهوري فإن علاقة الدين بالدولة قد استأثرت منه بالاهتمام العميق وبرزت منذ جلساته الأولى ثلاثة مقترحات لصياغة الفصل الأول من الدستور لخصتها العبارات التالية: «تونس دولة مستقلة ذات سيادة» و«تونس دولة عربية مستقلة ذات سيادة» و«تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة الاسلام دينها والعربية لغتها». وقد تم الوفاق على الصياغة الثالثة واعتمدت بالإجماع. ثم اقترح إضافة فصل مكمل ينص على مايلي:« الدولة تضمن حرية المعتقد وتحمي حرية القيام بالشعائر الدينية ما لم تخل بالقانون»، وطلب البعض استبدال كلمة «معتقد» بكلمة «أديان» كي لا تشمل الحرية الشيوعيين، فرفضت الأغلبية المقترح مع ملاحظة أن الشيخ الشاذلي النيفر الذي كان يمثل التوجه الديني لم يبد تحفظا على كلمة «معتقد» وبذلك تم التصويت على صيغة الفصل بهذه الكلمة التي تشمل الرؤى الدينية وغير الدينية. ثم أضيف لها في تعديل جوان 1959 عبارة «الجمهورية التونسية تضمن حرمة الفرد» وأضيفت الى الفصل الاول عبارة «والجمهورية نظامها» بعد أن تقرر في جويلية 1957 إلغاء النظام الملكي وأعلنت الجمهورية. واستغل البعض فرصة التعديل الاخير ليقترح مراجعة العبارة «الاسلام دينها» محتجا بأنها تخيف اليهود التونسيين من امكانية فصلهم عن الوظيفة العمومية أو أن الحركة اليوسفية تؤول العبارة تأويلا ضيقا لتحقيق أغراض أخرى، لكن الأغلبية أقرت المحافظة على الصيغة المعتمدة سنة 1956. وقد قال رئيس المجلس آنذاك المرحوم جلولي فارس عبارة بليغة:«دستورنا زبدة عدة دساتير ولم نحتذ أي دستور في العالم». ونحسب أن هذا التوجه يظل صالحا ليقود أعمال المجلس التأسيسي القادم. وعليه، فإننا نتفهم جيدا رغبة البعض في مراجعة الفصل الأول ليس من باب التشكيك في الهوية ولكن من باب ضمان الحرية، باعتبار أن أغلب دساتير العالم الديمقراطي، من أوروبا الى الولاياتالمتحدة واليابان والهند، تخلت عن تعيين دين للدولة، بيد أنه يجدر اعتبار أربعة معطيات بالنظر الى الواقع التونسي. أولا، الفصل الأول من الدستور لا يقرأ بمعزل عن الإضافة التي وضعها المؤسسون في المجلس الأول وتنص على حرية المعتقد وليس احترام أديان الأقليات فحسب، وقد أصبحت الفصل الثالث في مشروع الدستور سنة 1957 ثم الفصل السابع في مشروع الدستور سنة 1958 قبل أن تستقر في الفصل الخامس سنة 1959 وهو فصل أضيفت اليه أحكام أخرى في الصيغة الحالية للدستور دون إلغاء هذه العبارة منه. ثانيا، إن بعض الدول الديمقراطية مثل اليونان وإيرلندا والدنمارك مازالت الى اليوم تشير في دساتيرها الى دين قومي، وأن الدستور الايطالي يشير الى الفصل بين الدين والدولة في إطار المعاهدة (الكونكردا) بين الدولة والكنيسة الكاثوليكية (ما يمنح هذه الكنيسة امتيازا على الأديان الاخرى) وأن الملكة في بريطانيا تعتبر راعية الكنيسة الانجليكانية، الخ. فكل البلدان قد طوعت مبدأ التمييز بين الدين والدولة حسب تقاليدها وتاريخها. ثالثا، باعتبار أن لا كنيسة في الاسلام السني فما هي الجهة التي يمكن أن يعهد اليها برعاية الشعائر الدينية إذا فصل الدين عن الدولة وهل نرضى أن تتولى حركات متشددة تعيين الأئمة وعزلهم كما حصل في الأسابيع الفارطة استغلالا لضعف الدولة؟ رابعا، إن الدستور التونسي تفادى منذ صياغته الأولى الإشارة الى الشريعة، فأضاف الى التوازن المشار اليه سابقا عنصرا غير منطوق يحول دون الاستفادة من تعيين الدين للمطالبة بتطبيق أحكام تفصيلية تجاوزها العصر. فالشريعة يمكن أن تفهم بمعنيين، إما معنى الطريقة والمنهج، فتحيل على التوجيهات الاخلاقية التي سنها الإسلام، وهي تشمل بهذا المعنى التعددية الدينية والحرية الدينية المشار إليهما في آيات كثيرة، وإما أن تعني الأحكام التفصيلية الواردة في الكتب الفقهية القديمة التي ارتبطت بعصر غير عصرنا وظروف غير ظروفنا، مثل أحكام الردة والذمية والإلحاد والتحول الديني وقطع يد السارق ورجم الزاني، فضلا عن الأحكام التمييزية ضد النساء، والأحكام الكثيرة المبررة للعبودية التي لا يخلو منها كتاب فقه من المذاهب كلها، فهذه الأحكام قد تكون بررتها طبيعة عصرها لكنها ليست ملزمة لمسلمي هذا العصر ولا