بعد أزمة الكلاسيكو.. هل سيتم جلب "عين الصقر" إلى الدوري الاسباني؟    آخر ملوك مصر يعود لقصره في الإسكندرية!    قرار جديد من القضاء بشأن بيكيه حول صفقة سعودية لاستضافة السوبر الإسباني    "انصار الله" يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة صهيونية    قيس سعيد يستقبل رئيس المجلس الوطني للجهات والأقاليم    قيس سعيد: الإخلاص للوطن ليس شعارا يُرفع والثورة ليست مجرّد ذكرى    ل 4 أشهر إضافية:تمديد الإيقاف التحفظي في حقّ وديع الجريء    جهّزوا مفاجآت للاحتلال: الفلسطينيون باقون في رفح    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    ماذا في لقاء رئيس الجمهورية بوزيرة الاقتصاد والتخطيط؟    أخبار النادي الصفاقسي .. الكوكي متفائل و10 لاعبين يتهدّدهم الابعاد    القبض على شخص يعمد الى نزع أدباشه والتجاهر بالفحش أمام أحد المبيتات الجامعية..    في معرض الكتاب .. «محمود الماطري رائد تونس الحديثة».. كتاب يكشف حقائق مغيبة من تاريخ الحركة الوطنية    تعزيز الشراكة مع النرويج    بداية من الغد: الخطوط التونسية تغير برنامج 16 رحلة من وإلى فرنسا    وفد من مجلس نواب الشعب يزور معرض تونس الدولي للكتاب    المرسى: القبض على مروج مخدرات بمحيط إحدى المدارس الإعدادية    منوبة: الاحتفاظ بأحد الأطراف الرئيسية الضالعة في أحداث الشغب بالمنيهلة والتضامن    دوري أبطال إفريقيا: الترجي في مواجهة لصنداونز الجنوب إفريقي ...التفاصيل    هذه كلفة إنجاز الربط الكهربائي مع إيطاليا    الليلة: طقس بارد مع تواصل الرياح القوية    انتخابات الجامعة: قبول قائمتي بن تقيّة والتلمساني ورفض قائمة جليّل    QNB تونس يحسّن مؤشرات آداءه خلال سنة 2023    اكتشاف آثار لأنفلونزا الطيور في حليب كامل الدسم بأمريكا    تسليم عقود تمويل المشاريع لفائدة 17 من الباعثين الشبان بالقيروان والمهدية    رئيس الحكومة يدعو الى متابعة نتائج مشاركة تونس في اجتماعات الربيع لسنة 2024    هذه الولاية الأمريكيّة تسمح للمعلمين بحمل الأسلحة!    الاغتصاب وتحويل وجهة فتاة من بين القضايا.. إيقاف شخص صادرة ضده أحكام بالسجن تفوق 21 سنة    فيديو صعود مواطنين للمترو عبر بلّور الباب المكسور: شركة نقل تونس توضّح    تراوحت بين 31 و26 ميلمتر : كميات هامة من الامطار خلال 24 ساعة الماضية    مركز النهوض بالصادرات ينظم بعثة أعمال إلى روسيا يومي 13 و14 جوان 2024    عاجل/ جيش الاحتلال يتأهّب لمهاجمة رفح قريبا    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    سيدي حسين: الاطاحة بمنحرف افتك دراجة نارية تحت التهديد    بنزرت: تفكيك شبكة مختصة في تنظيم عمليات الإبحار خلسة    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    ممثل تركي ينتقم : يشتري مدرسته و يهدمها لأنه تعرض للضرب داخل فصولها    باجة: وفاة كهل في حادث مرور    نابل: الكشف عن المتورطين في سرقة مؤسسة سياحية    اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية    عاجل/ هجوم جديد للحوثيين في البحر الأحمر..    أنس جابر تواجه السلوفاكية أنا كارولينا...متى و أين ؟    كأس إيطاليا: يوفنتوس يتأهل إلى النهائي رغم خسارته امام لاتسيو    المنستير: افتتاح الدورة السادسة لمهرجان تونس التراث بالمبيت الجامعي الإمام المازري    نحو المزيد تفعيل المنظومة الذكية للتصرف الآلي في ميناء رادس    فاطمة المسدي: 'إزالة مخيّمات المهاجرين الأفارقة ليست حلًّا للمشكل الحقيقي'    تحذير صارم من واشنطن إلى 'تيك توك': طلاق مع بكين أو الحظر!    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محاضرة لوزير العدل التونسي حول الدستور وسيادة الشعب
نشر في السياسية يوم 01 - 06 - 2009

محاضرة الأستاذ البشير التكاري وزير العدل وحقوق الإنسان
بعنوان: "الدستور وترسيخ سيادة الشعب"
احتفالا بالذكرى الخمسين لإصدار الدستور نظّم مجلس النواب ومجلس المستشارين والمجلس الدستوري يوم 1 جوان 2009 ندوة وطنيّة تضّمنت إلى جانب الكلمة الّتي توجّه بها رئيس الدولة والّتي أكّد فيها الالتزام بالضوابط الدستوريّة وعلوية دولة القانون والحرص الكبير على أن تدور المواعيد الانتخابيّة المقرّرة في أكتوبر القادم في كنف الشفافيّة واحترام حرية الناخب، عددا من المحاضرات من بينها محاضرة للأستاذ البشير التكاري وزير العدل وحقوق الإنسان ، "السياسية" حصلت على النص الكامل للمداخلة وتنشُرها تعميما للفائدة بالنظر لما تضمّنته من محاور ومسائل هامّة:

خمسون سنة مرّت على إصدار الدستور التونسي، وليس دستور 1 جوان 1959 أوّل دستور لتونس فقد سبقه دستور 1861 وسبقه دستور قرطاج لكنّه أوّل دستور يرسّخ بكيفيّة واضحة سيادة الشعب.
إنّ موقع بلادنا الجغرافي في قلب البحر الأبيض المتوسّط جعلها مطمحا لعديد القوى، وجعل أيضا من التونسي ما هو عليه اليوم من تفتّح وقبول للآخر وتوق دائم إلى الحداثة. لكن هذه الوضعية حالت، طيلة قرون، دون قيام دولة تونسيّة تكرّس سيادة الشعب، فالأنظمة التي تعاقبت على تونس من الفينيقيين إلى الرّومان إلى البيزنطيين إلى الفتح الإسلامي إلى العهد الحفصي فالعهد التّركي ثمّ العهد الحسيني كانت فيها تونس في أغلب الأحيان امتدادا لسيادة مركزها خارج هذا الوطن، وذلك رغم محاولات الاستقلالية التي حصلت في العهد الحفصي وحتى في أواخر العهد الحسيني السابق لانتصاب الحماية الفرنسيّة، لذا ليس من المبالغة في شيء أن نعتبر أنّ دستور 1 جوان 1959 هو بالدرجة الأولى دستور تكريس السيادة التونسية.
