يبقى الفنان نورالدين الباجي قيمة صوتية وفنية ثابتة في الساحة الغنائية التونسية رغم ما يعيبه عليه البعض بتعلة أنه رغم مسيرته التي تجاوزت العقد الرابع فإنه لا يملك رصيدا كافيا من الإنتاجات الخاصة التي تؤهله ليكون ضمن الفنانين الفاعلين في الساحة وأنه يعيش على أغاني القدامى والفنانين الراحلين. قدم نور الدين عرضا بقصر العبدلية بالمرسى مساء أول أمس في إطار ليالي قرطاج. وغنى فيه ما يقارب الساعتين أمام عدد متوسط إن لم يكن قليلا من الجماهير معتمدا على امكانياته الصوتية الكبيرة. انطلق الحفل على الساعة العاشرة ليلا بمقطع من لحن لأغنية «أنساك لأم كلثوم» التي لحنها الراحل بليغ حمدي كانت تمهد لتهيئة الحاضرين لنوعية معينة من العروض الموسيقية والغنائية التي تنتصر وتشدو بما هو طربي وراق ومتميز. استهل نورالدين الباجي الحفل بأغنية «يا نسمة الحرية» أرادها تحية لتونسالجديدة ولكل تونسي يتوق إلى الحرية والكرامة ويناهض الديكتاتورية والظلم والفساد بما في ذلك فساد الذائقة الفنية. ورغم ما بدا عليه من ذهول وتأثر بمحدودية عدد الجماهير الحاضرة من خلال الحركات المعبرة على التساؤل والاستغراب إلا أنه سريعا ما انصهر مع أجواء وطقوس العرض في أول مناسبة تتاح له لتقديم عرض بمفرده في إطار مهرجان قرطاج الدولي رغم عروضه الكثيرة في التظاهرات الأخرى. فكان العرض متنوعا وثريا وشاملا ضمّنه صاحبه ألوانا مختلفة من الأنماط الموسيقية التونسية والعربية أو من إنتاجه الخاص الذي يتفق ويصب في خانة الذوق المتميز والأغاني والإيقاع الموسيقي الطربيين. قدم نور الدين الباجي باقة من الأغاني الطربية لرموز الأغنية العربية أعادت الحاضرين إلى زمن الفن بما يعنيه من إبداع وطرب وتميز فغنى للقضايا الإنسانية وللوطن وللمحبين والعشاق. فأقنع وأمتع على غرار أغاني محمد عبد الوهاب في «قالولي هان الود عليه»و»إجري إجري» والفنان القدير محرم فؤاد من خلال آداء أغنيته»من كم ليلة من كم يوم واحنا بنستنى دا اليوم» وغيرها من الأغاني المنتقاة لجمهور متعطش لهذه النوعية من الأغاني ومستوى العروض لا سيما أن لنورالدين الباجي جمهوره الخاص. ونظرا ليقينه بأن الجمهور الحاضر جاء خصيصا لسماع الأغاني الطربية التي عرف بها فقد عمد إلى المراوحة بينها وبين إنتاجه الخاص الذي لم يحد عن الذوق والاختيارات المميزة لهذا الفنان الذي كان من بين الأوائل من الفنانين التونسيين الذين تحصلوا على ديبلوم الموسيقى العربية ولم تستهوه مغريات الألوان الغنائية الأخرى التي وجدت النفاذ إلى الذائقة والانتشار لدى نسبة كبيرة من المتلقين في تونس خاصة والعالم العربي عامة . ومن بين إنتاجاته الخاصة التي غناها في هذ العرض وهي من تلحينه الخاص نذكر «ما أقدرش» و»الويل» التي يقول فيها:» العمر مهما طال ما نحبو...وعمري أنا موال غنيتو للعاشقين» و»علاش قلبي ما تهناش» أو» يا قلبي ارتاح». طقوس خاصة أطرب نور الدين الباجي كعادته الجمهور من خلال آداء المواويل التي يعرف سر آدائها جيدا حتى أن الحاضرين لم يتفطنوا في مناسبات كثيرة إلى أن الفنان كان يغني دون مضخّم للصوت بسبب العطب الفني الذي ما انفك يحدث خلال السهرة. ولم يستثن الباجي الأغنية التونسية من برنامج عرضه. حيث غنى لعلي الرياحي «يعيشها ويحميها» «وأنا كالطير». كما كان للون الصوفي والموسيقى الروحية حضور قوي في هذه السهرة تسلطن فيها نورالدين الباجي وحمل فيها الحاضرين إلى رحلة انتشاء واستمتاع كان لجمالية صوته والتنفيذ الموسيقي المتقن للمجموعة الموسيقية المرافقة له دور في إضفاء مسحة جمالية نادرة على العرض. فغنى «الليل زاهي» وعلى طريقته الإبداعية المعهودة و»جارت الأشواق يا أحبابي» ويا فارس بغداد». وساهم الحاضرون وأغلبهم من أهل السماع الجيد في إنجاح العرض من خلال التفاعل مع كل الأغاني والإيقاعات سواء بالترديد والغناء أو التصفيق والتكبير أو الإنصات تاركين قدرهم في لحظات الاستمتاع إلى فعل ومشيئة الأنغام والموسيقى والآهات كطقوس أتقن الباجي توظيفها على ركح فضاء العبدلية الموغل في التاريخ والحضارة. وطالب الجمهور ببعض الأغاني من قبيل «علي جرى» وبعض أغاني أم كلثوم والهادي الجويني إلا أن الفنان خيّر الالتزام بالبرنامج الذي أعده للغرض. موقف نور الدين الباجي إثر نهاية العرض وما إن نزلت قدما نورالدين الباجي من الركح حتى بادر بسؤال كل من يعترضه عن ردود أفعال الحاضرين ومدى قدرته على الإقناع وتقديم عرض يكون في مستوى انتظاراتهم وعن الأجواء العامة خارج فضاء قصر العبدلية حتى أن البعض خاله متخوّفا من شيء ما. عبّر نور الدين الباجي كذلك عن استغرابه من حضور عدد قليل من الجماهير لهذا العرض حيث قال: «هناك عوامل كثيرة ساهمت في حرمان أعداد كبيرة من الجماهير التونسية التي انتظرت هذه الفرصة للتلاقي في إطار مهرجان قرطاج الدولي من الاستمتاع بعرض موسيقي وغنائي متميز على جميع الأصعدة أبرزها أن هذا العرض تمت برمجته وسط أيام الأسبوع ولم يحظ بالدعاية الإعلامية اللازمة». وأضاف: «شعرت بإحباط كبير لما شاهدت أمامي كراس فارغة لأني لا أستطيع أن أغني وأقدم المطلوب في ظل تلك الظروف». وأكد أنه لم يقدم سوى نسبة قليلة من طاقاته وإمكانياته في السهرة وأنه كان قادرا على تقديم سهرة غير قابلة للنسيان في تاريخ المهرجان أو بالنسبة للحاضرين لو وجد العرض الدعاية وظروف وممهدات إنجاحه اللازمة.