تستغرق الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والإنتقال الديمقراطي وقتا أطول في السّجالات والمشاحنات والجدل أكثر مما تستغرقه في تحقيق الأهداف التي تستمد منها شرعية وجودها. فالأخبار الطاغية حول عمل هذه الهيئة لا تتعلّق بإحصائيات حول انجازاتها بقدر ما تتعلق بالخصوص بالإنسحابات وبالصّراعات ومحاولات المصالحة بين الفرقاء والمحاولات التوفيقية وغيرها من الأمور التي تستنزف الوقت والأعصاب. يحدث ذلك في الوقت الذي كان من المفروض أن المشاحنات قد زالت مع الصباح الجديد الذي بشرت به الثورة الشعبية بالتقاء شخصيات وممثّلين عن مختلف القوى الحية بالبلاد من المفروض أن تجمع بينها الإرادة في تغليب مصلحة البلاد وتحقيق الأهداف التي خرجت من أجلها الجموع إلى الشارع ودفعت ثمنا باهضا لأجلها. من المعروف أن الهيئة العليا وإن كانت ليست من افرازات صندوق الإقتراع العام والحر والمباشر مما يعني أنها لا تمتلك الشرعية الكاملة أمام الشعب فإنها اكتسبت شيئا من المشروعية لسبب أساسي يتعلق بالمهمة التي أوكلتها هذه الهيئة لنفسها والمتمثّلة في تحقيق أهداف الثورة. لكن الهيئة العليا التي كانت ولادتها عسيرة بسبب الجدل حول تركيبتها وتمثيلية الأحزاب والجمعيات والمنظمات والمستقلين وغيرهم ما فتئت تقدم صورة لا تخدمها مثلما لا تخدم صورة البلاد بعد الثورة. يمر الوقت منذ 14 جانفي سريعا دون أن نرى ما من شأنه أن يجعلنا نطمئن إلى أن الهياكل التي نصبت نفسها وصيّة على مستقبل الشعب تستمع فعلا إلى نبض الشعب. إننا نكاد نشك اليوم إن كانت أغلب الهيئات والتشكيلات السياسية والحركات الناشطة بالساحة السياسية تتقاسم مع الشعب التونسي نفس الحرقة ونفس التطّلع إلى العهد الذي دفع من أجله الثمن كبيرا. لم نر علامات تدل على أن هناك إرادة في اختصار المراحل أمام الشعب التّونسي الذي أخذ على عاتقه مسؤوليّة محاربة دولة الفساد وقلع الديكتاتورية وكان في طليعة المواجهة خلال الثورة في غياب القيادات الحزبية ومختلف الزعامات التي اكتفت في أغلبها بالمتابعة من بعيد. لا نرى اليوم إرادة كافية من الأحزاب ومن مختلف القوى التي تصدّرت للتحكّم في قدر التونسيين للتعجيل في تمكينهم من استثمار ثورتهم والمرور إلى الديمقراطية مباشرة وتقصير المسافات للمرور إلى الديمقراطية التي باتت تلوح بعيدا بعيدا.