كان من المفروض أن يكون العرض المبرمج لسهرة الثاني والعشرين (22) من أوت الجاري بقبة النحاس بمنوبة حدثا عاديا بالنسبة للفنانة نجوى بن عرفة لو أن ما استبشر به أهل الفن من تغيير توقعوا أن يكون جذريا في القوانين والقيم التي كانت سائدة بالساحة الثقافية تحقق بالفعل. لقد بشرت الثورة الشعبية من ضمن ما بشرت به التونسيين بتخليص الثقافة وأهل الثقافة من التدجين ومن الممارسات التي كانت تهدف إلى استيلاب العقول. وكان الناس يأملون بعد انتصار الثورة الشعبية في القطع مع نوعية من الممارسات من بينها بالخصوص ربط حضور الفنان والمبدع بالتظاهرات الفنية والثقافية التي تنتظم في بلادنا وخارجها بنوعية علاقاته وولاءاته. الكفاءة والموهبة والخبرة والتخصص والثقافة إلخ... كانت كلها مسائل ثانوية وهي إن لم تعق صاحبها فإنها في أسلم الحالات لا تخدمه في شيء. ولا ندري إن كان حسن حظ نجوى بن عرفة أم لعله من سوء حظها في مجتمع اجتمع على أن يظل صاحب الموهبة والكفاءة يعاني الويلات في حين تفتح الأبواب مشرعة أمام الجهلة والمرتزقة وما أكثرهم في دولة الفساد أنها تجمع بين الصوت الشجي والثقافة الموسيقية الواسعة والإنفتاح على ثقافات العالم أضف إلى ذلك فهي عازفة (الفيولنسال) وملحنة وهي مع كل ذلك تعتقد أن الفن يحمل رسالة أو لا يكون.
الأبواب الموصدة
وعلى نفسها جنت نجوى بن عرفة إذا ما عدنا إلى ظروف تونس ما قبل الثورة. لقد حكمت على نفسها بأن تظل بوابة المهرجانات الكبرى في بلادها وخارجها مغلقة في وجهها. لم تكن موالية ولا مستعدة للتنازل ولا لتقديم المبتذل من الفن حتى يهرع المسؤولون على المهرجانات إلى استقبالها بأذرع مفتوحة. كانت الفنانة تعتقد أن موهبتها تتكلم عنها. كل من عرف هذه المرأة يعرف أن صوتها الذي يشبهه الكثيرون بصوت المطربة الكبيرة فيروز صوت رقراق ينساب صافيا وكأنه خرير الماء. لقد حظيت نجوى بن عرفة بصوت ملائكي وبحنجرة ذهبية لا يغدق الله بها إلا على من اصطفاه من عباده وأكرمه وبجله. من الصعب جدا أن تستمع لنجوى بن عرفة دون أن يصيبك ما يصيب من يستمع للموسيقى التي تخرج على العباد وكأنها ريح من الجنة تهب على البشر فتفعل في القلب والوجدان فعلها الإلاهي. صوت يملك عليك الحواس والجوارح ويجعلك تشعر أنك صرت خفيفا وكأنه نبتت لك أجنحة وإذا بك تحلق بعيدا عن أجوائنا البشرية المشدودة إلى تفاصيل الأرض الصغيرة والمكبلة للعقل والوجدان.
لا شيء تغير؟
ومع ذلك فإن العروض التي" سمح " لها أن تقدمها ظلت نادرة وقليلة جدا. لا تصل حتى إلى معدل عرض واحد في العام. لو كان الإختيار منها لهان الأمر. كانت في عروضها النادرة تسلب لب الجماهير التي لا تملك إلا أن تسألها أين كان هذا الصوت ولماذا ظلت هذه الماسة مغمورة ومخبأة ومع ذلك فإن قلة من المشرفين على المهرجانات الكثيرة في تونس تجازف ببرمجة عرض لها. الفن الأصيل كان يخيفهم والتألق يسبب لهم مشكلة والتميز لا يملكون الأدوات اللازمة لفهمه. كان من المفروض أن الثورة أراحت التونسيين من هذه العقلية لكن كم تخرج الحروف حزينة من حنجرة هذه الفنانة التي يعرف كل من استمع إليها أن كلامها همس لتؤكد أنه لا شيء تغير بالنسبة لها.. نجوى بن عرفة وهي التي كانت من السباقين من الفنانين الذين استبشروا بالثورة خيرا وساندوها وهنأوا أنفسهم بها قبل أن يهنئوا الأهل والأحبة لم تكن تتصور أنها ستنتهي بالتسليم في يوم بأنه لا شيء تغير. العقلية في التعامل مع الفنان لا تزال ذاتها بالنسبة لها. الفنان وخاصة المبدع الحقيقي مازال بعيدا أو مستبعدا. أمر أحالنا على واقع لم نعمل حسابه.
لقد اشرأبت الأعناق بعد فجر الرابع عشر من جانفي إلى ساحة فنية محررة من التوظيف السياسي ومن التوظيف للمصلحة الخاصة. ولكن وبعد مرور فترة على انتصار الثورة بدأت التساؤلات تتتابع وتتلاحق. هل تغير شيء ما في المشهد الثقافي وهل تغيرت بالخصوص العقلية التي كانت سائدة وتحكم العلاقات بين الفاعلين في الساحة الثقافية. ربما لو لم "يشذ "مهرجان المدينة بمنوبة عن القاعدة ولم يبرمج عرض للفنانة نجوى بن عرفة لنسي الجمهور -وجانب منه يعرف جيدا قيمة صوتها وقد سبق وأن شاهدها بالخصوص في البرنامج التلفزيوني "الليل زاهي" بالوطنية الأولى- أن تونس تملك جوهرة نفيسة في حجم نجوى بن عرفة. وإذا ما كنا متأكدين أن جمهور مهرجان المدينة بمنوبة محظوظ بهذا العرض النادر لنجوى بن عرفة لهذه الصائفة لأن الطرب -بين تونسي وشرقي وخاصة أغاني محمد عبد الوهاب والنادر منها بالخصوص ونذكر منها مثلا " في عينيك عنواني" وغربي خاصة وأن نجوى بن عرفة من عشاق "فرنك سيناترا "- مضمون فإنه لا بد من طرح السؤال ماذا يلزمنا حتى تتغير العقلية المريضة في التعامل مع الكفاءات والمواهب في البلاد. هل يلزمنا أكثر من ثورة شعبية هائلة حتى نتوق إلى توزيع عادل للحظوظ بين التونسيين؟