بدون طلاسم أو تعاويذ، فقط بصوتها الطروب و حنجرتها الذهبية و بحضورها الأنيق استحضرت الفنانة درصاف الحمداني ليلة الخميس في سهرة رائقة، استحضرت روح الراحلة الكبيرة الفقيدة العزيزة على عشاق الفن العربي الراقي، الفنانة العربية اسمهان . كانت روح الفنانة اسمهان التي كانت أميرة المنشئ و أميرة في مظهرها وأميرة بفنها ترفرف تلك الليلة بحدائق خير الدين أمام حضور أخذ منه صوت الفنانة درصاف الحمداني مأخذا فانتشى وصفق وقضى وقتا ممتعا حوالي ساعة و نصف أي المدة التي استغرقها العرض الذي قدمته درصاف الحمداني خلال الدورة الجارية (الدورة9 ) لمهرجان المدينة. كان العرض عبارة عن تحية إلى الفنانة اسمهان التي رغم عمرها الفني القصير وكما يعلم محبوها تركت رصيدا من الأغاني جعل منها علامة بارزة في تاريخ الأغنية العربية . تملك أغاني اسمهان التي كانت محظوظة في مسيرتها الفنية بأن وضع الفنان الكبير وشقيقها فريد الأطرش عبقريته في التلحين بين يدي هذه الأميرة التي أدخلت على الساحة الفنية بحضورها الأرستقراطي رونقا خاصا، تملك ذلك السر في أنها كلما تقدم الزمن إلا وكانت هذه الأغاني في قلب العصر .موسيقى خالدة وأنغام تسري إلى الأعماق لا تجد أي عناء للوصول إلى قلب الجماهير مهما أخذها العصر بعيدا أو ألهاها عن الفن الأصيل . فن يستعصي على العامة من معشر الفنانين لم تعرف أغاني هذه المطربة الكبيرة الصدأ ولكنها تبقى مستعصية على العامة من معشر الفنانين . فليس من السهل آداء أغاني اسمهان التي تبقى شرقية في روحها ومنفتحة على موسيقات العالم بما فيها الموسيقى الغربية الكلاسيكية و غير الكلاسيكية والموسيقى اللاتينية بأشكالها المتعددة و غيرها... أغان فيها بحث و كثير من الإبداع وهي بدورها أي الفنانة الراحلة كانت عبارة عن «ديفا» حقيقية . صوت بمساحات كبيرة وأداء في مختلف الطبقات و حضور أنيق ومثير للإعجاب وقدرة عجيبة على تلوين صوتها و تنويع طريقة آدائها مع الحفاظ على حلاوة الصوت و خاصة ذلك الشجن الذي يخرج من الأعماق وينعكس على ملامح وجهها الحزين. وقد كانت اسمهان نجمة في عدد من الأفلام الإستعراضية المصرية التي جمعتها بكبار النجوم المسرح والسينما في المنتصف الأول من القرن الماضي لعل أبرزهم يوسف وهبي . مما جعل صورتها ترسخ لدى الكثيرين ممن هدهدتهم تلك الأفلام الرومنسية. أغاني اسمهين تبقى قيمة في بورصة الأغاني العالمية فهل هناك من ينكر مثلا على أغنية على غرار «ليالي الأنس في فيانا» بلوغها القمة من حيث الشكل و الكلمات والآداء بصوت اسمهان ثم ألا تعتبر أغنية «عليك صلاة الله و سلامو» جزءا من التراث الفني العربي. وبصفة عامة يصعب التمييز بين هذه الأغنية و تلك من رصيد اسمهان ذلك أن كل أغنية هي عبارة عن قطعة فنية تزداد قيمة وتعتقا مع مرور الأعوام والعقود . ووعيا منها بقيمة هذه النجمة السيارة في عالم الغناء العربي وهي الفنانة التونسية المثقفة والموهوبة فإن درصاف الحمداني كانت تلف هذه الأغاني التي قدمتها هدية لجمهور مهرجان المدينة في القطن والحرير .بصوتها العذب أنشدت بحب كبير وبإحساس أكبر مجموعة من أغاني اسمهان . أناقة الأميرات وأيقونة الفن العربي لقد لبست هذه الشخصية وتلبست بها حتى تهيء لنا أحيانا أننا نستمع إلى اسمهان . لم يكن ليتسنى لها ذلك لو لم تكن هي بدورها أي درصاف الحمداني تملك نفس الخصال وربما قد تتجاوز هذه الأيقونة الفنية في يوم ما والطريق لا تزال أمامها طويلة إن تسنى لها بدورها أن تكون محاطة بشعراء كبار وملحنين على غرار فريد الأطرش ومحمد القصبجي وغيرهم كانت درصاف الحمداني تؤدي براحة تامة. صوتها ينبعث بكامل سطوته على السامعين الذين كم صفقوا لها ليلتها .أطلت على الجمهور بثوب أحمر في الجزء الأول من السهرة ثم ارتدت ثوبا أخضر أنيق في الجزء الثاني .فلئن كانت اسمهان معروفة بصوتها فإنها معروفة أيضا بأناقة الأميرات والحضور الأرستقراطي المهيب. لا ينقص الفنانة درصاف الحمداني الكثير من هذه الخصال والأهم من ذلك كله أنها تضاهي اسمهان في الصوت من حيث قوته وحلاوته .لم نكن نشعر أن درصاف الحمداني كانت تقلد هذه الفنانة الموهوبة التي تحولت بالفعل إلى أيقونة بل تكاد تكون مختلف هذه الأغاني: «امتى حتعرف و يا حبيبي تعال ويا طيور و أهوى» وغيرها لكأن هذه الأغاني قد صيغت في الأصل لها ومن أجلها.. ولعل أجمل قطعة على الإطلاق في هذا العرض تلك التي روت فيها غناء قصة الرسول صلى الله عليه و سلم والصبي اليتيم . كانت تبث إحساسها وتؤدي بجوارحها وهي مجبولة على ذلك بما أنها تملك ذلك الصوت الذي وصفنا .كانت درصاف الحمداني مرفوقة بمجموعة موسيقية مختزلة من حيث العدد عزفوا على الكمان و العود والكنترباص والتشلو والقانون والأكورديون وهي بدورها قد ضربت في مرات على البندير خاصة عند آدائها لأغنية «عليك صلاة الله وسلامو». لكن هذه المجموعة قد نجحت في تنفيذ موسيقى حملت الجماهير إلى زمن مليئ بالذكرى والحنين . لا بد من الإشارة إلى أن الحضور كانوا في أغلبهم على ما يبدو من هؤلاء الذين تشدهم هذه الموسيقى وتأسر قلوبهم .لا ننسى كذلك الفضاء الجميل الذي أقيم به العرض حدائق خير الدين بقصر خير الدين بالمدينة العتيقة بتونس بأشجارها الباسقة التي تحتضن الجمهور وتظلل مساحات كبيرة من الفضاء ..كل ما كان ينقص هذه الجماهير بعض النسائم التي غابت ليلتها .ولو أن الأمر أصبح معتادا هذه الأيام مع هذا المناخ الصعب الذي ميز شهر سبتمبر بلادنا هذا العام .