المجلس المحلي بسيدي علي بن عون يطالب السلطات بحل نهائي لإشكالية انقطاع التيار الكهربائي    ب 28 مليون مستخدم.. "ثريدز" يتفوق على "إكس" في هذا البلد    عاجل/ نحو إقرار تجريم كراء المنازل للأجانب..    استشهاد شابين فلسطينيين وإصابة اثنين آخرين بنيران الاحتلال الصهيوني غربي "جنين"..#خبر_عاجل    عاجل تلاميذ منطقة الحاج قاسم 2يستغيثون للمرة الثانية في نفس الأسبوع..الحافلة معطلة    عاجل/ الحوثيون يطلقون صواريخ على سفينتين في البحر الأحمر..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    طقس السبت: ضباب محلي ودواوير رملية بهذه المناطق    كيف نتعامل مع الضغوطات النفسية التي تظهر في فترة الامتحانات؟    فاتورة استيراد الطاقة لا تطاق .. هل تعود تونس إلى مشروعها النووي؟    مذكّرات سياسي في «الشروق» (5) وزير الخارجية الأسبق الحبيب بن يحيى... يتكلّم الصادقية حاضنة المعرفة والعمل الوطني...!    "حماس" تعلن تسلمها رد الاحتلال حول مقترحاتها لصفقة تبادل الأسرى ووقف النار بغزة    مع الشروق .. «طوفان الأقصى» أسقط كل الأقنعة.. كشف كل العورات    الرابطة الثانية (ج 7 إيابا) قمة مثيرة بين «الجليزة» و«الستيدة»    مانشستر سيتي الانقليزي يهنّئ الترجي والأهلي    ترشح إلى «فينال» رابطة الأبطال وضَمن المونديال ...مبروك للترجي .. مبروك لتونس    أخبار المال والأعمال    تقديرات بانحسار عجز الميزانية الى 6.6 ٪ من الناتج المحلي    فضاءات أغلقت أبوابها وأخرى هجرها روادها .. من يعيد الحياة الى المكتبات العمومية؟    تنديد بمحتوى ''سين وجيم الجنسانية''    رئيس الجمهورية قيس سعيّد.. المفسدون... إمّا يعيدون الأموال أو يحاسبهم القضاء    ابتكرتها د. إيمان التركي المهري .. تقنية تونسية جديدة لعلاج الذقن المزدوجة    الكاف..جرحى في حادث مرور..    ماذا في لقاء وزير الخارجية بنظيره الكاميروني؟    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    طقس الليلة    تسجيل مقدّمة ابن خلدون على لائحة 'ذاكرة العالم' لدى اليونسكو: آخر الاستعدادات    توزر: المخيم الوطني التدريبي للشباب المبادر في مجال الاقتصاد الأخضر مناسبة لمزيد التثقيف حول أهمية المجال في سوق الشغل    مدير عام وكالة النهوض بالبحث العلمي: الزراعات المائية حلّ لمجابهة التغيرات المناخية    أكثر من 20 ألف طالب تونسي يتابعون دراساتهم في الخارج    وزارة التجارة تتخذ اجراءات في قطاع الأعلاف منها التخفيض في أسعار فيتورة الصوجا المنتجة محليا    الرابطة 1 ( تفادي النزول - الجولة الثامنة): مواجهات صعبة للنادي البنزرتي واتحاد تطاوين    بطولة الرابطة 1 (مرحلة التتويج): حكام الجولة الخامسة    الجزائر تسجل حضورها ب 25 دار نشر وأكثر من 600 عنوان في معرض تونس الدولي للكتاب    المؤرخ الهادي التيمومي في ندوة بمعرض تونس الدولي للكتاب : هناك من يعطي دروسا في التاريخ وهو لم يدرسه مطلقا    كتيّب يروّج للمثلية الجنسية بمعرض تونس للكتاب؟    