تنعقد اليوم بمجلس النواب (سابقا) بباردو الجلسة الافتتاحية للمجلس الوطني التأسيسي المنتخب ديمقراطيا في انتخابات حرة ونزيهة وشفافة تشهدها تونس لأول مرة في تاريخها. مهمة المجلس الأساسية ستكون حتما اعداد دستور جديد للبلاد، يحقق أهداف الثورة ويلبي طموحات الشعب في ممارسة حقه في اختيار من يحكمه، دستورا يضمن الحريات الفردية والعامة والمبادئ والقيم الكونية والانسانية، والأهم يكرس خيار الدولة المدنية المعاصرة.. تاريخية الجلسة الأولى وهيبتها ورمزيتها لن تكون في منأى عن التجاذبات السياسية بين القوى الممثلة في المجلس والقوى التي وجدت نفسها خارجه، وبين القوى التي حصدت أكثر الأصوات والمقاعد، ودخل بعضها في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلاف وطني كما يرغب البعض في تسميته (حركة النهضة، والمؤتمر ) او حكومة تصريف اعمال مع صلاحيات محددة تتيح لها اتخاذ القرار في بعض الملفات الهامة..(حزب التكتل).
تشكل المعارضة قبل الحكومة
الجلسة الأولى للمجلس ورغم ان الجانب البروتوكولي يطغى على اعمالها (اختيار رئيس ونائبيه، وتشكيل اللجان) إلا أنها ستكون محرارا لبقية الجلسات المقبلة التي لن تكون حتما هادئة ولا أحد يتنبأ بمدى صخبها وسخونتها..لكن المفارقة أن المعارضة من داخل المجلس قد تشكلت فعلا حتى قبل تشكل ملامح الحكومة المقبلة، خاصة بعد أن اعلن أكثر من طرف سياسي نيته الانضمام إلى المعارضة ولعب دور الرقيب والمراقب لعمل الحكومة القادمة، ومنها كتلة العريضة الشعبية، والحزب الديمقراطي التقدمي، وحزب العمال الشيوعي، والقطب الحداثي، وآفاق تونس، وحزب المبادرة...في حين أن الحكومة لم تتشكل بعد او هي في طريقها للتشكل.. المعارضة داخل المجلس التأسيسي قد تكون أقلية حسابيا بالنظر إلى حجم المقاعد التي تمسك بها الأحزاب المرشحة لتشكيل الحكومة، لكنها عمليا تراهن عليها ليكون لها صوت مؤثر وقوة ضاغطة خاصة إذا تعلق الأمر بمناقشة بعض المحاور الرئيسية والمصيرية في مشروع الدستور المرتقب، او حتى تجاه اتخاذ موقف من القضايا المهمة السيادية ذات طبيعة سياسية او اقتصادية او في ما يتعلق باتخاذ قرارات ذات طبيعة اجتماعية تنموية تهم الراي العام والشارع التونسي..
طريق صعبة
أي أن عضو المجلس ومهما كان الطيف السياسي الذي يمثله سيكون له راي وموقف واستقلالية في تعاطيه مع بعض القضايا الجوهرية المصيرية وربما تغلب قناعاته الشخصية على توجيهات الحزب الذي يمثله عند أية عملية تصويت، بناء على المصلحة العامة ومصلحة الوطن، وهذا جائز وممكن حدوثه، وهو في النهاية أمل كل مواطن تونسي في أن يغلّب كل عضو مصلحة البلاد على المصلحة الحزبية..وهو ما يفسر ربما روح نص أداء القسم الذي سيتلوه كافة اعضاء المجلس الذي يدعو إلى أن يقوم العضو بمهامه "بكل اخلاص واستقلالية". لكن ومع ذلك لن تجد الحكومة المرتقبة والمنبثقة من تحالفات القوى الثلاث سجادا احمر وطريقا مفروشا بالورود لإنجاح عملها، وهي التي ستكون معرّضة للمراقبة والنقد وتصحيح توجهتاها واعمالها ان لزم الأمر من قبل المجلس الوطني التأسيسي الذي سيصادق على تركيبتها اولا وعلى برنامج عملها ثانيا، من خلال المعارضة وحتى من الأعضاء الذين ينتمون للاتلاف الحاكم، كما ستكون ايضا مراقبة ومعرضة للنقد والانتقاد من الشارع التونسي ومن خلال قوى المجتمع المدني التي بدات بعد في التعبير عن آرائها ومواقفها.. فالمرحلة القادمة ستكون صعبة على المجلس التأسيسي والحكومة المقبلة وربما هي أصعب من المرحلة الانتقالية الأولى التي مرت بسلام رغم سلبياتها ونقائصها..والرهان هو كيفية الوصول إلى بر الأمان من خلال عودة الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للبلاد اولا والنجاح في سن دستور جديد توافقي والتحضير للمرحلة الثالثة والأصعب وهي الانتخابات التشريعية بعد اختيار نظام الحكم.