لقد دعا الزعيم الحبيب برقيبة في الخطاب الذي ألقاه في أوّل اجتماع للمجلس القومي التأسيسي يوم 8 أفريل 1956 إلى أن يكون أوّل عمل يقوم به هذا المجلس هو أن يسجّل "أنّ تونس دولة حرّة مستقلّة ذات سيادة كاملة" والسيادة كما يعرّفها الفقهاء هي "كاملة أو لا تكون" فهذا المصطلح الذي أنشأه Jean Bodin منذ سنة 1576 [1] هو السلطة العليا التي لا سلطة فوقها فهي "مطلقة دائمة وغير قابلة للتجزئة".
ونلمس نفس الحرص على السيادة في بيان 7 نوفمبر 1987 حيث أكّد الرئيس زين العابدين بن علي أنّ "شعبنا بلغ من الوعي والنضج ما يسمح لكلّ أبنائه وفئته بالمشاركة البناءة في تصريف شؤونه في ظلّ نظام جمهوري يولي المؤسسات مكانتها ويوفّر أسباب الديمقراطيّة المسؤولة وعلى أساس سيادة الشعب" وتبع هذا الإعلان إصلاحات دستورية عميقة دعّمت سيادة الشعب.
سنسعى من خلال هذه المحاضرة حول الدستور وترسيخ سيادة الشعب إلى إبراز هذا المسار، مسار تكريس سيادة الشعب، وذلك من خلال تحليل:
إرساء مقوّمات السيادة التونسية.
تأكيد أساليب ممارسة هذه السيادة.

إرساء مقوّمات السيادة التونسية.
ترتكز السيادة على ثلاثة عناصر:
- أول هذه العناصر هو الشعب فهو مصدر السيادة.
- ثاني هذه العناصر هو النظام الجمهوري لأنّ السيادة مثلما سنبيّنه يمكن أن تكون سيادة الأمّة، أو سيادة الشعب وإن كانت سيادة الأمّة تتلاءم مع النظام الملكي فإنّ سيادة الشعب تقتضي النظام الجمهوري.
- ثالث هذه العناصر هي الدّولة باعتبارها التّجسيم القانوني لسيادة الشعب:
أ - الشعب التونسي:
يرجع الفضل إلى الفقيه الفرنسي [2]َِCarré De Malberg في توضيح التمييز بين سيادة الأمّة وسيادة الشعب ودون الدخول في جزئيات هذا التمييز، الذي تجاوزته جلّ الدّساتير في العالم، يمكن التّذكير فقط بأنّ سيادة الأمّة هي "السّيادة التي تمارس باسم مجموعة مجرّدة تشمل في وطن ما الأموات والأحياء ومن سيولد مستقبلا" ويمكن أن تتمثّل الأمّة بالتالي في الملك كما يمكن أن تتجسّم الأمة في نوّاب لها يتمّ انتخابهم من أشخاص تسند إليهم هذه الوظيفة (l'élection fonction).
أما نظرية سيادة الشّعب فهي التي تمارس باسم مجموعة محدّدة يكون فيها الاقتراع حقّا (l'élection droit) يمارس من الجميع وليس وظيفة تسند للبعض دون الآخر.
وإن اختارت بعض الدساتير إقرار صيغ تقرّ سيادة الشعب ولا تهمل سيادة الأمّة مثل الدستور الفرنسي[3] الحالي فإنّ الدستور التونسي، رغم أنّه صدر بعد حوالي سنة من الدستور الفرنسي، توخّى الوضوح في التعبير عن سيادة الشّعب حيث أقرّ منذ البداية في فصله الثالث بأنّ "الشعب التونسي هو صاحب السّيادة يباشرها على الوجه الذي يضبطه الدّستور"[4] .
وأبرزت توطئة الدّستور سيادة الشّعب إذ تضمّنت "أنّ الشعب مصمّم على إقامة ديمقراطية أساسها سيادة الشعب وأنّ الدستور يصدر باسم الشعب التونسي الحرّ صاحب السيادة".
لكنّنا عندما نتذكّر أنّ الدستور التونسي كان مطمحا لهذا الشعب في نضاله منذ الاستقلال حيث أنّ الحركة الوطنية كانت تطالب بالاستقلال والدستور والبرلمان، على حدّ سواء، وأنّ الحزب الذي قاد هذه الحركة هو حزب الدستور وإن تغيّرت تسميته بحكم تطوّر برامجه ليصبح اليوم التجمع الدستوري الديمقراطي، لنا أن نتساءل من هو هذا الشعب الذي تجرأ الاستعمار في وقت ما على التّشكيك في وجوده.
إنّ لهذا الشّعب صاحب السيادة خصوصيات نصّ عليها الدستور ذاته فقد تضمّن الفصل الأوّل من الدستور أنّ "تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربيّة لغتها، والجمهورية نظامها" وقد شهد هذا الفصل نقاشا مستفيضا قبل إقرار هذه الصياغة.
ففيما يتمثّل هذا النقاش وما هي التأويلات التي أعطيت له؟
نبدأ بالنقاش الذي تركّز حول صياغتين بالنسبة للتنصيص على الإسلام وعلى العروبة:
- صياغة أولى ساندها الشيخ الشاذلي النيفر ثمّ تراجع عنها عند التصويت ترمي إلى التنصيص على أن تونس دولة عربية إسلامية.
- وصياغة ثانية ساندها كلّ من الزعيم الحبيب بورقيبة والمرحوم الباهي الأدغم تبرز الدولة والحرية والاستقلال أوّلا ثمّ تنصّ على أن الإسلام دين للدولة وعلى أن العربية لغة لها وهي الصياغة التي تمّ إقرارها في النهاية "تونس دولة حرّة مستقلة ذات سيادة الإسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها".
بالنسبة للتأويلات فإنها لم تطرح أبدا في المجلس القومي التأسيسي بل كانت نتيجة تفسيرات لاحقة للفصل الأول من الدستور من طرف بعض المفكّرين وبعض رجال القانون ومن هذه التفسيرات أن الفصل الأول يؤسّس لنظام لائكي.
لا أشاطر رأي من يعتبر أن الدستور التونسي يؤسس لنظام لائكي، لكن ذلك لا يعني أن الدستور لا يقر حرية المعتقد في إطار تأسيسه لنظام سياسي تحديثي.
