يعرّف رايت شارلز Wright Charles الاعلام بأنه تلك "العملية التي ينتقل بمقتضاها معنى ما بين الافراد ، وهو بحسب هذا الرأي يجسّم التعبير الموضوعي المحتمل لمجتمع ما، فيعكس عقليته وروحه وميوله. ويقوم الاعلام على أساس التفاعل البشري القائم على فعل الاتصال. فهو يساعد على نمو الانسان عقليا وروحيا ويساهم في بلورة أفكاره وتصوراته وتمثلاته. ويعبر الاعلام الجماهيري عن تلك العملية التي من خلالها يتم بث أخبار ومعلومات وعناصر معرفة وأفكار ومواقف إلى عموم الناس بواسطة تقنية أو وسيلة اتصال (إذاعة، تلفزيون، صحيفة...)، ويؤكد عالم الاجتماع الامريكي شارلز رايت بأن "جانبا يسيرا فقط مما نعرفه عن الحقائق الاجتماعية في العالم قد توصلنا إليه بأنفسنا وبصورة مباشرة، بينما معظم التصورات والاخيلة التي لدينا قد وصلت إلينا عن طريق وسائل الاعلام والاتصال الجماهيري". وعليه، نتبين بشكل واضح ودقيق الدور الذي تلعبه وسائل الاعلام الجماهيري، فهي تتدخل في توجيه الاراء والميولات والتصورات وتحديث أساليب الحياة. أي تمثل للدور الاعلامي؟ إن هذا الدور الذي يمكن أن تلعبه وسائل الاعلام الجماهيري، هو المدخل الاساسي لاي تفكير منطقي يستهدف تطوير المجتمع وتحديثه. وهو ما يفسر الدور الذي منحته الدولة في تونس وغيرها من بلدان العالم لوسائل الاتصال الجماهيري في مرحلة بناء الدولة الوطنية، تلك، المرحلة التي حملت في متنها توجها تحديثيا يستهدف التقدم الاجتماعي، ويراهن على العنصر البشري لتحقيق التنمية. لقد اضطلعت وسائل الاعلام في تونس بهذا الدور لفترة طويلة من الزمن، وعكست توجهات وآراء المخططين لعملية التنمية، وتشكل في الاثناء سلوكا إعلاميا اتجه شيئا فشيئا نحو التنميط. فالناظر اليوم، للمشهد الاعلامي التونسي، يتبين أسلوبين للتعاطي مع المواضيع الاجتماعية، مثلا، التي يعيشها مجتمعنا بحكم المتغيرات السوسيو/ اقتصادية التي يشهدها، إذ نجد أسلوب الاثارة والبحث عما يشكل حالات فردية ليكون موضوع الموسم، أو أسلوب التٌقية والتجاهل لمواضيع هي في صلب التغييرات الاجتماعية لمجتمع متحول بحكم العولمة، وبحكم حراك اجتماعي لا مناص منه. ومع الانفجار الاعلامي وتعدد الفضائيات والوسائط الاعلامية وجد إعلامنا المحلي عامة، - وأخص هنا بالذكر التلفزيون العمومي - نفسه في مواجهة تحديات كبيرة، هي في الاصل تحديات فرضها هذا الانفجار الاعلامي وتعدد الفضائيات التي أربكت الاعلام العمومي والتي فرضت عليه بشكل واع أو غير واع محاولة تغيير نماذجه الاعلامية، وإن كنا نعتبر بأنه من الضروري إعادة التفكير والنظر في الدور الذي يمكن أن يلعبه التلفزيون العمومي في بلادنا، خاصة، وأنه ثمة إرادة سياسية عبّر عنها خطاب رئيس الجمهورية بمناسبة عيد الجمهورية الماضي تحث على ضرورة اضطلاع الاعلام التونسي عامة، والتلفزيون خاصة، بدور جديد يستجيب لمقتضيات المرحلة، ويعبّر عن مشاغل مختلف الفئات والشرائح الاجتماعية في بلادنا، فإنه من موقع ما تفرضه علينا قيم المواطنة ومن موقع الدور الذي يدفعنا إليه تخصصنا في مجال علم الاجتماع، نشير إلى ضرورة الابتعاد عن فعل التماهي مع القنوات الخاصة، لان طبيعة الدور الذي تلعبه هذه القنوات تختلف مضمونا وجوهرا مع طبيعة الدور الذي يمكن أن تلعبه القناة العمومية التي تعبر عن خيارات مجتمع وعن رؤى مختلف المواطنين بمختلف رؤاهم الفكرية وتوجهاتهم وأذواقهم. تساؤلات تفرضها طبيعة المرحلة على التلفزيون العمومي إن التحدي الاساسي المطروح على التلفزيون العمومي (قناة 7 الفضائية وقناة 21 التي اصبح فضائية) هو كيفية تحقيق فعل المصالحة مع الجمهور ونوعية فعل التمايز الذي يمكن أن تحققه مع أي قناة أخرى خاصة. فإذا كان تلفزيوننا العمومي قد عكس لفترة طويلة من الزمن -منذ نشأته إلى اليوم- توجهات الدولة ورؤاها التنموية، فهو اليوم، مدعو - بحكم التحديات الموضوعية الذي فرضتها الفضائيات العربية والاجنبية، وبحكم التخصص الاعلامي، وخاصة بحكم تعدد الفضائية الدعاوية والتوجيهية التي تمارس إرهاب الفكر