تونس الصباح: عرضت الفضائية التونسية "تونس 7" أول أمس، برنامجا حواريا تحت عنوان : الحدث السياسي، تمت خلاله مناقشة الوضع الاعلامي في البلاد، على خلفية الارادة السياسية المعلنة لتطوير المشهد الاعلامي وتحسين أدائه.. ولا شك أن مثل هذه الحوارات مهمة، بل هي ضرورة حيوية في مجتمع مثل المجتمع التونسي الذي تعود على الحوار منذ بدايات القرن التاسع عشر، أثناء المد الاصلاحي الذي كانت النخب التونسية من بين رواده الرئيسيين في العالم العربي.. لكن هذه الضرورة الحيوية، تستمد كذلك من حاجة المجتمع والنخب والمشهد الاعلامي لمثل هذه الحوارات التي تهم الشأن العام الوطني، وفي مقدمتها الملف الاعلامي، الذي يعدّ أحد أبرز الملفات التي تحتاج إلى النقاش الجدي والعميق والمسؤول في آن معا، بعيدا عن المزايدات أو منطق "ليس في الامكان أحسن مما كان".. غير أن هذا الملف، يثير الكثير من التساؤلات والاستفهامات، سواء في مستوى أسلوب المعالجة، أو مضمون النقاش، أو نوعية الحضور وبالتالي معايير اختيار الضيوف وانتقائهم من بين عشرات بل مئات من الاعلاميين والمتخصصين في الحقل الاعلامي في بلادنا.. ويمكن للمرء أن يسوق في هذا السياق، جملة من الملاحظات الاساسية، التي قد تساعد على تطوير الحوارات التلفزيونية وتفتح النقاش الجدي بشأنها.. ملاحظات شكلية .. مهنية من حيث الشكل، لا يبدو ان الحاضرين في هذا الملف، مختلفين فعلا حول واقع المشهد الاعلامي.. صحيح أنهم يمثلون بعض الاحزاب والهياكل والمؤسسات الصحفية والمنظمات، لكنهم لا يعكسون بأي حال من الاحوال المشهد الاعلامي في تعدده واستقلالية بعض مكوناته والتباينات التي تشق الفاعلين فيه.. وإذا ما شاء المرء دقة أكثر، يمكن القول إن مواقف أغلب الحاضرين، تعكس وجهة نظر متقاربة عرفت عنهم منذ سنوات عديدة.. من حق هؤلاء وغيرهم أن يتبنوا وجهة نظر ما، لكن تقديم هؤلاء على أنهم يمثلون تعددية المشهد الاعلامي، فيه الكثير من المبالغة وعدم الدقة، فضلا عن كونه اختزال مخل بالمشهد التعددي الفعلي في البلاد.. لم نلحظ حوارا، بما تعنيه هذه الكلمة من اختلافات في وجهات النظر، ومقاربات وتباينات متعددة، بل كان ثمة تعبيرات مختلفة حول وجهة نظر واحدة، يدعم بعضها البعض الاخر ويفسره ويحلله ويناقشه من دون الخروج عليه أو تجاوزه.. إنه دوران في نفس الفلك، كما يقول المثل العربي القديم.. وتبقى الاشارة الاساسية في هذا البرنامج، من حيث الشكل دائما تتعلق بمنشطه الذي لا نعرف عنه معرفة بالشأن التلفزيوني، ولا بالحوار والجدل، خصوصا أن بعض ما حبّره في الصحافة، كان يمثل وجهة نظر محددة، بل إقصائية في بعضها.. ولا نعتقد أن الحوار التلفزيوني يمكن أن يتقدم بتنشيط من هذا القبيل، سيما وأن الرجل يتحدث في البرنامج أكثر من الضيوف، ويطرح عليهم تساؤلات هامشية، بل إنه يقطع الحوار عندما يكون في اتجاه إيجابي، بالاضافة إلى "استنباط" تساؤلات في غاية الغرابة وتدعو أحيانا إلى الامتعاض، ليس لانها ضد مسار الحوار وسياقه فحسب، ولكن لانها مسقطة وتعكس موقفا من الموضوع المثار، في الوقت الذي يفترض أن يكون المنشط في مثل هذه الحوارات، محايدا.. هذا إلى جانب تلك التعاليق التي يجود بها بين الفينة والاخرى على الحضور، تعاليق استفزازية فيها في بعض الاحيان مساس بحجم الحضور وقيمتهم الرمزية سواء كإعلاميين أو نخبا أو سياسيين.. إن لادارة الحوار في التلفزيون، تقنيات وحدّا أدنى من المهنية، من الضروري مراعاته صلب التلفزيون التونسي، سيما ونحن في عصر الفضائيات والصناعة التلفزيونية التي باتت فيها البرامج الحوارية، صناعة متقنة ودقيقة وليست مجرد ترصيفا للكلام والجمل والمواقف والتعاليق التي لا طائل من ورائها.. لقد كشف هذا البرنامج، أو هو أكد بالاحرى، أن ملف الاعلام مثقل بعديد التراكمات والاشكاليات، بل هو مثل ذلك البنيان المرصوص الذي إذا ما حاولت الاقتراب من أحد أركانه، تداعت لك بقية الاركان وتهاوت أمامك حجرة حجرة، ولذلك كلما حرص البعض إخفاء جوانب معينة من المشهد، كلما أطلت جوانب أخرى أكثر تعقيدا