أبدأ باستبعاد التأسيس لنظام لائكي وأقدّم لذلك ثلاثة براهين:
1- إن نظام الحكم اللاّئكي يقتضي الفصل الصريح والتام بين الحكم المدني والمنظومة الدينية، والدساتير التي تقرّ اللائكية تقرّها صراحة.
2- إن تبرير الصياغة الحالية الذي ورد على لسان أعضاء المجلس القومي التأسيسي لم يكن متصلا من قريب أو من بعيد باللائكية فقد بينوا أن إبعاد وصف "إسلامية" أو "عربية" عن الدولة إنما مأتاه عدم وجود نظام دولة إسلامي أو عربي (من وجهة نظر قانونية دستورية).
3- الإسلام دين دولة أو العربية لغة الدولة لم يعد خاصية من خاصيات الدستور التونسي وحده إذ نجد هذه العبارة في المادة 2 من الدستور المصري وفي المادة 2 من الدستور الأردني وفي المادتين 2 و3 من الدستور الكويتي.
أبين الآن أن استبعاد النظام اللائكي لا يعني عدم احترام حرية المعتقد وحرية التدين وأقدم لذلك المعطيات الثلاثة التالية:
1- لقد اقترنت منذ البداية مناقشة الفصل الأول من الدستور بمناقشة الفصل 3 منه المتعلّق بحرية المعتقد " الدولة التونسية تضمن حرية المعتقد وتحمي حرية القيام بالشعائر الدينية ما لم تخلّ بالنظام وتنافي الآداب" فمن هذه الناحية تكون حرية المعتقد وحرية القيام بالشعائر الدينية في وضعية تلازم وتكامل مع الإسلام دين الدولة.
2- عندما اقترح النائب نصر المرزوقي الاستغناء عن كلمة المعتقد " خشية أن تتيح المجال لتسرّب المبادئ الشيوعية الهدّامة "(والعبارة للمرحوم النائب نصر المرزوقي) أجابه رئيس الحكومة آنذاك " الدولة التونسية تحمي حاليا الحزب الشيوعي وعندما يصبح المعتقد الشيوعي مخالفا للقانون يصبح من المعقول عدم السماح بانتشاره".
3- إن مبررات هذا التلازم بين الفصلين 1 و 3 من الصياغة الأولى لمشروع الدستور مزدوجة فهي حرص على حماية حرية المعتقد وهي أيضا حرص على اعتبار لخاصيّة من خاصيّات الشعب التونسي الذي وإن كان في أغلبيته مسلم وعربي فإن به أيضا مواطنون تونسيون يهود حسبما صرّح بذلك رئيس الحكومة عند مناقشة هذه المسألة.



هذا هو إذن الشعب التونسي الذي حددّ معالمه الدستور، شعب دين دولته الإسلام لكن يقرّ حقوقا للأقليات الدينية مثلما يحترم حرية المعتقد عموما ما لم تخلّ بالأمن العام حسبما تنصّ عليه الصياغة الحالية للدستور

ب‌- النظام الجمهوري
يرى فقهاء القانون الدستوري أنّه وإن كانت سيادة الأمّة تتأقلم مع النظام الملكي باعتبار أنّ الأمّة ذات مجرّدة، يمكن أن تتجسّم في ممثليها من البرلمانيين ويمكن أن تتجسّم أيضا في الملك، فإنّ سيادة الشعب تقتضي بالضرورة نظاما جمهوريّا فسيادة الشعب يصبح فيها الانتخاب حقّا لا وظيفة وممارسة هذا الحقّ تتنافى مع من يعتبر نفسه غير خاضع للرقابة الشعبية.
ورغم أنّ هذه النظرة الثنائيّة فقدت جدواها اليوم باعتبار أنّ الأنظمة الملكيّة وخاصّة الأنظمة الملكيّة الدستورية تقرّ بدورها بسيادة الشعب فإنّ هذه الثنائية لم تكن غائبة في ذهن واضعي الدستور التونسي من أعضاء المجلس القومي التأسيسي إذ أنّ نشأة الجمهورية تولّدت من تحليل لمفهوم سيادة الشعب ثمّ إنّ تطوير النظام الجمهوري بعد الإصلاح الدستوري المؤرخ في 1 جوان 2002 كان منطلقه تطوير الجمهورية وتعزيز السيادة.
فكيف تمّ ميلاد الجمهورية من مفهوم السيادة وكيف تمّ تطوير الجمهورية بتعزيز السيادة؟
1- إجابة على السؤال الأول نذكّر بأنّ الأمر العلي الصادر عن محمد الأمين باي بتاريخ 29 ديسمبر 1955 والمتعلّق بإحداث مجلس قومي تأسيسي أقرّ بأنّ المجلس مكلّف بإعداد دستور للملكة، وأن هذا الدستور سيختم "بالخاتم السعيد" للباي.
وبالفعل كانت أوّل مسودّة للدستور التونسي وهي مسودّة 9 جانفي 1957 تضمّنت في فصلها الرابع أنّ "الدّولة التونسية دولة ملكيّة دستوريّة" إلا أنّ انتخاب المجلس القومي التأسيسي أدّى في الحقيقة إلى قيام شرعيّتين متوازيتين:
- شرعية أولى بصدد الزوال وهي موضوع الكثير من الانتقادات والاحترازات، انتقادات واحترازات غذّتهما مواقف العائلة الحسينيّة، وإن وجدت استثناءات وهي استثناء المرحوم المنصف باي، غذّتهما مواقف هذه العائلة من الحماية ومن الحركة الوطنية وموقفها أيضا من نفي المنصف باي ذاته وتنصيب الأمين باي من قبل سلطات الحماية ملكا عوضا عنه.
- وهناك شرعيّة ثانية مستمدّة مباشرة من الشعب بانتخابات نزيهة وعامّة ومشاركة قاربت الاجماع وتمثيليّة شملت جميع أصناف الشعب التونسي وهي شرعية المجلس القومي التأسيسي.
وقد أشار الزعيم الحبيب بورقيبة في أول اجتماع للمجلس القومي التأسيسي يوم 8 أفريل 1956 إلى هذا التحوّل عندما ذكر: "تجتمعون في هذا المجلس التأسيسي بإرادة الشعب، لا تنسوا أنّ تلك الإرادة متجسّمة في جمعكم واضحة جليّة فالسيادة في تونس سيادة الشعب صاحبها الشرعي"[5]
إذن تجسّمت في تونس من خلال المجلس القومي التأسيسي سيادة الشعب والسيادة مثلما سبق بيانه هي السلطة التي لا سلطة فوقها، فكان من الشرعي إذن من ناحية النظرية الدستورية ومن الطبيعي من ناحية تاريخ البلاد وتخلّصها بالاستقلال من الحماية التي تعرقل سيادتها أن تلغى الملكية وتعلن الجمهورية من قبل ممثلي الشعب صاحب السيادة يوم 25 جويلية 1957.