ملفات شائكة.. ومعارضة متربصة
فاللافت للأمر أن الجسلة الافتتاحية للمجلس التأسيسي لن تنعم بالهدوء على الأقل من محيط المجلس على اعتبار أن قوى من المجتمع المدني من الوان مختلفة (مثل الرابطة التونسية لحقوق الانسان، ممثلي شهداء ومصابي الثورة، جمعيات نسائية..قوى سياسية غير ممثلة بالمجلس..) قررت الخروج والتظاهر أمام مقر المجلس اليوم للتعبير عن رسائل واضحة فمنهم من يدعو إلى احترام الطابع المدني للدولة، واحترام حقوق المرأة ومكاسبها، ومبادئ حقوق الإنسان وحق الاختلاف والتعبير والتظاهر..وآخرون سيضغطون حتى لا ينسى أعضاء المجلس المهمة التي انتخبوا من أجلها وهي تحقيق اهداف الثورة ومحاكمة قتلة الشهداء ومحاسبة رموز الفساد والاستبداد، ومن داخل المجلس من المعارضة.. فالمجلس التأسيسي سيكون سيّد نفسه وستكون له الكلمة الأولى والأخيرة والكملة الفصل في كل ما يهم الشأن العام الوطني، وإدارة البلاد خلال المرحلة المقبلة، وذلك من خلال المناقشات بين اعضاء المجلس نفسه، او من خلال التفاعل مع بعض الملفات الساخنة التي عجزت الحكومة السابقة عن غلقها لتعقدها وحساسيتها ومنها ملف محاسبة قتلة الشهداء، واصلاح القضاء واصلاح الأمن، واستحثاث نسق التنمية بالجهات المحرومة..
احتقان اجتماعي
المهم في الأمر أن الجلسة الافتتاحية للمجلس الوطني التأسيسي تنعقد وسط اجواء مشحونة من الاضرابات والاحتقان الاجتماعي تصاعدت وتيرتها خلال الأسابيع القليلة الماضية واتخذت منحى خطيرا في بعض القطاعات لعل من أهمها احتجاجات المعطلين عن العمل في أكثر من مكان وتأثيرها سلبا على سير عمليات الانتاج في مرافق عمومية حيوية وغلق البعض منها، وتنبئ بنتائج وخيمة على الاقتصاد الوطني (فسفاط قفصة، المجمع الكيميائي التونسي..) وتنعقد الجلسة أيضا وسط انشغال المواطن التونسي بارتفاع المعيشة وغلاء الأسعار، وتفاقم البطالة، وتزايد الشعور بالحيف الاجتماعي لدى فئات واسعة، فضلا عن بروز ظواهر اجتماعية جديدة قد تنذر بالخطر إذا لم تتم معالجتها في اقرب وقت ممكن ومنها ما يحدث على سبيل المثال من تجاوزات داخل بعض المؤسسات التربوية والتعليمية..
صعوبة مفاوضات تقاسم السلطة
ورغم ان تفاهمات اللحظة الأخيرة بين الكتل السياسية الثلاث الذي دخلت في مفاوضات حول الرئاسات الثلاث وتشكيلة الحكومة المقبلة وبرنامج عملها قد تكون حاسمة وتجلي الضبابية التي كانت تحوم حول من سيتولى منصب رئيس المجلس التأسيسي ونائبيه، إلا أن تعطل المفاوضات وعسورتها ستلقي بظلالها على عمل المجلس الوطني التأسيسي.. ويبدو أن مفاوضات تقاسم السلطات الثلاث أخذت وقتا أكثر من اللازم وشغلت الراي العام لأيام عدة وبدا من خلال التسريبات الإعلامية وتصريحات السياسيين لمختلف الكتل السياسية عويصة للغاية وقد يتطلب الأمر عملية قيصرية حتى تتولد عنها حكومة اتلاف وطني صلبة وقوية قادرة على حلحلة المشاكل الاجتماعية المتفاقمة، وارجاع الاقتصاد الوطني إلى السكة، وطمأنة الشارع التونسي..
سير الجلسة الافتتاحية..
إلى ذلك وبغض النظر عن نتائج مفاوضات الكتل السياسية الثلاث ستنعقد الجلسة العامة الافتتاحية وسيراسها أكبر الأعضاء سنّا للمجلس وذلك بمساعدة أصغرهم وأصغرهن سنا إلى حين انتخاب رئيس المجلس الوطني التأسيسي. ومن المقرر أن يتلو رئيس الجلسة الافتتاحية القائمة النهائية للمنتخبين بالمجلس الوطني التأسيسي. ثم يؤدي أعضاء المجلس الوطني التأسيسي اليمين التالية : "أقسم بالله العظيم أن أقوم بمهامي في المجلس الوطني التأسيسي بإخلاص واستقلالية وفي خدمة الوطن وحده". ثم ينتخب المجلس الوطني التأسيسي رئيسا أو رئيسة له ونائبين إثنين للرئيس مع مراعاة التناصف، ويفتح باب الترشحات في الجلسة الافتتاحية، ويتلقّى رئيس الجلسة الافتتاحية الترشّحات ويسجلها ويعلن عنها في الجلسة العامّة حسب ما جاء في المرسوم الرئاسي لدعوة اعضاء المجلس التاسيسي الصادر مؤخرا بالرائد الرسمي. علما ان نفس المرسوم نص على أن يتم انتخاب رئيس المجلس الوطني التأسيسي ونائبيه بالتصويت السرّي وبالأغلبية المطلقة لأعضائه، وفي صورة عدم حصول أيّ مترشح على هذه الأغلبية في الدورة الأولى تنظّم دورة ثانية يتقدم فيها المترشحان المتحصّلان على أكثر الأصوات. ويعتبر فائزا المترشّح المتحصّل على أكثر الأصوات. كما سيتم إثر انتخاب رئيس المجلس ونائبيه رفع الجلسة الافتتاحية، وعند استئناف الجلسات يباشر الرئيس المنتخب ونائباه مهامهم ويعرض الرئيس على المجلس تكوين لجنة اعداد النظام الداخلي ولجنة إعداد التنظيم المؤقت للسلط العمومية.