وصعوبة.. لكن الرغبة أيضا في تناول هذه الاشكاليات في ملف واحد وفي توقيت محدود، وبذلك العدد المكثف من الحضور، أسقط البرنامج في نوع من التبسيط والطروحات الهامشية.. جوانب حول المضمون على أن برنامج "الحدث السياسي"، أثار الكثير من القضايا التي لا يمكن للمرء أن يمر عليها نظرا ل "خطورتها" الفكرية والسياسية والاعلامية.. فباستثناء السيدين يوسف علوان والعروسي النالوتي اللذي تميزا بكثير من الموضوعية في مداخلاتهما، وأبديا الكثير من الرصانة في مواقفهما، وبالاضافة إلى الزميل الحبيب الشابي، الذي كانت له تدخلات مهمة (عبر الريبورتاج) الذي وقع بثّه، برزت معظم المداخلات بخطاب أقرب للغوغائية منه إلى التحليل العقلاني الهادئ، خطاب ظاهره البحث عن إعلام جاد، وباطنه التأكيد على أنه "ليس بالامكان أحسن مما كان"، وأن علينا أن نلعن اليوم الذي جاءت فيه الفضائيات لانها "مدسوسة" و"متطرفة" و"متخلفة"، وهلم جرا من الاصطلاحات والاستخدامات اللغوية التي تحيل على الرضا بالامر الواقع الاعلامي الراهن على اعتبار أنه الاجود والانفع والافضل حتى قياسا بما هو موجود في الدول المتقدمة (هكذا؟!).. إن الاعلام دينامكية اجتماعية وثقافية وسياسية، ولا يمكن أن يكون قالبا جاهزا، ولذلك يعجب المرء من مقاربة المدير العام للتلفزة عندما يتحدث عن وجود منظومة إعلامية سليمة في تونس لا مجال للمقارنة بينها وبين ما يجري في إعلام بعض الدول العربية، واصفا بعض التجارب الاعلامية العربية، التي لم يسمها بكونها "تعيش على التنفيس"، ومحذرا من خطورة هذا النوع من الاعلام.. وهنا يتساءل المرء بوضوح، عما إذا كان من الممكن أن تعيش بعض الدول على سياسة التنفيس بشكل مستمر؟ ثم أليس بوسع التنفيس أن يراكم تجربة هامة في الاعلام ايضا؟ لقد برزت خلال البرنامج، وجهة نظر تدعو صراحة لنوع من الاقصاء في المجتمع وفي التمثيل التلفزيوني.. وإلا ما معنى رفض التلفزيون تشريك شخصيات متباينة مع الدولة، في الوقت الذي تنص قوانين البلاد على التعددية السياسية والحزبية، وفي الوقت الذي أقدمت الحكومة على الاعتراف ببعض الاحزاب قانونيا وسياسيا؟ هل يمكن تبرير هذا الخطاب الاقصائي بمجرد القول إن الدولة مختلفة مع هؤلاء، أو أن هؤلاء مختلفون حول قيم الجمهورية؟ هل أن المؤمنين بخيار النظام البرلماني على سبيل المثال لا الحصر لا يمكن أن يكون لهم موطئ قدم في التلفزيون، الذي هو مرفق عمومي، يدفع الناس بما في ذلك هذه النخب من أموالهم لتمويله؟ ثم كيف نفسر دعوة الدولة نفسها وتشريكها لهؤلاء في بعض القضايا والملفات والخيارات الوطنية؟ من الواضح أن ثمة "لخبطة" واضحة في أذهان البعض بشأن المشهد الاعلامي، لكن الاخطر من ذلك هو تمسك البعض بالاقصاء منهجا في التعامل مع النخب التونسية وبعض المعارضين، في الوقت الذي تبدو الحكومة أكثر انفتاحا وأكثر استعدادا للحوار من المسؤولين على التلفزيون.. يبدو ونتمنى أن نكون مخطئين أن البعض نسي أنه يتحدث أمام الكاميرا في ألفية جديدة، بتحولاتها وتطوراتها وتقلباتها، لان البعض مما سمعنا يحيلنا على فترة الستينيات عندما كان ينظر للمجتمع التونسي على أنه أمّي لا يفهم وليس لديه الوعي السياسي اللازم، وبالتالي لا بد من أن يكون ثمة أوصياء عليه.. لقد كشفت هذه النظرة عن وجود هوة سحيقة بين الخطاب الرسمي الذي ما انفك يدعو للانفتاح والحوار، وبين بعض الحضور ممن لم يستوعبوا بعد، أن التحولات الحاصلة في البلاد منذ ما يزيد عن عشرين عاما، جرفت هذه المقاربات منذ اللحظة الاولى لسقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار جدار برلين، بحيث لم يبق منها إلا الذكريات الاليمة وبعض الافكار التي لا تصلح حتى للمتاحف فضلا عن استخدامها وتسويقها إعلاميا بهذه الصورة الفجة.. إن الملف التلفزيوني الذي بثته قناة تونس 7 أول أمس، ينبغي أن يوضع "بين قوسين"، لانه يهدد بعض الانفتاح الحاصل في الاونة الاخيرة، وينذر بسلوكيات جديدة، شعارها مزيد من الاقصاء، مزيد من المنع، مزيد من الانغلاق، وهو ما لا ترضاه الحكومة ولا تحتاج إليه البلاد..