لو أن المتتبع للشأن الموسيقي أراد - اليوم - أن يحصي أو أن يضبط ملامح المشهد الغنائي - الفني في مرحلة ما بعد الثورة لوجد نفسه - من جهة - أمام كم من «التحركات» المهنية النقابية الصرفة - المنظمة والفوضوية أحيانا - التي نظمها «أهل المغنى» - على امتداد الأشهر التي تلت انتصارها - من أجل ما يسمونه «حماية» المهنة والدفاع عن حقوق الفنان المادية والمعنوية مقابل - من جهة أخرى - ضمور واضح في مجال الانتاج والتفاعل ابداعيا وموسيقيا مع حدث الثورة ذاته والاحتفال بانتصارها.. وما من شك أن هذه «الظاهرة» (ظاهرة تضخم التحرك المهني القطاعي الاصلاحي) تبدو مفهومة - في أحد جوانبها - على اعتبار أن ثورة 14 جانفي هي - في العمق - ثورة تحرر ورفض لمنطق الغبن الاجتماعي ولكل أشكال ومظاهر التهميش والتدجين... ولأن الفنانين والموسيقيين ينتمون الى قطاع قد يكون طاله بدوره ما طال باقي القطاعات من «خور» وفساد هيكلي وتنظيمي ومادي على عهد دولة الفساد والاستبداد.. فان انكباب هؤلاء - على امتداد الأشهر التي تلت انتصار الثورة -على «تدارس» وضعية قطاعهم واعطاءهم الأولوية - بالدرجة الأولى - لمسألة اعادة تنظيمه تبدو «مشروعة» بالكامل... على أن اللافت - هنا - أن فنانينا وموسيقيينا قد استغرقتهم بالكامل هذه المهمة أو تكاد ولم يسمع لهم الانسان التونسي على امتداد الأشهر الأربعة الماضية انتاجا غنائيا موسيقيا عميقا وجادا يمكن أن يكون بمثابة الأهزوجة الجميلة المهداة من طرفهم (الموسيقيين) الى الثورة والشعب تتغنى بالثورة وببطولة شهدائها... نقول «انتاجا موسيقيا غنائيا عميقا وجادا» لأنه كانت هناك «محاولات» قليلة في هذا الباب.. فقد بادر- بالفعل - بعض الشعراء والملحنين وقدموا أغاني «سريعة» حاولت «التعاطي» موسيقيا مع حدث الثّورة وانتصارها ولكنها لم تكن لا في مستوى «اللحظة» ولا «الحالة» ولا الانجاز الثوري.. بدليل أنها أغان مرت في الخفاء وبقيت مجهولة تقريبا ولم تصنع الحدث الفني... فلماذا - يا ترى - لم تطف - والى حد الآن - أغنية واحدة أو أهزوجة أو نشيد يتغنى بثورة 14 جانفي انبهر به الناس وتلقفوه وجعلوا يرددونه مثلما هو الشأن - مثلا - لنشيد «بني وطني» الخالد؟
«صدمة» وإرباك
قبل محاولة الاجابة عن هذا السؤال لا بد من الاشارة الى أن العديد من الفنانين والموسيقيين التونسيين الذين فاجأتهم الثورة مثلما فاجأت غيرهم من المثقفين والسياسيين ظلوا على امتداد الأشهر التي تلت انتصارها في ما يشبه الصدمة أو لنقل «شبه مربكين» وقد تكون زادتهم ارباكا «موجة» الاتهامات التي طالت البعض منهم ( من النجوم والأسماء الكبيرة في سماء الأغنية والموسيقى التونسية خاصة) والتي تصنفهم في قائمة «الموالين» للنظام السابق... طبعا، لم تكن هناك «قائمة عار» رسمية بخصوص أسماء محددة لهؤلاء - مثلما وقع في مصر بعد الثورة - ولكن، ومع ذلك فان الكثير من الموسيقيين ونجوم الأغنية التونسيين وجدوا أنفسهم مشغولين - أساسا - بنفي هذه التهمة والتبرؤ منها مثلما هو الشأن للفنان لطفي بوشناق وصابر الرباعي وأمينة فاخت وصوفية صادق - على سبيل الذكر لا الحصر -... ربما كان لهذا «الأمر» دخل فيما نسميه «حالة الارباك» التي طبعت - ولا تزال - الأداء الفني والابداعي لعديد الموسيقيين والفنانين التونسيين على امتداد الأشهر القليلة الماضية والتي جعلتهم لا يرتقون الى مستوى «اللحظة» التاريخية ابداعيا ولا يقدمون - بالتالي - انتاجا غنائيا موسيقيا يتغنى بالثورة ويردده التونسيون جيلا بعد جيل.. لكن هذا لا يشفع - طبعا - وبأي شكل من الأشكال - لهؤلاء وغيرهم من الفنانين والموسيقيين الذين يبقوا مطالبين بتقديم عمل موسيقي غنائي راق فنيا وشعبي وجدانيا - في نفس الوقت - تحية للثورة - من جهة - وتعبيرا عن ولائهم لها واعترافا بجميل شهدائها الأبرار عليهم وعلينا جميعا - من جهة أخرى -. ان الثنائي لطفي بوشناق وآدم فتحي - مثلا - لقادر وبامتياز - في رأينا - أن يقدم للثورة هذا «العمل الفني» المنتظر.. ولسنا ندري - حقيقة - ماذا ينتظران ليخطا في سجل الأغنية التونسية الوطنية انتاجا يكون - تاريخيا - في قيمة نشيد «بني وطني» الخالد.. فثورة جانفي المجيدة هي حدث تاريخي عظيم - نعم عظيم - في مسيرة تونس وشعب تونس تماما مثلما كان حدث «معركة بنزرت» تاريخ بارز ومفصلي في مسيرة حركة التحرير الوطني.. سنبقى ننتظر...