بقلم: محمد طعم «رُوي أن المأمون أرق ذات ليلة فاستدعى سميره فحدثه فقال: يا أمير المؤمنين، كان بالموصل بومة وبالبصرة بومة فخطبت بومة الموصل إلى بومة البصرة إبنتها. فقالت بومة البصرة: لا أنكحك إبنتي إلا أن تجعلي في صداقها مائة ضيعة خراب. فقالت بومة الموصل: لا أقدر عليها الآن، ولكن إن دام حاكمنا، سلمه الله، علينا سنة واحدة فعلت لك ذلك.قال: فاستيقظ المأمون وجلس للمظالم وأنصف الناس بعضهم من بعض وتفقد الولاة.» («سراج الملوك»، محمد بن الوليد الطرطوشي). بعيدا عن الهزج الديمقراطي، وبعد مرور أكثر من سبعة أشهر على ما اعتقدناها ثورة شعبية. لنأخذ لحظة صدق ونسأل الشرفاء من قضاة تونس، بهدوء، عن مآل بلدنا، تونس، باعتبارهم طرفا أساسيا في أي معادلة قادمة. دونهم ودون نزاهة واستقلالية السلطة القضائية لا يمكن إطلاقا تحقيق لا العدالة ولا الديمقراطية ولا النهوض بالبلاد والعباد. والحال هذه، لنبدأ الحديث بما يقال عنكم: تتساوى دول العالم قاطبة، ولو نظريا، في اعتبار السلطة القضائية أحد السلطات الثلاث المكونة للدولة؛ بجانب نظيرتيها التنفيذية والتشريعية، وعليه يسمونها باسمها؛ السلطة القضائية أوليست هي ب»ثالثة الأثافي»؟. أما عندنا في تونس، ربما كان ولا يزال، البلد الوحيد الذي يسمي السلطة القضائية إما «سلك القضاء» أو «قطاع القضاء»! وفي هكذا تسمية، ولو شكليا، الكثير من التهميش والاستخفاف، إن لم نقل التحقير بحيث يصبح الحديث عن السلطة القضائية شأنه شأن الحديث عن قطاع الصيد البحري أو تربية الماشية أو قطاع المقاولات. أو ليست كلها قطاعات؟ هذا من حيث الشكل. أما الموضوع، أنتم، قبل غيركم، تعرفون الحال التي كان (ولا زال) عليها حال القضاة منذ تأسيس دولة الإستقلال إلى يوم الدين هذا. إستخدمكم بورقيبة وبن علي من بعده كأداة تابعة خانعة للدولة، كنتم (ولازلتم) جزء لا يتجزأ من منظومة الفساد والقهر والتنكيل وسلب الحقوق والحريات. لم يكن من بينكم من «يعرف الرجال بالحق» بل كنتم «تعرفون الحق بالرجال» والعياذ بالله. صال الفاسدون منكم وجالوا وتطاولوا في البنيان، ورثوا دولة فاسدة ذات قضاء فاسد وأصروا على توريثها لأبنائهم وبناتهم وهي أكثر فسادا. قضاة تونس الشرفاء، قد يعذركم البعض على سكوتكم على إجرام القضاة الفاسدين بينكم. كنتم، شأنكم شأن بقية الشعب التونسي، تعيشون تحت نير نظام جائر مستبد. أما الآن، فما هو مبرر سكوتكم؟ ألا تعلمون أن شعب تونس قام بأول ثورة في التاريخ المعاصر؟ ألا تعلمون أن الدكتاتورية الجاثمة على أنفاس البلاد والعباد أزاحها شعب دفع الدماء ليتخلص، ويخلصكم، منها؟ ألا تعلمون أنه حان الوقت كي تستعيدوا للقضاء سلطته وهيبته ومصداقيته؟ ألا تدركون أن دوركم، الآن بالذات، هو دور تاريخي وأساسي لبناء دولة العدالة والحق التي نتوق جميعا لبنائها؟ لماذا لا زلتم خانعين خائفين تابعين لمؤسسات بقايا دولة القمع والقهر؟ ما الذي يمنعكم وما الذي يحول دونكم ودون تبوء دوركم التاريخي في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ بلادنا؟ قضاة تونس الشرفاء، لماذا تتسترون على الفاسدين منكم؟ لماذا تقبلون باستمرار الخور والرشوة والمحسوبية والفساد الذي يزكم الأنوف؟ باي حق تغمضون أعينكم على ما يجري في صفوفكم؟ بما تبررون ما اقترفه زملاء لكم من جرائم في حق شرفاء تونس وأحرارها؟ هل نسيتم أم تناسيتم الأحكام الجائرة التي أصدرها أولئك القضاة الفاسدون بحق نشطاء المجتمع المدني وإعلاميين وسياسيين من جميع الأطياف وبحق أحرار الحوض المنجمي وطلبة منوبة والتصنت على المحامين وموكليهم وتراخي النيابة العمومية في ملاحقة ومحاكمة رموز الفساد. ما معنى أن النيابة العمومية لم ترفع سوى أربع دعاوي فقط لا غير ضد رموز الفساد (في تونس وسوسة والمنستير وقفصة)، أما بقية الدعاوي ضد رموز وأذناب النظام السابق فهي إما مرفوعة من مجموعة ال25 أو من قبل منظمات مدنية أخرى. تقع مسؤولية تهريب السيدة العقربي والسيدة الشتيوي خارج البلاد عليكم جميعا (الشرفاء منكم قبل الفاسدين). تأكدوا أن سياسة الباب الدوار المتبعة مع رموز الفساد بحيث يتم جلبهم للقضاء لا لشيء سوى ليطلق سراحهم وأن مسرحية الدجاجة أم البيضة في تبادل الإتهام بالتقصير بين وزارة العدل ووزارة الداخلية لا تعدو أن تكون مسرحية هزيلة ولا تنطلي على أحد.