في حياة الأمم والشعوب، فترات ومواقف وشخصيات لا يلفها النسيان، ولا يطويها التاريخ، ولا يمحوها الزمن.. أصعب اللحظات التي يمر بها شعب من الشعوب، عندما ينفرط العقد بين وضعية الدولة، وسياق الفوضى، بين الثورة واستحقاقاتها، والدولة ومسلتزماتها.. عندئذ يكون من العسير فك الارتباط بين الحالتين، لأن الأمر يحتاج الى عقل سياسي حصيف، وشخصية «كاريزماتية»، تمتلك القدرة على إعادة »تركيب« الوضع والمؤسسات والأشخاص، وفقا لمنطق المرحلة ومقتضياتها.. هكذا، وضمن سياق شديد التعقيد، جيء بالباجي قائد السبسي من مكتبه بشارع آلان سافاري بالعاصمة، باتجاه قصر الحكومة بالقصبة، في ظرف تعالت فيه الثورة على الدولة، واثر الاحتجاجات الشعبية العارمة التي تمثلتها »القصبة1« و»القصبة2« اللتين كانتا مؤشرين على قطيعة حقيقية مع شخوص النظام المخلوع ورموزه.. سرعان ما التقط »الابن الشرعي للبورقيبية«، رسالة الشعب الثائر، وب»لمسة« سياسية تستعيد أسلوب الزعيم الراحل، »احتضن« الرجل »القصبة2« عبر خطاب سيقرأه المؤرخون جيدا، خطب فيه ود الجميع: الشعب المنتفض، والاحزاب المتناسلة، والمجتمع المترقب، والأمن المنفلت، وأجهزة الدولة المهتزة.. لم يكن من السهل البتة، التعاطي مع معادلة، كل الأرقام فيها قد تبدلت، وكل الحسابات تغيرت، والأجندات الداخلية والخارجية، معروضة على قارعة الطريق، لكن »القائد« السبسي، استطاع بتراكمات ماضيه المتنوعة، وحنكته السياسية القديمة، ولغته الديبلوماسية المستفيدة من مرحلة الحرب الباردة بتقلباتها ومساراتها الهامة، و»فقه الدولة« الذي اكتسبه منذ ما قبل الاستقلال، وترسخ لديه عبر مجالساته ل«الحبيب» طوال أكثر من ثلاثة عقود، استطاع «الباجي» بكل هذا الزخم السياسي والفكري، أن يعيد عقارب الساعة الى وضعها الطبيعي.. رتب الرجل الاولويات، فكانت الدولة ومؤسساتها وأجهزتها هي الهدف، واستعادة الأمن، هي الآلية الضرورية للحكم، وإنعاش الحالة الصحية للوضع الاقتصادي، مربط الفرس الذي كاد ينفلت من عقاله.. غازل السياسيين والأحزاب، عبر قاموس وفاقي لا لبس فيه.. نزع عن الحكومة صفة «الموالاة»، وألبسها جلباب «التكنوقراط».. نادى على «الصيد» من إيطاليا، ليضعه على رأس البناية الرمادية، وهو منصب كان بمثابة لغم قابل للانفجار.. سرّع باحالة ملفات الفساد والمفسدين للمحاكم.. ضخ بعض الدماء في شرايين الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، عبر بعض الشخصيات، رغم كل ما سببه له ذلك من انتقادات وملاحظات.. مارس «ضغوطه» على ادارة ساحة محمد علي، التي كان لها دور في إدارة الثورة، وجزء من الفوضى احيانا.. طمأن المؤسسات التي استعادت نشاطها.. وهكذا تحول قصر الحكومة بالقصبة، الى خلية نحل، بعد أن كان «مقبرة» للسياسة، بل رقما على هامش حسابات الساكن في قرطاج، واستعادت مؤسسة رئاسة الوزراء، دورها في صناعة القرار السياسي، فكانت بمثابة «المطبخ» الذي يهيء الأطعمة للجميع، حتى وإن تسبب بعضها في غثيان بالنسبة لبعض الأطراف والمكوّنات... وهكذا، استعادت البلاد الطيف الأمني الضروري،.. وتحركت دواليب الاقتصاد.. واستفاقت البنوك من سباتها.. وتخلص الناس من شبح الخوف وهاجس الرعب الذي انتابهم لأكثر من شهر، ودبّت الحياة في أوصال المجتمع، وبدأت جحافل الغرب تحط رحالها في القصبة أو قرطاج، تستفسر، وتطمئن، وتبعث بالرسائل الإيجابية، وتهيأت الظروف لاستحقاق انتخابي تاريخي وذلك ضمن سياق وأفق و«ميكانيزم» جديد، كان وراءه «القائد»، و«الكتيبة» التي رافقته.. لكن «الباجي» لم يكن ملاكا، لذلك أخطأ في بعض المواقف والتقديرات والمقاربات والتحالفات والعلاقات، فكان أن انقسمت حوله الأحزاب والمنظمات والهيئات، غير أنه حافظ على جاذبيته المجتمعية، التي ما تزال تحفظ له دوره ومكانته في أحلك ظرف تاريخي مرت به بلادنا.. وإذ يغادر «سي الباجي» قصر الحكومة كرئيس للوزراء (في غضون الأيام القادمة)، فإنه خلف «تراثا سياسيا» سيتدارسه الطلبة في جامعات العالم، وسيقرأه السياسيون بعيون التلاميذ الباحثين عن تميّز في مدارج الحكم، وسيتجادل بشأنه المفكرون والمؤرخون.. قطع قائد السبسي مع حقبة المخلوع.. وربط البلاد بخيط أصله في الحاضر، وفرعه في المستقبل، وتشاء الصدف، أن يكون «الرجل القادم من الأرشيف»، هو الذي يصنع الأرشيف الجديد للدولة التونسية.. أرشيف، هو الذاكرة الجديدة للبلاد، لأنه يؤسس لمرحلة ودور وتحالفات وسياسات.. لن تكون بمقياس الزمن ومنطق التاريخ، إلا جديدة..