وهذا التحليل يجسّمه نصّ إعلان الجمهورية ذاته حيث ورد فيه "نحن نواب الأمة التونسية أعضاء المجلس القومي التأسيسي بمقتضى ما لنا من نفوذ كامل مستمد من الشعب (...) نتخذ باسم الشعب القرار التالي:
أوّلا نلغى النظام الملكي إلغاءا تاما.
ثانيا نعلن أن تونس دولة جمهورية"
2- نجيب الآن عن السؤال الثاني وهو كيف تمّ تدعيم السيادة من خلال تطوير النظام الجمهوري؟
للإجابة على هذا السؤال لا بدّ أن نذكّر أيضا بمعطى تاريخي وهو الانحراف الذي عرفه النظام الجمهوري بداية من أواسط السبعينات وإلى غاية 7 نوفمبر 1987.
إنّ أهم انحراف أدّى إلى تصدّع النظام الجمهوري ذاته هو الذي تنج بمقتضى التنقيح الدستوري المؤرخ في 19 مارس 1975 والذي اقر بصفة استثنائية الرئاسة مدى الحياة للزعيم الحبيب بورقيبة.
إنّ إقرار الرئاسة مدى الحياة هو تحريف للنّظام الجمهوري الذي يقتضي الرجوع بصفة دورية إلى الشعب لانتخاب ممثليه سواء في السلطة التنفيذيّة أو في السلطة التشريعيّة كما أن الرئاسة مدى الحياة نكران لسيادة الشعب إذ تغيّبه وتحلّ محلّه في أعلى هرم للسلطة من يستمدّ شرعيته، لا من العملية الانتخابية، بل من مبرّرات تاريخية أو إيديولوجية تتعارض، مهما كانت وجاهتها، مع مقوّمات سيادة الشعب.
ومن هنا ندرك أن إعلان الرئيس زين العابدين بن علي في بيان السابع من نوفمبر مباشرة بعد تذكيره بسيادة الشعب بأنّه: "لا مجال في عصرنا إلى رئاسة مدى الحياة ولا لخلافة آليّة لا دخل فيها للشعب" هو إعلان رجوع للنظام الجمهورية إلى طبيعته وإعلان الرجوع بالسيادة إلى صاحبها. وتأكّد هذا الإعلان في النص في أول مراجعة للدستور بعد التغيير وهي مراجعة 25 جويلية 1988 إذ تمّ بهذه المراجعة حذف الفقرة الأخيرة من الفصل 39 من الدستور التي تقرّ الرئاسة مدى الحياة.
وبعد إرجاع النظام الجمهوري إلى طبيعته دخلنا بمقتضى الإصلاح الجوهري للدستور بمقتضى القانون المؤرّخ في غرّة جوان 2002 مرحلة تطوير هذا النظام وذلك بإثراء مرجعيّته إذ أصبح النظام الجمهوري ضامنا لحقوق الإنسان ويقوم على مبادئ دولة القانون والتعددية ويعمل على ترسيخ قيم التضامن والتآزر والتسامح[6].
واقترنت هذه المقوّمات الحديثة للنظام الجمهوري بسنّ مبدأ دستوري آخر يوجب على كلّ مواطن حماية البلاد والمحافظة على استقلاليتها وسيادتها فتجسّم هكذا من جديد التلازم بين حماية تطوير النظام الجمهوري وتأكيد سيادة الشعب.
ولا نبالغ عندما نقول بأنّ هذه المقوّمات الجديدة للنظام الجمهوري تمثّل منظومة ثابتة يمكن أن نعطيها منزلة المنظومة الأعلى دستوريّا.Norme supra- constitutionnelle.
لا ننسى أنّ هذه المبادئ أُقرّت باستفتاء أي مباشرة من السلطة المؤسّسة ولا ننسى أنّ الدستور حدّد ضوابط لتعديله وهي عدم المساس بالنظام الجمهوري للدولة وإنّ مقوّمات النظام الجمهوري هي من طبيعة هذا النظام وبالتالي فإنّ مبادئ مثل التضامن وحماية حقوق الإنسان ودولة القانون والتعددية لا يمكن في تقديرنا أن يخلّ بها أيّة تعديل.
تلك هي جمهورية الغد التي أنتجها الإصلاح الدستوري الجوهري لسنة 2002، جمهورية تتطوّر لكنّها جمهورية تحافظ على مقوّماتها وتعدّ لمفهوم جديد للدولة.

ج- الدولة:
إنّ سيادة الشعب تتمحور في نظام يضمن دوامها وهو النظام الجمهوري لكنّها تتجسّم في ذات قانونية هي الدولة. ولقد ذكّر في هذا الصدد الفقيه Carré De Malberg أنّ "الدولة هي الذات القانونية التي تختزل فيها المجموعة الوطنية « L'Etat est un être de droit en qui se résume abstraitement la collectivité nationale » ، فالدولة هي تحويل السيادة إلى سلطة والسلطة حسب الفقيه Jellinek هي مفهوم سياسي وقع تحويله فيما بعد ليكوّن الأساس القانوني للسلطة السياسية للدولة.[7]
وإذا كانت الدولة تجسّم السيادة فمن الضروري أن لا توجد أي سلطة تفوق سلطة الدولة يقول جون جاك روسو Jean Jaques Rousseau:
« La puissance souveraine ...elle peut tout ou elle n'est rien » [8]
إنّ هذه العلاقة التواصلية بين السيادة والدولة تدعونا إلى تقويم بعض المفاهيم السائدة لدى البعض والتي تمثّل تحريفا لمفهوم الدولة ومساسا بالسيادة ذاتها.
1- نوضّح أوّلا ونحن نتحدّث عن خمسين سنة من عمر الدستور التونسي أنّ الدولة التونسية في بدايتها أي بداية العمل بالدستور كانت بالأساس دولة تجسّم الوحدة الوطنية. لقد أعلن الدستور في توطئته أنّ الشعب التونسي صاحب السيادة مصمّم على توثيق عرى الوحدة الوطنية.
بالفعل لقد اقترن إعلان الدستور وبناء الدولة بالتصميم على بناء الوحدة الوطنية ولا يمكن أن ندرك أبعاد هذا الهدف إلا عندما نتذكر انه إلى غاية الاستقلال كانت أحيانا التقسيمات العروشية والقبلية تطغى على التقسيمات الإدارية في تونس ومثلّت بعض العروش في فترات حالكة من تاريخ تونس سلطة منافسة للسلطة المركزية يسيطر أحيانا عليها باي الأمحال ثم لا تلبث أن تعود لصراع المدّ والجزر مع السلطة المركزية، ويصبح بالتالي إقرار سيادة الشعب وتجسيمها في الدولة تحييد كل سلطة منافسة للدولة وإدماج الجميع في سيادة موّحدة هي سيادة الشعب.
