تونُسيٌّ مرّةً واحدةً.. تونُسيٌّ دُفْعةً واحدةً.. أوْ لا أكُونْ 1 تتعرض الثورةُ التونسية الأنيقة،التي كادتْ تحرّرُ عرَبَ المحيط والخليج قبلَ أنْ تهتدي إلى بناء دولتها المدنية وتركيز مؤسساتها الديمقراطية بما يلائمُ محليتها وكونيتها في آن،إلى مؤامرات صغيرة ومكشوفة من قبل عصابات رَعَوية دَعَوية عِدائية، بعضُها مهيكل، وبعضها الآخر حديثُ النشأة، وبعضها المتبقي ميّال إلى حيث تميلُ الرياح.. الميّالةُ بطبيعتها. 2 على رأس هذه العصابات يأتي الإعلام المحلي والعربي الذي يريد أن يفرض على شعبنا الثائر رؤى وقيادات مبرمجة سلفًا في ما يُسمّى بخطوط التحرير..هذه الخطوط التي بقيتْ مستقيمةً رغم مرور قطار الثورة على عظامها الهشّة..وكأن الثورات لا تصْلحُ لأن يقومَ الإعلامُ بقطيعةٍ مع أدائه السابق على حدوث تلك الثورات؟..وكأنّ الزمن مجرد قيلولة لا تتطلب من أصاحبها سوى المزيد من الاسترخاء والشخير؟. وعلى عكس تغطيته للثوراتِ المصرية واليمنية والليبية،في انتظار ما ستسفرُ عنه الثورة السورية والثورات التي يتعيّنُ أن تدُكَّ بلدان الخليج النفطي دَكّا صريحًا،دأبَ هذا الإعلامُ،بشقّيْهِ المحلّي والعربي،على الاستنقاصِ من شأنِ الثورة التونسية وذلك بالامتناع عن تأكيد هويتها كقاطرة للثورات العربية اللاحقة ثم بتجنّب إعطاء الكلمة لمن صنعوها من الشباب والنساء وممن لمْ تلوثه ماكيناتُ السلطة الساقطة من المفكرين والمثقفين والكتاب والفنانين الأحرار. وفي سياق هذا الجحود الإعلامي تأتي قناة»الجزيرة» و بعض القنوات التونسية على قائمة القنوات المذعورة من إظهار الأهداف الحداثية والدوافع التحررية التي قامت عليها الثورة التونسية. أما الصحف، أغلب الصحف، فالغالب على الظنّ، حسبَ ما نقرأ، أنها أبدلتْ أقلامَها الخشبية بأقلام أعمق خواء وأنصع كذبا، دون أن تجد أفكارا ثورية في رفوف ذاكرتها المتعوّدة على المدح والعبودية والتذلّل. 3 لكي يكون الثعبانُ الأوّلُ أوّلَ بالفعل يتعيّنُ أن نعثُر له على زميل ثانٍ..وها إننا بصدد مسْكِه من ذيْله بعد أن غادرَه رأسُه من شدّة الجبن والهلع إلى وادٍ غير ذي زرعٍ في قيظ الصحراء العربية: أنه التجمع غير الدستوري وغير الديمقراطي.. ذلك الحزب الذي حكم البلاد لستّة وخمسين عاما ولم يكفَّ يوما عن الادّعاء بأنه حزب الماضي والحاضر والمستقبل. بالأمس القريب قامت بعض المناظر المنتسبة إليه بمسيرة تطالبُ «بحقها» في الترشّح للمجلس التأسيسي القادم، مُستكثرةً على الهيأة العليا لتحقيق أهداف الثورة، واجبها الثوري في إقصاء قيادات التجمع من الفضاء الفوري للانتقال الديمقراطي الذي يتطلّب قطيعة أفقية وعمودية تامّة مع رموز الماضي. وهنا نسألُ هؤلاء التجمّعيين الذين كانوا في أغلبهم دساترة: متى كنتم تونسيينَ حقّا حتى تطالبوا بحقوقكم المدنية؟ ألم يكن التجمعُ وطنَكم الوحيد وتونسُ بلدَنا نحنُ الذين ثرنا عليكم يوم الرابع عشر من جانفي 2011 ؟ أليس مطلوبا منكم في هذه المرحلة،بالذات، تقديم مطالب للحصول على الجنسية التونسية بعد أن تبيّن أن «جنسية التجمع» لا تصلحُ لارتياد الحديقة الديمقراطية التونسية؟ مساكين هؤلاء التجمّعيون: يسرقون ولا يعترفون؟ يقتلون ولا يسلّمون أنفسهم إلى أقفاص المحاكم؟ يتحمّلون المسؤوليات الحزبية والحكومية على مدى عشرات السنين ثم حين تأتي المحاسبة يتذرّعونَ بأنهم كانوا دون السنِّ القانونية حين تمَّ تعيينُهم في تلك المسؤوليات.. ويشرعون في البكاء مثل التماسيح؟ 