بقلم : محسن الكعبي لم يكن يعرف الشعب أي شيء عن المطبخ التونسي للمؤسسة العسكرية، إذ أن الحديث عن الجيش، كان بالأمس القريب من المحرمات، ولكن بمجرد أن انتفض الشعب ونجحت الثورة المباركة، تم اختراق هذا الحاجز النفسي وهذا الخط الأحمر، وانكشف المستور، وتجلت مأساة المئات من العسكريين ضحايا دكتاتورية بني جلدتهم وغيرها من ماسي استغلال النفوذ والتجاوزات، والعمل لحساب جهات خارجية مسبوقة الدفع بدعوى مقاومة «التطرف والإرهاب»، في حق المؤسسة العسكرية، التي ظلت على امتداد عقود من الزمن، في عيون الشعب من «المقدسات» لا يمكن التطرق لها بأي حال من الأحوال. للمؤسسة العسكرية بكافة الدول وضع خاص، فهي المالكة للقوة الخشنة، سلاحا وانضباطا، التي بفضلها تحمي ثغور الوطن، وتذود عن حدوده زمن الحرب وزمن السلم، وتبقى فيما بينهما ساهرة،مرابطة، تستخبر تحركات الخصوم أفرادا أو جماعات أو دولا لاستباق غاياتهم وأهدافهم وتستطلع ما استجد في عالم الحرب لمواكبة الجديد... وهي فضلا عن كل هذا وذاك،الممتلكة «لأدوات الخلاص» عندما يتعمم الظلم ويستشري الفساد، ويوشك الوطن على السقوط بالفوضى أو بيد الأجنبي، جراء حاكم ظالم فاسد تابع، كتاجر المخدرات ومستهلكها، الذي كان يتحكم في رقابنا طيلة 23 سنة،أو نظام مرتهن العزيمة، مستلب القرار كالذي كان عندنا قبل الثورة المباركة.. لكن، ورغم طابعها الحيوي الثابت، وخاصيتها الإنقاذية المؤكدة، فان ذلك لا يضفي على المؤسسة العسكرية صفة القداسة أو الطهرانية أو النزاهة، أو يجعلها، أو بعضا من مكوناتها « السامية» خارج القانون أو المحاسبة أو القصاص... لقد شكلت ظاهرة استغلال النفوذ سمة بارزة داخل المؤسسة العسكرية منذ عقود خلت، وخاصة منذ أن طالت هذه التجاوزات موارده البشرية النظيفة،حيث كانت حملات الإيقافات الكبرى الممنهجة سنتي 90 و91 في صفوف شرفاء الجيش الوطني من ضباط وضباط صف وجنود،قصد تهميشه وتقزيمه، شملت خيرة أبنائه،تم إيقافهم بالسجن العسكري بالعوينة ثم تم نقلهم فيما بعد من طرف زملائهم في السلاح ووقع التنكيل بهم في أقبية وزنزانات وزارة الداخلية، أين تعرضوا إلى حملات تعذيب تفوق في فظاعتها ما حدث في سجون أبو غريب في العراق، وفي معتقل «دلتا» في غوانتنامو، بدعوى الانتماء لحركة النهضة والتخطيط للانقضاض على الحكم. وقد تم إضعاف الجيش الوطني من خلال العدول والتخلي عن برنامج التجنيد الإجباري،خوفا من تسرب الإسلاميين إلى صفوف الجيش ومنعا لاستفادة هؤلاء من أية خبرة عسكرية في مجال استعمال السلاح والتدريب العسكري، إذ لم يتعد عدد المجندين سنويا 10 بالمائة ممن بلغوا سن التجنيد. ووقع إبدال التجنيد الإجباري بالتعيينات الفردية (قانون 1989 وقانون 1992 المنقح)، التي كان ريعها يذهب إلى جيوب عصابات اللصوص والمافيا في العهد الدكتاتوري البائد،مما عرض أمن البلاد إلى الخطر وأصبح عدد الإطارات يفوق عدد الجنود. وأضعفت الروح المعنوية لجيشنا حتى غدت الاستقالات في صفوفه تسجل رقما تصاعديا مثيرا للاستغراب والريبة... تكتسي هذه القضايا وغيرها أهمية بالغة الآن، باعتبار أن الرئيس المخلوع، و» الجنرال» القائد الأعلى للقوات المسلحة آنذاك،يمثل القدوة الحسنة في خرق القانون وانتهاكه، وهذه