لقد فُهمت خطأ وحدة الأمة في فترة ما من تاريخ تونس المعاصر على أساس أنّها نكران للتعددية الفكرية والسياسية إذ تمّ باسم الوحدة القومية تكريس الحزب الواحد لمدّة سنوات وتمّ باسم الوحدة القوميّة استبعاد الانتخابات التنافسية سواء في مستوى رئاسة الجمهورية أو في مستوى البرلمان.
ولقد ساهم التغيير من هذه الناحية في تطوير الدولة ذاتها من دولة تُبعد التعددية باسم الوحدة الوطنية إلى دولة تقرّ التعددية دون أن تمسّ بالوحدة الوطنية، ونلتمس هذا التوجه بوضوح في التنقيح الدستوري الذي تمّ في 27 أكتوبر 1997 والذي أدرج لأوّل مرّة الأحزاب في نصّ الدستور حسب ضوابط تتمثل أساسا في "احترام سيادة الشعب وعدم جواز إنشاء حزب، في مستوى مبادئه أو أهدافه أو نشاطه أو برامجه، على دين أو لغة أو عنصر أو جنس أو جهة" أليس في ذلك مصالحة بين سيادة الشعب ووحدة الأمة والتعددية السياسية.
2- التوضيح الثاني الذي لا بدّ أن تقدّمه هو أن تكريس سيادة الشعب في الدولة تتنافى أيضا مع وجود سلطات أخرى مدنية حديثة تنافس الدّولة في احتكارها للسلطة المنظّمة، ونصل هنا إلى موضوع مكانة هياكل المجتمع المدني بالنسبة لسيادة الشعب وسلطة الدولة.
إنّ المجتمع المدني بما يشمله من جمعيات وهيئات مهنية ونقابات وأحزاب لا يمكن أن يمثّل من ناحية النظريّة الدستورية تعبيرا عن سيادة الشعب فشرعيّة أي هيكل من هياكل المجتمع المدني هي شرعيّة خاصّة وليست شرعية عامّة فالدولة وهياكلها هي وحدها التي تكرّس الشرعيّة العامّة وسيادة الشعب، ولا يعني هذا استنقاصا من دور هذه الهياكل بل نذكّر بمعطيات أساسيّة ربّما تغيب عن البعض.
إنّ دور هذه الهياكل كفاعل أساسي في المجتمع يمكن أن يساند الدولة أو حتى يعارضها لا يعني أنّ له شرعية الدولة والنتيجة العملية والمنطقية اختلاف الطبيعة واختلاف المواقع إذ أنّ هياكل المجتمع المدني تخضع لقانون الدولة، لها أن تنقده إن شاءت لكنها ملزمة بالانصياع له حتى وإن لم تشأ.
نذكّر بهذه المعطيات ونحن في خضم بناء التعددية حتى لا تعلو على الدولة أي سلطة أخرى لأنّ بذلك ينعدم احتكار السلطة المنظّمة ونمسّ بالتالي من سيادة الشعب.
3- التوضيح الثالث الذي نقدّمه يخصّ السلطة القضائية: لم يجعل الدستور السلطة القضائية بمنأى عن سيادة الشعب بل جعلها تعبيرا عن هذه السيادة إذ أقرّ بالفصل 64 أنّ الأحكام تصدر باسم الشعب وصدور الأحكام باسم الشعب هو الذي يبرّر استقلاليّة السلطة القضائية حيث إنّها لا تخضع إلا للقانون لأنّ القانون تعبير عن الإرادة العامّة أي إرادة الشعب عبر ممثّليه، إلا أنّ هذه الاستقلالية وهي استقلاليّة في أداء الوظيفة القضائية مثلما نصّ صراحة على ذلك الفصل 65 من الدستور لا يعني انفصالا عن الدولة فالسلطة القضائية هي أحد مكوّنات الدولة لكنها تحتاج في أدائها لوظيفتها وفي ضمانات انتداب أعضائها وترقيتهم ونقلتهم إلى الاستقلالية عن كل تأثير محتمل على هذه السلطة سواء من السلطات الأخرى المكوّنة للدولة أو من السلطات الموجودة خارج الدولة، وإذا حادت استقلالية القضاء عن هذه الضوابط فقدت صلتها بسيادة الشعب التي كرّسها الدستور والتي تبرّر الضمانات الممنوحة لها.
إنّ سيادة الشعب هي بناء في حاجة دائمة إلى تدعيم أسسه ويتمّ ذلك عبر أساليب ممارسة السيادة من انتخابات واستفتاء وغيرها من الأساليب التي شهدت تأكيدا واضحا مذ التحوّل جسّمته الإصلاحات الدستورية المتتالية وهو ما سنبيّنه فيما يلي في المحور الثاني لهذه المحاضرة.

تأكيد أساليب ممارسة السيادة:
إذا كان الشعب التونسي هو صاحب السيادة مثلما نتبيّنه في قراءة توطئة الدستور وفصله الثالث فمن المتفق عليه أنّ الشعب لا يمكنه اليوم أن يمارس بصفة مباشرة هذه السيادة.
لم يعد الشعب مجموعة محدّدة من الأشخاص أو من الأسياد يجتمعون في ساحة المدينة مثلما كان الشأن في المدينة الإغريقية القديمة لممارسة السلطة بصفة فعلية ومباشرة.
إنّ سيادة الشعب أصبحت بالضّرورة تفويضيّة أو نيابيّة أي أنّها تمارس بتفويض من الشعب لا من الشعب مباشرة، ويمرّ هذا التفويض عبر آليّة الانتخاب ويؤدي بالخصوص إلى انتخاب رئيس للدولة يجسّم سيادة الشعب وانتخاب أعضاء لمجلس أو مجلسين تشريعيّين يفوّض لهم الشعب مهمّة سنّ القوانين والمساهمة في المراقبة المتبادلة والتوازنات الضروريّة بين السلطات.
وإن تعذّرت الممارسة المباشرة لسيادة الشعب فلا يعني هذا عدم اللّجوء إليها مطلقا وبالتالي يمثّل الاستفتاء استثناء لنظام تفويض السيادة ورجوعا إلى ممارستها مباشرة من قبل الشعب.