ما معنى أن يتساهل قضاة فاسدون مع المدعو بشير التكاري؟ هذا شخص دافع علنا عبر الفضائيات أيام الثورة على قتل متظاهرين عزل؟ ألا يعد كلامه تحريضا على القتل؟ أكان من الصعوبة بمكان العثور على أدلة وقرائن وبراهين على جرائم هذا التكاري طيلة سنوات سطوته على وزارة العدل؟ هل أطلق سراحه لأنه هدد وإبتز بنشر ما لديه من ملفات فساد؟ الآن، لننتقل إلى الشق الثاني من الحديث؛ إليكم. على الشرفاء منكم أن يعيدوا للقضاء سلطته ويطهروا صفوفكم من الفاسدين والمرتشين والمتسترين على الفساد والفاسدين. أقطعوا نهائيا مع الماضي البغيض وممارساته. كونوا ممن يعرفون الرجال بالحق. ضعوا السلطة القضائية في نفس المرتبة مع نظيرتيها وكونوا في مستوى المسؤولية الجسيمة الملقاة على عاتقكم. ثورة شعبنا مهددة بالضياع وإنقاذها بين أيديكم. معكم نبني بلادنا وبكم يتحقق العدل ودونكم خرابها. عليكم أن تدركوا أنه لا إرادة سياسية لا لهذه الحكومة المؤقتة، ولا لمن ستليها، في تحقيق إستقلالية القضاء واعتباره سلطة ذات نفوذ وشرعية. إن استمرار غيابكم وتغييبكم عن لعب دوركم وتكريس تبعية المجلس الأعلى للقضاء للسلطة التنفيذية هو كل ما سعت إليه هذه الحكومة المؤقتة وما تمثله من إلتفاف على ثورة شعبنا الأبي. والدليل لا لبس فيه بمنطوق الفصول 2 و3 و17 من المرسوم رقم 14 بتاريخ 23 مارس/آذار 2011، الناظم لعمل سلطات الدولة بشكل مؤقت. نص الفصل 2 من المرسوم المذكور أعلاه على حل مجلس النواب ومجلس المستشارين والمجلس الإقتصادي والإجتماعي والمجلس الدستوري (تم استثناء المجلس الأعلى للقضاء عمدا). ونص الفصل 3 على أن تمارس المحكمة الإدارية صلاحياتها وفقا للقوانين النافذة (استثنيت المحكمة الإدارية من الإصلاح عمدا أيضا). أما الفصل 17، وهنا مربط الفرس، فقد نص على ما يلي:»تنظم السلطة القضائية بمختلف أصنافها وتسير وتمارس صلاحياتها وفقا للقوانين والتراتيب الجاري بها العمل.» مما يعني أن حكومة الشيخين (قائد السبسي والقروي الشابي) سعت منذ البداية عامدة متعمدة إلى تكتيف القضاء، وبالتالي تكتيف الثورة معه، عن طريق سد أي سبيل للإصلاح أو الإستقلالية. أما المسألة الثانية، على الشرفاء من قضاة تونس أن يراجعوا الدوائر المدنية في مختلف المحاكم للتأكد من نظافة يد واستقلالية المتصرفين القضائيين المشرفين على الأملاك التي نهبها أزلام النظام السابق ويقطعوا الطريق على من لازالوا منهم يأتمرون بأوامر أسيادهم السابقين ممن استثروا بالفساد والرشوة والمحسوبية. لا تنتظروا أحدا أن يمنحكم حقوقكم، وحقوقنا معكم، فالحقوق لا تمنح. عكف القاضي التنوخي (ت383 ه) على تأليف كتابه «نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة» لما يزيد عن عشرين عاما وحرص ألا يذكر فيه أي مرجع أو كتاب آخر مقتصرا على ما عايشه مؤلفه فقط. جاء فيه: «رأيت في شارع الخلد ببغداد قردا معلما، يجتمع الناس عليه. فيقول له القراد: أتشتهي أن تكون بزازا (بائع قماش)؟ فيقول: نعم، ويومىء برأسه. فيقول: أتشتهي أن تكون عطارا؟ فيقول: نعم برأسه. فيعدد الصنائع عليه، فيومىء برأسه. فيقول له في آخرها: أتشتهي أن تكون وزيرا؟ فيومىء برأسه: لا، ويصيح، ويعدو من بين يدي القراد، فيضحك الناس. قال: وتلى سقوط الوزراة، اتضاع الخلافة، وبلغ صيورها إلى ما نشاهد، فانحلت دولة بني العباس، بانحلال أمر القضاء». (ج 1، ص231). ما أكثر العبر، وما أقل الاعتبار.