وتعدد الفضائيات الاباحية التي تمارس سلطة الجسد، والبحث المتواصل للقنوات الخاصة التجارية عن مصادر للاثارة وللمشهد الفرجوي البحت المدر للاموال-، إلى إعادة التفكير الجدي والعقلاني في الدور الذي يمكن أن يلعبه دون التخلي عن وظيفة التلفزيون العمومي الذي لا خلاف على دورها في كل أنحاء العالم، والذي كانت ولازالت محل نقاش دائر بين الاعلاميين والمختصين ورجال الدولة في فرنسا وألمانيا وغيرها من بلدان العالم. وعليه، مجموعة من الاسئلة تفرض نفسها حسب رأينا في علاقة بطبيعة المرحلة التي نعيشها، أي دور اتصالي للتلفزيون العمومي؟ وأي فعل اجتماعي يمكن أن يكون له؟ وبأية وسائل؟ ووفق أي منهج؟ وأي خط تحريري إعلامي يمكن اعتماده، وضمن أية إستراتجية إعلامية؟ وما المقصود بالجرأة وبالقرب من مشاغل المواطنين؟ وما هي الحدود والاثار؟ وما هي خيارات المجتمع التنموية الجديدة؟ وكيف يمكن التقليل من أثر السموم التي تبثها قنوات عربية في ظل هذا المد السلفي العالمي الجديد؟ هذا بتقديرنا، ما تفرضه المرحلة الراهنة على كل مثقف وعلى كل إعلامي وعلى كل مسؤول وعلى كل مواطن. ونشير إلى نقطتين أساسيتين بتقديرنا، تلح علينا ونحن نحاول التفكير بالمشهد الاعلامي التونسي. تتعلق النقطة الاولى، بالتنبيه إلى أن مؤشر نسبة المشاهدة بصفته مؤشرا كميا لا يدل بالضرورة على نوعية الدور الذي تلعبه قناة دون أخرى، فهو مؤشر يعتمد في الدراسات ذات الصبغة التسويقية التي لا تهتم بالمؤشرات الكيفية ولا بفعل النوع ولا بفعل الاثر النفسي الاجتماعي الذي يمكن أن تحدثه هذه الوسائط الاعلامية، أما النقطة الثانية، فتتعلق بموضوع القرب من المشاهد، وهو موضوع يختلف فهم كل منا له، ومهما تعددت الاراء حول هذا الموضوع فإننا نشير إلى ضرورة الابتعاد عن التبسيط المخل، فليس المشاهد هو من يحدد توجهه الاعلامي ونوعية البرامج بل أن الاعلامي، هو من يحدد نوعية البرامج وكيفية التطرق إليها ضمن سياق اجتماعي مخصوص ومن داخل منظومة إعلامية محددة تحاول مواءمة العرض والطلب ضمن سياق تفاعلي وعقلاني يتجه نحو الحداثة كخيار استراتيجي. حاجة إلى وقفة تأمل جادة وعقلانية نحن بجاحة لوقفة تأمل صادقة، ونحن بحاجة لتغيير ثقافة التنميط وبحاجة لتطوير ثقافة مؤسساتنا الاعلامية، بمعنى، تغيير اتجاهات الفاعلين الاجتماعيين من تقنيين وعاملين ومقدمي ومعدي برامج، وصحفيين. إننا نحتاج نقلة نوعية في الفكر والضمير تنأى بنا عن الاستراتيجيات الذاتية والحسابات الضيقة، وتتجه إلى التفكير بتمثلات الدور الاعلامي الفاعل والمساعد على بث الفكر النقدي وتحفيز الذات وتطوير مجتمع بدأت تعصف به موجات العولمة وما أفرزته من متغيرات خطيرة تستهدف تماسك المجتمعات، آخرها، هذه الدعوة المضحكة والمبكية لدولة الخلافة التي نادى بها مؤتمر حزب التحرير الاسلامي بأندونيسيا وروجت لها فضائيات عربية. هذه طفرة من حراك اجتماعي عالمي يضيق يوما بعد يوم، ويضع موضع التساؤل خيارات الشعوب حول تقرير المصير، وخيارات الشعوب حول نوعية الحكم الذي ينبغي أن يسود... واجبنا جميعا كمواطنين وكإعلاميين أن لا نصمت عندما يجب أن نتكلم، ذاك هو الاستبطان الحقيقي لمعنى المواطنة، وتلك هي القدرة على فعل التغيير، إذ لا يختلف اثنان، على الدور الذي يمكن أن تلعبه وسائل الاعلام الجماهيري في مستوى ما ترسخه في المخيال الجمعي وما يمكن أن تحدثه من أثر نفسي اجتماعي، فليتم التفكير في أساليب إعلامية واتصالية جديدة لتمرير خياراتنا الاجتماعية خاصة منها خيار التحديث والحداثة التي شكلت أحد أسس الجمهورية. ونشير إلى أن فعل الابداع ممكن شرط استبطان معنى ما للحرية بالمعنى الفلسفي للكلمة، فلن يبدع أي إنسان وهو مكبل باليومي المقيت، وهو يسعى لقول ما يرضي الاخرين ويفرحهم عله يجد حظوة اجتماعية لديهم. فالابداع في مجال الاعلام فعل إرادة وفعل مواطنة حقيقية وفعل مبادرة حرة، وهذا ممكن، شرط فهم عقلاني وواقعي للسياق المجتمعي ولارادة سياسية تعول على طاقات بشرية فاعلة لا منفعلة. بقلم: د . فتحية السعيدي(*)