وعندما نتمعّن في الخمسين سنة التي انقضت من حياة الدستور التونسي نلاحظ خاصّة في الإصلاحات التي أدخلت عليه منذ التحوّل تأكيدا متواصلا لأساليب ممارسة الشعب لسيادته وأدّت إلى نتائج ثلاث سنحلّلها تباعا وهي:
1- تدعيم حقّ المشاركة في الحياة العامّة.
2- تطوير التمثيليّة النيابيّة.
3- توسيع مجال الاستفتاء.

أ- تدعيم حقّ المشاركة في الحياة العامّة:
إنّ تفويض السيادة وإن كان يختلف عن عقد الوكالة المعروف في القانون المدني فهو يستمدّ من نظرية الوكالة بعض الخاصّيات منها الأهليّة والتعبير عن الإرادة بصفة حرّة، وعلى هذا الأساس لا يكفي وجود منظومة انتخابيّة تمكّن الشعب من تفويض سيادته إلى ممثّليه بل لا بدّ لهذه المنظومة أن تقرّ شروطا دنيا تضمن للشعب اختيار ممثليه بكلّ حريّة وعلى أساس المساواة.
لقد أسس الدستور التونسي لهذه المنظومة الانتخابيّة أو لهذه الآليّة التفويضيّة بأن أقرّ سواء بالنسبة لانتخاب رئيس الجمهورية (الفصل 39 ) أو بالنسبة لانتخاب أعضاء مجلس النواب (الفصل 18) الانتخاب العام الحرّ المباشر والسرّي.
أمّا مجلس المستشارين فإنّه يخضع أيضا لهذه القواعد الأساسيّة باستثناء الصفة المباشرة والعامّة للانتخاب وذلك لخصوصيات التمثيليّة التي يجسّمها مثلما سنبيّنه لاحقا.
وكرّس الدستور التونسي من خلال التعديلات التي عرفها منذ التغيير تدعيما متواصلا لحقّ المشاركة في الحياة السياسية سواء بالنسبة إلى الناخبين أو للمترشحين أو من حيث مراقبة العملية الانتخابية.
1- نذكّر بالنسبة للناخبين التنقيح الدستوري الأخير الصادر بمقتضى القانون الدستوري المؤرخ في 28 جويلية 2008 والذي خفّض في سنّ الانتخاب من 20 إلى 18 سنة وهذا التخفيض سيمكّن 500 ألف شاب من المشاركة في الانتخابات المقبلة.
ونوضّح هنا بأنّ الانتخاب في تونس وإن كان واجبا من الناحية السياسيّة فهو حقّ من الناحية الدستوريّة أي أنّ المواطن حرّ في أن ينتخب أو أن لا ينتخب وهذه الحريّة تتناسب أكثر مع سيادة الشعب وهي ليست من البديهيات لأنّ هناك من الدول، لأسباب خصوصيّة تتعلق بمكوّنات مجتمعها السياسي (مثل بلجيكيا)، أقرّت وجوبيّة الانتخاب فيعاقب بالخطيّة كلّ من يتخلّف عن الانتخاب.
لكن رغم انعدام الوجوبيّة القانونية فقد حصلت في جميع الانتخابات التي عرفتها تونس منذ سنّ الدستور مشاركة جعلت الواجب الوطني ينسي طبيعة الانتخاب في تونس من حيث أنّها حقّ دستوري وليس واجبا.
2- أمّا بالنسبة للمترشحين فلا بدّ أن نذكّر بأنّ سنّ الترشّح لمجلس النواب عرف منذ التحوّل تخفيضين، فقد كانت هذه السنّ محّددة ب28 سنة ثمّ تمّ التخفيض فيها بمقتضى التنقيح الدستوري المؤرخ في 25 جويلية 1988 إلى 25 سنة ثمّ التخفيض فيها ثانية بمقتضى تنقيح الدستور المؤرخ في 27 أكتوبر 1997 إلى 23 سنة وتمّ في هذا التنقيح الأخير بالخصوص إلغاء التمييز بين المترشح المولود لأب تونسي والمترشح المولود لأمّ تونسية بحيث لم يعد حقّ الترشّح يقتصر على التونسي المولود لأب تونسي.
3- وتدعّم حقّ المشاركة في الحياة السياسيّة أيضا بإقرار رقابة المجلس الدستوري على انتخاب رئيس الجمهورية وأعضاء مجلس النواب والمستشارين وكذلك على عملية الاستفتاء.
لقد كانت رقابة الانتخابات الرئاسيّة موكولة من حيث قبول التصريح بالنتيجة والطعن فيها إلى لجنة تتألّف من رئيس مجلس النواب ومفتي الجمهورية والرئيس الأول لمحكمة التعقيب والرئيس الأوّل للمحكمة الإداريّة وتمّ بمقتضى التعديل الجوهري للدستور الصادر في غرّة جوان 2002 إسناد هذا الاختصاص إلى المجلس الدستوري مما مكّن من مزيد توضيح إجراءات مراقبة الانتخابات الرئاسيّة.
وكانت مراقبة الانتخابات التشريعيّة موكولة إلى لجنة تتألّف من رئيس المجلس الدستوري والرئيس الأوّل لمحكمة التعقيب والرئيس الأوّل للمحكمة الإداريّة ثمّ أصبحت موكولة بمقتضى التعديل الدستوري الجوهري لسنة 2002 إلى المجلس الدستوري بكافة أعضائه مما يوفّر بدون شكّ ضمانات أكثر.
وبما أنّ الانتخاب هو عمليّة تفويض للسيادة فقد تطورت أيضا أساليب ممارستها في مستوى التمثيليّة النيابيّة.
ب‌- تطوير التمثيليّة النيابيّة
ينصّ الفصل 18 من الدستور على أنّ الشعب يمارس السلطة التشريعيّة بواسطة مجلس النواب ومجلس المستشارين أو عن طريق الاستفتاء.
إنّ تحليل أساليب ممارسة سيادة الشعب عبر هياكله التمثيليّة المتمثّلة بالنسبة إلى السلطة التشريعية في مجلس النواب ومجلس المستشارين يدعونا إلى التوقف عند بعض خصوصيات مجلس النواب التي تميّزه عن مجلس المستشارين ثمّ التوقّف أيضا عند بعض خصوصيات مجلس المستشارين التي تميّزه عن مجلس النواب، ولكلّ خاصّية من هذه الخصوصيات ما يبّررها من حيث نظريّة سيادة الشعب مثلما سنبيّنه:
1-خصوصيّة تمثيلية مجلس النواب
يمتاز مجلس النواب باختصاصات تتجاوز دوره التشريعي التقليدي والمتمثل في سنّ القوانين، وهذه الاختصاصات تتمثّل أساسا في تنقيح الدستور (ممّا يعطيه صفة السلطة المؤسسة الفرعية) ومراقبة العمل الحكومي.