4 في أواسط الثمانينات من القرن الماضي كان لي كتاباتٌ عاصفة، وردودٌ لا هوادةَ فيها، وتعاليقُ تنبّهُ إلى الأخطار المحدقة بحرية الشعب التونسي ومصيره.. وقد سبّبَ لي ذلك أذًى بدنيا ومعنويا لن أنساه أبدا. كان محورُ تلك الكتابات والردود والتعاليق مُتعلّقا بجماعة النهضة التي ستكون موضوع حديثنا عن الثعبان الثالث الذي يتهدد الثورة. وهو يتهدّدها علانيةً بمشروع مجتمعي فلسفتُه الوحيدةُ: التحكّم في طرائق الأكل والشرب واللباس والنكاح والوضوء بما يتماشى مع تقاليد الأجداد في القرن العاشر للهجرة حيث كانت الطاعة والركوع شغلهما اليومي الوحيد..وكانت الآخرةُ بديلا عن الحياة ذاتِها؟ ربعُ قرنٍ مرَّ على هذه الدنيا وجماعةُ النهضة ،بقيادة: راشد الغنوشي والمتناقضِ حدَّ الفضيحة:عبد الفتاح مورو يُصرّحون بالشيء ونقيضه دون أن ينتبهوا إلى أننا نسمعُ، في كلامهم، ما لا إنسانيةَ فيه للإنسان ونشاهدُ،في شطحاتهم، ما لا أمنَ فيه حتى على الحيوان والجماد؟ لقد أفاقتْ الثورةُ التونسية منذ يوم 17 ديسمبر 2010.. ثم قامتْ..ثمّ طارتْ.. ثم سافرتْ إلى بقية البلدان العربية.. ومع ذلك لا يزال سلفيُو تونس بصدد فرك العيون والتكسّل والتّمطي في انتظار النهوض ولبس النعال وغسل الوجوه والتوجّه إلى الجوامع لأداء صلاة الفجر؟ لم يساهم هؤلاء السلفيون ولو بشهيد واحد خلال الثورة التونسية/ الشبابية/ العمالية/ الثقافية/ التقدمية، وكان عذرُهم إنهم مستهدفون، آنذاك، من قبل الطاغية وزبانيته، وما إن وفّرتْ لهم الثورةُ فرصةً للحياة بحرية وتأشيرة قانونية لحزبهم المتشظّي في فصائل عدّة، حتى شرعوا في تكفير رموزها التي فكّرت بها واشتغلت على تحقيقها. والسؤالُ الآنَ: كيف يمكن تكفير ثورة قامت على التفكير ثم الاستفادة من ثمارها فيما بعد؟ لقد اقترح علينا معمر القذافي،قبل أن تداهمه ثورة أحرار ليبيا،أن يحكمنا زميله زين العابدين بن علي مدى الحياة ثم تنازل،بفعل تنامي إيقاع الثورة،واقترح علينا أن نتمسّك ببن علي إلى مُوفّى سنة 2014،ثمّ لم يجدْ أفضل من راشد الغنوشي ليقترحَه زعيما لاحقا على التونسيين بعد أن أَجْبَر الشعبُ التونسي طاغيته على الفرار. وعلى الشعب التونسي أن يتفكّر مليّا في نصائح العقيد المسمومة هذه حين يتوجّه إلى انتخاب المجلس التأسيسي في شهر جويلية القادم. عندما كنّا نبدع نصوصنا ومسرحنا وأفلامنا وأفكارنا ونفرض، بين طيّاتها،شروط انعتاقنا كتونسيين،كان راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو ومن شابههما يقيمون مبارياتٍ في الحفظِ والتذكّرِ..إلى درجة أن الثورة فاجأتهم وهم في الخلاء: بلا فنّ وبلا فكر عدا فنون التلعثم و شروح الأسلاف التي تشرحُ شروحا تشرحُ،بدورها،شروحا سبقتْها..ولعلّ هذا ما يفسّرُ اعتداءات بعض مريديهم،خلال المدة القريبة الفائتة، على بعض الشعراء والكتاب والفنانين التونسيين الذين ساهموا في إبداع الثورة. 5 لم تقم الثورة التونسية على أيّ منوالٍ سابق، سواءً أكانَ إيديولوجيا أم دينيا، بل قادها الشبابُ والشعبُ والشعرُ من بدايتها إلى أن غادرتْ طائرةُ الجنرال سماء تونس، وغادرتْ حكوماتُ «مدى الحياة» فضاء القصبة، وغادر التجمّعُ جسدَ الدولة..وواضحٌ أنّ هناك فرْقًا لامعًا ولافتًا بين إرادة الركوعِ وإرادة الحياة. لا تزالُ هذه الثعابينُ الثلاثةُ تتشمّسُ،بحرية،في السّهول التونسية غيرَ مدركةٍ أنّه كان ظلاما دامسًا وأنّه كان خرابًا عَميمًا،وأنّ الثورةَ هي الشمسُ التي أنارتْ شمسَنا القديمةَ المُطْفأة.