يبدو أن أحزاب حركة النهضة، والمؤتمر من اجل الجمهورية، والتكتل من اجل العمل والحريات، حققت اشواطا مهمة في نقاشاتها من اجل التوصل إلى أرضية مشتركة لبرنامج عمل الحكومة المقبلة التي سيشارك في تشكيلها ممثلون عن الأحزاب الثلاثة، والذي يفترض مبدئيا تنازل هذا الحزب او ذاك عن بعض النقاط التي وردت في برامجه الانتخابية ووعد بتنفيذها في صورة فوزه في الانتخابات. لكن في انتظار ولادة الحكومة الجديدة وتشكّلها والاتفاق على برنامجها وانطلاق أولى جلسات المجلس الوطني التأسيسي في غضون الأيام القليلة المقبلة، نقف على أبرز نقاط الاختلاف بين الأحزاب الثلاثة، ونقاط التلاقي التي تجمع بينهم خاصة في المجالات السياسية، وفي طبيعة النظام السياسي الذي يعتبر حجر الزاوية بالنسبة لبقية المجالات الاجتماعية والاقتصادية، والعمود الفقري للدستور المرتقب للجمهورية التونسية الثانية. وذلك انطلاقا من البرنامج الانتخابي لكل حزب. ومن شأن تسليط الأضواء على نقاط الاختلاف او التلاقي بين الأحزاب المرشحة للمشاركة في الحكم، اعطاء صورة عن أبرز البنود التي ستكون محل خلاف داخل المجلس الوطني التأسيسي عند مناقشة مسودة الدستور. علما ان الكتل الثلاث تتفق كثيرا في برامجها الاقتصادية والاجتماعية من حيث تأكيدها على قيم العدالة الاجتماعية والمساواة في التنمية وفي توزيع الثروات، وفي الخيارات الاقتصادية الكبرى.. (اقتصاد حر ذو بعد اجتماعي مع تدخل تعديلي للدولة). كما تتفق على ضرورة اصلاح القضاء وضمان اسقلاليته، وإصلاح الأمن والإدارة، وضمان حرية الإعلام والحريات العامة والفردية. وفي منهج التعامل مع الفترة الانتقالية خاصة من خلال الجمع بين مبدإ المحاسبة والعدالة الانتقالية وروح التصالح، ومعالجة آثار مظالم العهد السابق وتفعيل العفو التشريعي العام.
توافق حول مسألة الهوية
وخلافا لما يعتقده البعض فإن مسألة هوية البلاد، ومرجعيتها الثقافية والفكرية والدينية لن تكون محل خلاف عليها على اعتبار أن الأحزاب الثلاثة تتفق جميعها تقريبا على المحافظة على روح الفصل الأول من دستور 1959 المعلق الذي نصه: "تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها". مع بعض الاضافات الطفيفة مثلا حركة النهضة تضيف على الفصل الأول: "وتحقيق اهداف الثورة اولوياتها"، أما الديباجة التي يقترحها التكتل فكانت كالتالي: "تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة نظامها جمهوري لغتها عربية دينها الإسلام تفصل بين المجال السياسي والمجال الديني منفتحة على القيم الكونية". محكمة دستورية عليا تتفق حركة النهضة مع حزبي "التكتل" و"المؤتمر" في عدة نقاط، لكنها تختلف معها في بعض النقاط الجوهرية. من بين نقاط التوافق الدستورية والسياسية تتفق حركة النهضة مع حلفائها المرتقبين في اقتراحها لمحكمة عليا دستورية تتولى مراقبة دستورية القوانين. لكن التكتل يؤكد على منح "حق كل هيئة او مواطن اللجوء للمحكمة الدستورية في مجال الحقوق والحريات الأساسية بعد استيفاء كل درجات التقاضي".