نعلم أنّ بإمكان ثلث أعضاء مجلس النواب أن يطلبوا تنقيح الدستور وأنّ مجلس النواب يوافق على مشروع التنقيح الدستوري حتى في صورة اللّجوء إلى الاستفتاء.
كما أنّ الدستور أسند إلى مجلس النواب إمكانية معارضة الحكومة في مواصلة تحمّل مسؤولياتها إذا تبيّن له أنّها تخالف السياسة العامّة للدولة وهو ما ينتج عنه تقديم لائحة لوم يمكن أن تؤدي إلى قبول استقالة الحكومة من قبل رئيس الجمهورية.
إنّ هاتين الخاصيّتين لهما تفسيرات تاريخية بلا شك، لكنّ تفسيرهما الدستوري يكمن في أنّ أعضاء مجلس النواب ينتخبون انتخابا عامّا ومباشرا بالتالي يكون من المنطقي أن يوسّع الدستور في التفويض المسند إليهم من الشعب صاحب السيادة ليشمل، إلى جانب العمل التشريعي، تنقيح الدستور ومراقبة العمل الحكومي.
ومن خصوصيات مجلس النواب التي لا بدّ أن نتوقف عندها أيضا هو أنّ النائب بمجلس النواب نائب للأمّة جمعاء وليس في هذه العبارة غرابة إذ يكفي أن نذكّر بأنّ مجلس النواب كان يسمّى مجلس الأمة[9]. وليس في عبارة "النائب بمجلس النواب نائب للأمة جمعاء" تكريسا ولو جزئيا لنظريّة سيادة الأمّة بل هو حاجز وقاية ضدّ الانزلاقات الممكنة التي يمكن أن تتعارض مع وحدة الدولة التي هي من مقوّمات السيادة.
إنّ النواب وإن انتخبوا في مستوى دائرة انتخابيّة معيّنة فإنّهم بمجرّد انتخابهم أصبحوا مفوّضين من كامل الشعب وليسوا مفوّضين من دائرة محدّدة وأصبحوا بالتالي يمثلون كلّ فئات الشعب وكلّ الدوائر الانتخابيّة وأيّ انحراف عن هذا المبدأ الدستوري الذي أقرّه الفصل 25 من الدستور يتنافى مع طبيعة السيادة المفوّضة إلى مجلس النواب.
2 - خصوصيات تمثيلية مجلس المستشارين
لقد تضمّن شرح أسباب مشروع التنقيح الدستوري الجوهري الذي عرض على مجلس النواب يوم 2 أفريل 2002، للتعهد بالنظّر فيه ثمّ الموافقة عليه قبل عرضه على الاستفتاء، جاء في هذه الوثيقة بأنّ إنشاء مجلس المستشارين يندرج في إطار "توسيع تمثيل الشعب في المجالس النيابيّة"[10] وبالفعل حصل هذا التوسيع بإقرار تمثيل غير مباشر للشعب من خلال الأعضاء المنتخبين عن الولايات وكذلك الأعضاء المنتخبين الممثّلين للقطاعات من أعراف وفلاحين وأجراء أيضا من خلال الأعضاء الذين يعيّنهم رئيس الجمهورية من بين الشخصيات والكفاءات الوطنيّة.
إنّ ارتباط مجلس المستشارين بممارسة سيادة الشعب أقرّه بصفة صريحة الفصل 18 من الدستور[11] وتؤكّده طريقة انتخاب أعضاء المستشارين الممثلين للولايات أو للقطاعات.
إنّ الهيئة الناخبة لأعضاء مجلس المستشارين الممثّلين للولايات والقطاعات لا بدّ من أن تنبع من انتخابات عامّة ينظّمها القانون وبالتالي أكّد الدستور أن هذه الهيئة الناخبة تتكوّن من أعضاء الجماعات المحليّة المنتخبين حيث يمكن للقطاعات أن تقدّم مرشّحيها مثلما هو الشأن للأحزاب التي تقدّم مرشّحيها في انتخابات أعضاء مجلس النواب. لكنّ الهيئة الناخبة لا يمكن أن تخرج عن الشرعية الانتخابية العامة، وبعبارة أدق لا يمكن أن تخالف تركيبة الهيئة الناخبة المبادئ الأساسيّة التي يرتكز عليها الدستور وتتعارض مع مقتضيات سيادة الشعب لو أقررنا مثلا هيئة ناخبة لا ينظّمها القانون ولا تستمدّ شرعيتها من انتخابات عامّة.
فكما لا يمكن باسم سيادة الشعب أن ينتخب أعضاء مجلس النواب من الأحزاب لأنّ النظام الداخلي للأحزاب هو نظام دون القانون منزلة والهيئة الناخبة للأحزاب ليست لها الشرعيّة العامّة، كذلك لا يمكن بالنسبة للقطاعات أن ينتخب ممثلوها عن هيئة ناخبة تخرج عن الشرعية الانتخابية العامة التي يساهم فيها كلّ المواطنين مهما كان القطاع الذي ينتمون إليه.
للمنظمات المهنية أن تقدّم مرشّحيها بكيفية تترك مجالا لاختيار الهيئة الناخبة. هذا ما أقرّه الدستور عندما بيّن "أن المنظمات المهنية المعنية تقدّم عددا من الأسماء لا يقلّ عن ضعف عدد المقاعد الرّاجعة إلى كل صنف" (الفصل 19 فقرة 3)
وللهيئة الناخبة المتكوّنة من أعضاء المجالس الجهويّة والمجالس البلدية المنتخبين أن تختار من بين المترشّحين لتمارس بهذا الاختيار السيادة المفوّضة إليها من الشعب تفويضا تمّ بالانتخابات الحرّة والعامّة والمباشرة.
ج‌- توسيع مجال الاستفتاء
يعتبر الاستفتاء أحد الأساليب التي تجعل الشعب يسترجع ممارسة السيادة بنفسه وليس عبر ممثليه فهو من هذه الناحية لا فقط دعم لسيادة الشعب بل رجوع إلى المفهوم الأصلي لهذه السيادة.
ورغم أن الدستور التونسي يقرّ سيادة الشعب وينصّ عليها في أكثر من موقع فإنّه لم يتضمّن في صياغته الأولى الصادرة في غرّة جوان 1959 أهم أسلوب من أساليب ممارسة السيادة وهو الاستفتاء. وأدخل الاستفتاء لأوّل مرّة في الدستور التونسي في 8 أفريل 1976 لكنّه كان في إطار محدود وهو إطار المعاهدات المبرمة في إطار وحدة المغرب العربي (الفصل 2 من الدستور) أو تلك التي لها تأثير على سير المؤسسات أو القوانين المتعلقة بتنظيم السلط العمومية.