البطولة الافريقية للجيدو - ميدالية فضية لعلاء الدين شلبي في وزن -73 كلغ    نابل: الاحتفاظ بشخص محكوم بالسجن من أجل "الانتماء إلى تنظيم إرهابي" (الحرس الوطني)    التوتر يشتد في الجامعات الأمريكية مع توسع حركة الطلاب المؤيدين للفلسطينيين    افتتاح المداولات 31 لطب الأسنان تحت شعار طب الأسنان المتقدم من البحث إلى التطبيق    تضم فتيات قاصرات: تفكيك شبكة دعارة تنشط بتونس الكبرى    عاجل/ إصابة وزير الاحتلال بن غفير بجروح بعد انقلاب سيارته    تراجع إنتاج التبغ بنسبة 90 بالمائة    هام/ ترسيم هؤولاء الأعوان الوقتيين بهذه الولايات..    تقلص العجز التجاري الشهري    الشابّة: يُفارق الحياة وهو يحفر قبرا    السعودية على أبواب أول مشاركة في ملكة جمال الكون    أخصائي في أمراض الشيخوخة: النساء أكثر عُرضة للإصابة بالزهايمر    التشكيلة المنتظرة للترجي في مواجهة صن داونز    تُحذير من خطورة تفشي هذا المرض في تونس..    دورة مدريد : أنس جابر تنتصر على السلوفاكية أنا كارولينا شميدلوفا    أمين قارة: إنتظروني في هذا الموعد...سأكشف كلّ شيء    هرقلة: الحرس البحري يقدم النجدة والمساعدة لمركب صيد بحري على متنه 11 شخصا    عاجل : القبض على منحرف خطير محل 8 مناشير تفتيش في أريانة    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المشروع الثقافي للدولة العلمانية في العالم الإسلامي التداعيات والمخاطر(ج7)
نشر في الفجر نيوز يوم 01 - 09 - 2009


الفجرنيوز
وفي الوقت الذي أعطى فيه المعسكر الحر الفرصة للتنظيمات ذات الصلة بالمعسكر الإشتراكي بالمشاركة في الحياة السياسية، نرى أن هذا المعسكر، سواء قبل أو بعد سقوط المعسكر الشرقي، لا يسمح لوكلائه في العالم العربي الإسلامي وفي العالم، بفسح المجال للإعتراف للتنظيمات والحركات والأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية بالنشاط السياسي والمشاركة السياسية، وإذا كان لابد من ذلك، فبشروط معينة، وضمن ضوابط معينة، ولغايات وأهداف معينة. فكيف والحال هكذا يمكن لحركة التحرر الوطني في حركة التحرر العربي الإسلامي أن تنتزع اعترافا قانونيا بها، وأن ينظر لها بغير العين الصليبية اليهودية.
ولهذه الإعتبارات، نرى كيف أن قوات الإحتلال الأمريكي الغربي في العراق، تعيش حرجا كبيرا،وتعاني من مشاكل كثيرة،في مسعى منها للبحث دائما عن العناصر العلمانية، وتعيينهم في المواقع الحساسة والهامة، في محاولة لاستبعاد من سواهم ممن تعلم أو تشتم أو تشتبه في أن لهم علاقة بالعروبة والإسلام ، وبالثقافة العربية الإسلامية، مهما أبدى هؤلاء من ولاء وطاعة وحسن نية. وهذه الخلفية المبنية على ثقافة معادات كل ما هو عربي ومسلم، هي التى حدت بقيادات قوات التحالف المحتلة الغازية للعراق إلى مراجعة موقفها من إحداث القطيعة مع عناصر حزب البعث العربي الإشتراكي، أمام ضغط المقاومة الباسلة التى تأكد لديها من خلال شعاراتها ورموزها وضرباتها، أنها مقاومة عربية إسلامية. وهذه المقاومة وحدها هي المقاومة الحقيقية. وهي التى يجب اعتماد كل الأساليب والوسائل لإنهائها أو عزلها وتهميشها على الأقل.