نظام برلماني للنهضة، ورئاسي برلماني للتكتل والمؤتمر
لكن "النهضة" تختلف مع "التكتل" و"المؤتمر" في ما يتعلق بطبيعة النظام السياسي، فالنهضة تقترح "نظاما برلمانيا من غرفة واحدة يمارس المهام التشريعية والرقابية، مع حكومة تمارس السلطة التنفيذية ومسؤولة أمام البرلمان". أما منصب رئيس الجمهورية فتقترح النهضة في برنامجها السياسي انتخابه من قبل البرلمان، لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، مع تجريده من معظم الصلاحيات. لكن "المؤتمر" و"التكتل" يقترحان نظاما سياسيا مغايرا للنظام الذي تطمح إليه النهضة، إذ يقترحان نظاما مختلطا يجمع بين النظامين البرلماني والرئاسي، مع بعض الاختلافات الطفيفة. فالنظام السياسي حسب المؤتمر "متوازن تكون فيه مختلف سلطات الدولة متوازنة وذلك بتوزيع الصلاحيات داخل السياسة التنفيذية، بين رئيس الدولة الذي يقع انتخابه مباشرة من طرف الشعب لمدة 4 سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، ووزير أول يتم اختياره من الأغلبية البرلمانية". وهنا يلتقي "المؤتمر" مع "النهضة" و"التكتل" في ما يهم طريقة اختيار منصب الوزير الأول إذ تتفق الأحزاب الثلاثة على أن الوزير الأول يعين عن طريق الحزب الذي حصل على اغلبية المقاعد البرلمانية، وهو ما يفسر تمسك النهضة بحقها في اقتراح حمادي الجبالي لمنصب الوزير الأول وهو المنصب الذي يعتبر محل توافق بين الكتل السياسية الثلاث. كما يدعو المؤتمر إلى تمكين البرلمان من "لوائح تشريعية وآليات قانونية لمراقبة السلطة التنفيذية ورفع الشرعية عنها عند الاقتضاء مثل لوائح اللوم ضد الحكومة أو أحد اعضائها وإجراءات تنحية رئيس الدولة".
التكتل مع توازن السلط
أما "التكتل" فهو مع نظام سياسي "يؤمّن الديمقراطية والاستقرار ويضمن التوازن والفصل بين السلط"، مع انتخاب رئيس الجمهورية "انتخابا عاما ومباشرا لمدة 5 سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة ويتم اختيار الوزير الأول من قبل الأغلبية البرلمانية". كما يدعو "التكتل" إلى "تحديد دقيق لصلاحيات رئيس الدولة ومهام رئيس الدولة ومهام الحكومة بما يحقق التوازن بينها". فالحكومة حسب التكتل "مسؤولة أمام البرلمان الذي له حق مساءلتها وحق التصويت على لائحة لوم طبق الإجراءات الدستورية". وهنا يتفق مع المؤتمر في وضع آليات دستورية تضمن لوائح اللوم ضد الحكومة وحق مساءلتها. لكن "التكتل" وخلافا للمؤتمر يعطي لرئيس الجمهورية صلاحية حل البرلمان والدعوة لانتخابات تشريعية سابقة لأوانها وذلك مرة واحدة خلال الفترة الرئاسية. ويدعو التكتل إلى تنظيم عمل البرلمان وتحديد دوره التشريعي ودوره الرقابي لعمل الحكومة، ويمنح البرلمان حق مشاركة الحكومة في عرض القوانين، مع ضمان انتخاب الهياكل المحلية والجهوية وتمثيليتها واسنادها صلاحيات تقريرية..
منصب رئيس الجمهورية حسب النهضة
وبخلاف رؤية التكتل والمؤتمر لمنصب رئيس الجمهورية وصلاحياته، ترغب النهضة من خلال برنامجها الانتخابي في تجريد رئيس الجمهورية من أغلب صلاحياته، وجعله منصبا شرفيا مع اعطاء معظم الصلاحيات للحكومة ومن ورائها البرلمان والمجالس الجهوية المنتخبة. فالنهضة وفقا لرؤيتها للنظام السياسي الأمثل للجمهورية التونسية الثانية ترى أن رئيس الجمهورية "يكلف شخصية من الحزب الحاصل على أكبر عدد من المقاعد في البرلمان بتشكيل حكومة، ويشكل رئيس الحكومة المكلّف فريقا حكوميا ويعرض الحكومة على البرلمان للتزكية". كما ترى أن رئيس الجمهورية عليه أن يستقيل "من كل مسؤولية واعطاء صلاحيات اشمل للمجالس الجهوية المنتخبة". كما تدعو النهضة إلى "إحاطة مراجعة الدستور بضمانات وجعلها من اختصاص البرلمان بالأغلبية المميزة او من خلال استفتاء عام.
توافق على هيئة مستقلة للانتخابات
ومن بين النقاط البارزة الأخرى التي تستدعي الانتباه ويبدو أنها محل توافق من قبل معظم الأحزاب والكتل البرلمانية ونصت عليها صراحة حركة النهضة وحزب التكتل في برامجها الانتخابية هي احداث "هيئة وطنية مستقلة تشرف على الانتخابات". وهذه ضمانة لاستمرارية عمل الهيئة كمؤسسة عمومية مستقلة تشرف على الانتخابات مع وضع تصور قانوني دائم لمهامها تضمن حياديتها واستقلاليتها مع تجديد دوري لتركيبتها في كل موعد انتخابي. كما تتفق الأحزاب الثلاثة على ضرورة ضمان استقلالية الهيئات القانونية والدستورية على غرار دائرة المحاسبات ونشر تقريرها للعموم.. ووضع آليات لضمان استقلالية هياكل المراقبة المالية ونجاعتها وشفافية عملها.