تعدو أن تكون اجتهادات قديمة نقضتها اجتهادات أخرى اليوم. الرأي عندنا أن تأكيد حرية المعتقد من منطلق أن ثورة 14 جانفي هي ثورة الحرية لا يتطلب ضرورة إلغاء الفصل الأول، والحل الأكثر واقعية هو تعزيز الفصل المتعلق بحرية المعتقد وتحديد معنى رعاية الدولة للشعائر الدينية (الفصل الخامس في الصيغة الحالية للدستور). وكما أن عبارة «العربية لغتها» لا تمنع استعمال اللهجة الدارجة في التخاطب اليومي أو في وسائل الاعلام ولا تعارض تدريس اللغات الأجنبية واستعمالها في بعض المجالات، فإن عبارة «الإسلام دينها» لا تعارض وجود ممارسات دينية غير الإسلام أو اعتناق رؤى وجودية غير دينية أو عدم الالتزام الفردي بتفاصيل الشريعة. فنص العبارة يعني أولا وصف دين الأغلبية من الناس، ويعني ثانيا تكليف الدولة برعاية الشعائر الدينية. والدولة الديمقراطية هي غير أشخاص حاكميها، لذلك فإن هذه الرعاية ستكون إدارية وليست سياسية، فلا يمكن أن تستغل لتسييس التدين ولا ينبغي للدولة أن تسمح بذلك لنفسها ولا لغيرها. فالدولة تشرف على بناء المساجد مثلا لكنها لا ترغم أحدا على الصلاة ولا تمنعه عنها وتضمن الحرتين في آن واحد، ولا تسمح مثلا بتخصيص صلاة الجمعة لا للإشادة بالحكومة ولا التحريض عليها، ولا تسمح بتحويل الشعائر الدينية كلها الى مناسبات سياسية ودعائية. ولا ينطبق هذا الوضع على إدارة الشعائر الدينية فحسب، فكل الجهاز الإداري للدولة ينبغي أن يكون محايدا سياسيا كي تتوفر نفس فرص العمل الديمقراطي للجميع. وعلى الدولة أن تساعد في إقامة شعائر الاديان الاخرى من منطلق اعترافها بها وتفاديا أن تتركها مضطرة لطلب العون من دول أجنبية، مثل ترميم الكنائس أو توفير أجور للعاملين في خدمتها. وإذا كان أعضاء المجلس التأسيسي الأول قد أصروا على المحافظة على كلمة «عقائد» بدل «أديان» كي تشمل الحرية الحزب الشيوعي آنذاك فمن باب أولى أن تشمل الحرية اليوم كل المذاهب الفلسفية والوجودية بما في ذلك الحق في عدم التدين، فالإسلام يعترف بالأديان المخالفة («لكم دينكم ولي ديني» - «إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين اشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة») ويعترف بعدم التدين («فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»). والخلاصة أننا ندعو الى المحافظة على الفصل الأول مع تعديل لغوي في جزئه الأول كي تسند الحرية الى الشعب لا الى الدولة، فيكون كمايلي: «تونس دولة مستقلة، يتمتع شعبها بالحرية والسيادة، العربية لغتها، والإسلام دينها، والجمهورية نظامها». ثم يخصص فصل مفرد يعوض الفصل الخامس حاليا ترد فيه الصيغة التالية: «تضمن الدولة التونسية حرمة الإنسان (بدل الفرد) وكرامته (إضافة) وحرية المعتقدات (في الجمع) والرؤى الوجودية (إضافة) والممارسات الشعائرية (في الجمع) في حدود الاحترام المتبادل والتسامح (إضافة) وعدم الإخلال بالأمن العام». كما يحافظ على مضمون الفصل السادس حاليا الذي ينص على أن «كل المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات وهم سواء أمام القانون» كي لا يترتب على اختلاف العقائد والرؤى الوجودية عواقب في مستوى الممارسة الفعلية للمواطنة، من العمل السياسي الى الحقوق اليومية لكل التونسيين. لقد أخطأ من ظن بعد الثورة أن تحرير الدستور قضية تقنية يتولاها نفر من القانونيين، فتحرير الدستور خيار حضاري يتجاوز الخبرات القانونية بالمعنى الضيق. ويخطئ من يظن اليوم أن هذه العملية الحاسمة والخطيرة بعواقبها على مستقبل الوطن والأجيال القادمة تحسم بالمنازعات السياسوية الضيقة، لأننا لا نتنازع الآن على مقاعد في البرلمان وإنما نحاول جميعا المساهمة في رسم الإطار الذي تتنزل فيه مستقبلا المنازعات السياسية بما يمنعها من التحول الى الفوضى والعنف أو الوقوع بنا مجددا في فخ الدكتاتورية. فمن الضروري تعميق النقاشات والبحث عن حلول توافقية والعمل على أن يمارس المواطن حق التصويت عن دراسة ووعي وأن يعمل أعضاء المجلس التأسيسي القادم في تفاعل مع ما يبرز في المجتمع من وجهات نظر متباينة ينبغي التقريب بينها لتكون مقبولة لدى الجميع بعد صدور نص الدستور.