الصورة في حد ذاتها تسيء إلينا كلنا مدنيين وعسكريين، مباشرين ومتقاعدين،و تسيء إلى كل وطني غيور.. لقد كان الظلم والفساد والسرقة والنهب والتآمر والمحسوبية.. واستغلال النفوذ والمواقع، قاموس الجنود وعامة الناس عند حديثهم في الخفاء عن كبار المسؤولين في العهد الدكتاتوري البائد، عسكريين كانوا أم مدنيين.. اليوم وبعدما نجحت الثورة المباركة التي أسقطت الدكتاتور وعصابة اللصوص والمافيا، وبعدما انحاز الجيش إلى صفوف الشعب واختار مكانه الطبيعي في حماية الثورة وممتلكات الشعب، وكان بحق درعا لهذا الوطن ومبعث فخر لمنتسبيه الشرفاء، قررت أصوات حرة أبية شريفة كشف المستوروالمطالبة بفتح الملفات في ظروف إيقاف وتعذيب وطرد العديد من الشرفاء من المؤسسة العسكرية، وخاصة مسرحية» انقلاب براكة الساحل 91» المزعومة،التي كانت كيدية وجريمة في حق الشعب والجيش والوطن، فهي خيانة عظمى لمن اقترفها من كبار مسؤولي النظام آنذاك،و نخص بالذكر منهم عبد الله القلال وعلي السرياطي،ووزير الدفاع آنذاك الذي لا يمكن أن يكون خارج دائرة الاتهام وكذلك مساعدوه المدير العام للأمن العسكري ورؤساء الأركان الثلاثة آنذاك وكل من تثبت إدانته وكل من أطاع هواه، وباع دينه بدنياه. وإذا كان كل متهم منهم يأخذ من الصمت ملاذا آمنا، أيا كان موقفه من المؤامرة، فانه على هذا النحو يسهم في ضياع حقوقنا، خاصة متى تعلقت هذه الحقوق بما يقدمه المتهم وما يبديه من أقوال. وليس هذا فقط في الحالات التي يمكن أن يعترف المتهم فيها بالجريمة، بل أيضا في الحالات التي قد تقود أقوال المتهم للوصول إلى الفاعل الحقيقي وبذلك يعتبر المتهم مساهما في إنارة العدالة، بدل أن يكون حجرة عثرة أمامها. ولا يزال الكثيرون يقرون بان المؤسسة العسكرية لا زالت في حاجة ماسة للتغيير، وللشفافية في التسيير والتدبير، وإعادة التفكير في دواليبها حتى لا يقع اختراقها بسهولة مثلما حدث سنة 91، وفي دورها داخل المجتمع، لان اليوم ليس هو الأمس، ويتأكد هذا المطلب أكثر من أي وقت مضى، بفعل إساءة زمرة من الضباط القادة الذين باعوا ضمائرهم في بدايات حكم الطاغية سنة 87، لقائدهم الأعلى للقوات المسلحة آنذاك، وتخلوا عن مسؤولياتهم الجسيمة والتاريخية في سبيل نيل مكرمة من هنا أو سفارة من هناك، أو ترقية على حساب الوطن والشعب. وتآمروا على إخوانهم في السلاح مع جهات مشبوهة لتنفيذ أجندات إقليمية أو عالمية خسيسة ودنيئة، لتصفية الجيش من كفاءاته وموارده البشرية ذات الأيادي النظيفة والضمائر الحية الصادقة. لقد دمروا إخوانهم بدون رأفة ولا هوادة، بخطف وظائفهم، وبإقصائهم وتهميشهم، وبطردهم من المؤسسة العسكرية ومطاردتهم في الحياة المدنية،و بالقضاء على أحلامهم ومستقبلهم... ويظل أهم سؤال يتداوله الناس والشارع هو متى تتطهر المؤسسة العسكرية، وتنصف أبناءها ضحايا «مؤامرة براكة الساحل» وغيرها ؟ لقد سئمنا التقاضي والوقوف في باحات المحاكم لما يزيد عن 20 سنة، كفانا معاناة،لقد هرمنا...هرمنا في انتظار هذه اللحظة التاريخية، كما ورد على لسان ذلك الكهل الثائر الذي انتفض على الظلم والقهر والفساد، وخرج ذات يوم من أيام الثورة للاحتجاج ولمساندة مطالب الشعب بإسقاط النظام.. من اجل الكرامة والحرية والعدالة.