يأتي الإعلان رسميا عن قيام دولة جنوب السودان لينهي عقودا من الحروب الأهلية بين شمال السودان وجنوبه. وقد سارع الغرب إلى الاعتراف بهذه الدولة الناشئة وهو الذي كان محرضا على قيامها لاهثا وراء كعكة البترول وللاستئثار بعقود الإعمار التي سيبدأ تنفيذها خلال المرحلة القادمة. فأسباب انسلاخ هذه الدويلة الجديدة وولادتها من رحم الديكتاتورية التي طبعت جميع الأنظمة في البلاد العربية دون استثناء هي عديدة ولا مجال للخوض فيها مجددا لأنها معلومة وهي لا تعدو أن تكون سوى انعكاس لفشل النظام العربي الرسمي الذي طغى لعقود بقبضة حديدية ونكل بشعوبه ومنع أنفاس الحرية من أن تطفو على سطح المشهد السياسي. لقد بات قيام دولة جنوب السودان أمرا واقعا لا سبيل الى مواجهته أو عدم الاعتراف به ومن خلاله تبدو التحديات التي تواجه العرب عديدة وأهمها ضرورة المسارعة الى الاعتراف بهذه الدولة واحتوائها ومد يد المساعدة إليها رغم كل التحفظات حولها. فدولة جنوب السودان التي اقتطعت ثلث مساحة الوطن الأم تنام على بحيرات نفط وثروات هائلة لا يمكن إحصاؤها واستقطابها يساهم في قطع الطريق أمام باقي الطامعين في هذه الثروات وعلى رأسهم إسرائيل. كما يساهم في الحد من خطورتها فيما يتعلق بالأمن القومي لكل من مصر والسودان وحصتهما الإستراتيجية في مياه نهر النيل. فدخول هذا الكيان الجديد الناشئ في حلف مع دول منبع هذا النهر العظيم التي تستحوذ إسرائيل على قرارها وتدعو إلى مراجعة الحصص الممنوحة لدول الحوض بموجب الإتفاقيات السابقة وعلى رأسها مصر التي تحظى بنصيب الأسد، سيعود بالوبال على كل من القاهرة والخرطوم اللذين فعلا عين الصواب بمسارعتهما للإعتراف بالدولة الوليدة في جوبا. ويجد العرب شعوبا وأنظمة أنفسهم أمام حتمية استيعاب الدرس قبل فوات الأوان لتجنب تكرار سيناريو الإنقسام في بقاع أخرى من العالم العربي الذي بدأت أنفاس الحرية تتسرب إليه شيئا فشيئا بعد ربيع الثورات الشعبية. والإستيعاب الذي يهدف إلى امتصاص المطالب الإنفصالية إن وجدت يكون من خلال احترام حقوق الأقليات في هذه المنطقة وعدم استباحتها والتأسيس لدول متعددة القوميات والأعراق والمذاهب تصان فيها كرامة البشر ويشعر فيها الفرد بالإنتماء على أساس المواطنة. فالدولة الجديدة في جوبا هي نتيجة لفشل نظام البشير وأسلافه في احتواء مطالب الجنوبيين واساءة معاملتهم واقصائهم عن القرار طيلة سنوات الحرب الأهلية. ويستكمل البشير أخطاءه بقبوله بدخول قوات اثيوبية الى منطقة ابيي المتنازع عليها رغم إدراكه لعنصرية نظام أديس أبابا وحقده على كل ما يمت للإسلام بصلة. فمن المرجح أن القوات الأثيوبية ستذيق عرب أبيي ومسلميها الأمرين وستغلب مصالح المسيحيين الجنوبيين وقد تدفع بقبائل المسيرية إلى النزوح شمالا تمهيدا لضم أبيي إلى الدولة الجنوبية المسيحية. ولعل تجربة الأوغادين الصومالية المسلمة المحتلة من قبل أثيوبيا والتي أذاق الأثيوبيون سكانها المسلمين الويلات ماثلة في الأذهان وتجعل المراقبين يتوجسون خيفة من الدور الخطير المفترض للقوات الأثيوبية في السودان. فهذه القوات تحولت خلال السنوات الأخيرة إلى وكيل للولايات المتحدة في منطقة القرن الإفريقي تنفذ المهام بدلا عنها فاحتلت الصومال وانتهكت المقدسات الإسلامية من خلال عبثها بالمساجد في مقديشو حيث دنستها بالقاذورات وكتبت على جدرانها عبارات مسيئة للإسلام باللغة الأمهرية تداولتها وسائل الإعلام وتم التغاضي عنها من قبل بلدان العالم الإسلامي والبلدان العربية المنتمية إلى الإتحاد الإفريقي وكذا الرئيس السوداني من خلال قبوله بحلول هذه القوات بأرضه في أبيي. لقد أدت الأنظمة الإستبدادية في العالم العربي بسياساتها الإقصائية إلى إعلاء صوت الإنفصال على الوحدة في عصر التكتلات والاتحادات الاقليمية والدولية وبات من الواجب على هذه الأنظمة التي تعيش خارج سياق التاريخ أن تتدارك الوضع وتتعامل بواقعية مع المستجدات في المنطقة ومن ذلك ضرورة احتواء دولة جنوب السودان وكذا إقليم كردستان العراق قبل فوات الأوان.