وبمقتضى تنقيح الدستور في 27 إأكتوبر 1997 أصبح الاستفتاء أحد أساليب ممارسة الشعب للسلطة التشريعية. لكنّ الدستور لم يحصر الاستفتاء في المجال التشريعي البحت، بل أقرّ ثلاثة مجالات للاستفتاء وهي: الاستفتاء التشريعي والاستفتاء حول مسألة هامّة والاستفتاء الدستوري.
نتوقّف عند الاستفتاء الدستوري باعتباره الاستفتاء الذي طبّق إلى حدّ الآن وكانت نتيجته الإصلاح الجوهري للدستور في جوان 2002.
عندما نقوم بقراءة تاريخية لتنقيحات الدستور منذ إقرار الاستفتاء الدستوري سنة 1997، وإن كان ذلك يهمّ فترة وجيزة في حياة الدساتير (12 سنة)، فإننا نلاحظ بأنّه لم يقع اللجوء إلى الاستفتاء إلا عندما تعلّق الأمر بتنقيح جوهري للدستور، أما التنقيحات الجزئيّة وآخرها تنقيح الفصل 20 من الدستور الذي خفّض في سنّ الانتخاب فإنه تمّ حسب الإجراءات المعتادة في الدستور التونسي: مبادرة، إقرار مبدأ التنقيح بالأغلبيّة المطلقة، موافقة على مشروع التنقيح بأغلبيّة الثلثين تمّ قراءة ثانية بأغلبية الثلثين أيضا ثمّ إصدار في شكل قانون دستوري.
إنّ هذا الرجوع إلى الشعب عن طريق الاستفتاء يجسّم في الحقيقة ثقة في الشعب عبّر عنها بيان 7 نوفبر 1987 عندما أعلن الرئيس بن علي بأنّ "شعبنا جدير بحياة سياسيّة متطوّرة"[12].
الخاتمة:
نختم تحليلنا للدستور وسيادة الشعب بملاحظتين أساسيّتين:
- الملاحظة الأولى: نتبيّن من مختلف المسائل التي تعرّضنا لها والتي واكبت مختلف الإصلاحات الدستورية أن هناك تدعيم متواصل لسيادة الشعب، فكل تنقيحات الدستور باستثناء التنقيح الذي أقرّ الرئاسة مدى الحياة والخلافة الآليّة، تندرج في إطار موحّد وهو مزيد من السيادة لهذا الشعب.
- الملاحظة الثانية: هي نقيضة الأولى فهناك بعض الأقلام التي أصبحت تشكّك في السيادة، هناك من فقهاء القانون في أوروبا من انطلق من الاندماج الأوروبي ليقول بأنّ سيادة الدولة قد ولّت وأنّ السيادة اليوم هي للتكتلات الدولية وهناك أصوات أخرى، لا يمكن افتراض حسن النيّة فيها، تطعن في المساواة في السيادة وتعتبر أنّ هناك من الدول من لها سيادة قويّة تسمح لها بالتدخل، بتعلاّت لم تعد تنطلي، في شؤون الدول الأخرى.
- العنصر الأول المتعلق بالسيادة والاندماج الإقليمي يقتضي توضيحا قانونيا بالأساس: إنّ تجمعات الدول ليست نكرانا لسيادتها بل هو مجرّد تحويل لبعض اختصاصات الدولة إلى ممثل المجموعة سواء كان اتحادا إقليميّا أو كنفدراليّة.[13]
أكد المجلس الدستوري التونسي هذه القاعدة عندما نظر في مشروع القانون المتعلّق بالموافقة على بروتوكول الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان. بيّن المجلس الدستوري في رأيه عدد 32 لسنة 2007 المؤرخ في 28 أفريل 2006 والمتعلق بهذا القانون ما يلي: " وحيث أقرّ الفصل الأول من الدستور مبدأ سيادة الدولة، وحيث نصّ الدستور على جملة من الصلاحيات تمكّن الدولة من ممارسة سيادتها على النطاق الدولي من ذلك ما ورد بالفصل 32 الذي يكرّس التزام الدولة التونسية في نطاق معاهدات تخضع لإجراءات معيّنة(...) وحيث أن تقدّم تلك المعاهدات على القوانين لا يمكن أن يرتقي بإحكامها إلى مرتبة الدستور و لا يمكن بالتالي أن يترتّب عليه ما ينال من المبادئ الأساسية التي كرّسها الدستور أو ما يؤول إلى الحدّ من الصلاحيات الموكولة للمؤسسات الدستورية بقدر يمسّ بجوهر اختصاص الدولة داخل إقليمها كما أقرّه لها الدستور"
- ويقتضي العنصر الثاني جوابا سياسيّا وتاريخيا بالأساس فلقد بيّن لنا التاريخ أنّ التشكيك في السيادة هو مدخل للمساس بالسيادة واندثارها والتاريخ المعاصر يعطينا أمثلة عديدة على ذلك ألم ترتكز الحماية الفرنسية على مبدأ ازدواجية السيادة لتتحوّل واقعا إلى استعمار لا تزال العديد من فصول الدستور التونسي تحذّرنا من عودته.


الإحالات:
Voir: V. S. Goyard Fabre : "Jean Bodin et le droit de la république" 1989. [1]
Voir: Carré de Malberg : «Contribution à la théorie général de l'Etat» Paris- T1- (1920) – T1 (1922).2
[3]ينصّ الفصل الثالث من الدستور الفرنسي على أن "سيادة الأمّة ترجع إلى الشعب الذي يمارسها عن طريق ممثّليه وعن طريق الاستفتاء".
[4]مداولات المجلس القومي التأسيسي الصّفحة 19
[5] مداولات المجلس القومي التأسيسي- الصفحة الثالثة
[6] الفصل الخامس من الدستور
Cité par Jacques Maritain « L'Homme et l'Etat» [7]
« Lettres écrites de la montagne » [8]
[9] جاء بالفصل 18 من دستور غرّة جوان 1959 " يمارس الشعب السلطة التشريعية بواسطة مجلس نيابي يسمّى مجلس الأمّة "
[10] يراجع مداولات مجلس النواب عدد 33 لسنة 2002 – صفحة 1778
[11] جاء بهذا الفصل: " يمارس الشعب السلطة التشريعية بواسطة مجلس النواب ومجلس المستشارين "
[12] بين السابع من نوفمبر 1987
[13] لم تتح بعد الفرصة للمجلس الدستوري التونسي لكي ينظر في مسألة تحويل بعض اختصاصات الدولة إلى منظمة إقليمية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.