فقد استفادت قوات الإحتلال من العقلية العربية التى أصبحت لها تقاليد كبيرة في التحالف مع الأجنبي الغازي المعادي، والتعويل عليه في البحث عن حلول لمشاكل شعوب الأمة،ومن التركيبة الطائفية العرقية والثقافية، للتأكيد على أن المقاومة وحركة التحرر الوطني في العراق هي إرهاب يجب استبعاده واستئصاله.وتجد القيادة الأمريكية المعادية لهوية الأمة ولثقافتها وحضارتها في تصريحات رموز الخيانة والعمالة داخل العراق وخارجه ما يضاعف من رغبتها في العمل على أن لا يكون للمقاومة في حركة التحرر الوطني العراقي أي دور في الحياة السياسية والثقافية. وتجد قوات الإحتلال التى أتت لتبقى، في ظل عدم وجود مقاومة ضاغطة تجبرها على الإنسحاب والرحيل، في مثل هذه التصريحات وفي وجود المقاومة مبررا كافيا للوجود وللإستمرار في الوجود، يطالب هوشيار زيباري وزير خارجية العراق المنصب في الحكومة الإنتقالية المعينة من قبل قوات الإحتلال أعضاء مجلس الأمن الدولي بمنح العراق كامل السيادة، مع التأكيد على إلحاحة على وجوب بقاء قوات التحالف في العراق. وفي نفس السياق يصرح المدعو موفق الربيعي مستشار "الأمن القومي العراقي" في الحكومة الإنتقالية المنصبة " أن سبب المشكلة في العراق هو الإرهاب". يقول ذلك مبررا الوجود العسكري الأمريكي في بلاد الرافدين وعاصمة الرسيد بأن ذلك لم يكن إلا" لمقاومة الإرهاب الذي حل بالعراق ويريد أن يفرض نظاما كنظام طالبان".
" وحول الأمن في العراق انتقد الجلبي (وهو من أصحاب السوابق في سرقة ونهب وتهريب المال العام) ضمنا القوات الأمريكية والبريطانية معتبرا أن سلطات الإحتلال وقوات التحالف فشلت في الوصول بشكل جيد إلى بنية و شبكة القاعدة". " وقال: "إن القاعدة تقوم بعمليات في العراق بالتعاون مع عناصر البعث في النظام السابق" مؤكدا أن هدف هذه المنظمة الإرهابية هو دفع الأمور إلى نزاع بين الشيعة والسنة وبين العرب والأكراد"(1).
هذه مواقف وتصريحات بعض رموز الخيانة والعمالة بالداخل العراقي. أما من الخارج، فلئن كانت التصريحات كثيرة ومتعددة بتعدد العملاء والوكلاء للغرب، والمعادين للمقاومة ولحركة التحرر العربية الإسلامية في العراق، وفي كل مكان من العالم العربي الإسلامي، فإن أهم هذه التصريحات، تلك الصادرة عن الزعيم المصري حسني مبارك لوكالة رويترز حيث قال " إن الإرهاب سينتشر في العراق ومنه إذا انسحبت القوات الأمريكية بحلول موعد نقل السلطة إلى حكومة عراقية في 30 حزيران ( يونيو).
وفي التصريحات التي بثها التلفزيون المصري أضاف:"ستصبح فوضى. ستكون مركزا وبؤرة رهبية جدا
للعمليات الإرهابية".
هذه مواقف وتصريحات رموز النظام العربي المعادية لطموحات الشعوب، والموالية كما يعلم القاصي والداني، والخاص والعام، للأجنبي المعادي لآمال أبناء شعوب أمة العرب والمسلمين في الحرية
1 - القدس العربي: 20 ماي 2004 – السنة 16 – العدد 4662 .
والإستقلال وتقرير المصير.
هذه التصريحات والمواقف التي لا تخدم إلا مصالح هؤلاء الخاصة، ومصالح الأجنبي الغازي،هي من قبيل التحدي لضمير الشعوب، من موقع المستهتر والمستخف بها، في الوقت الذي يعلم فيه أن الرأي العام عقلا وعاطفة ومصلحة، رافض للإحتلال وحاقد وناقم عليه. ولم يثنيهم ذلك من موقع المستغل لنفوذه، والمحتمي بالأجنبي، والمالك لكل أسباب فرض الذات، من إنجازات ومكاسب هذه الشعوب نفسها، أن يصدروا مثل هذه التصريحات وتكون لهم مثل هذه المواقف.
ومن المفارقات الغريبة والعجيبة، أن تظل شعوب الأمة في عصر الجماهير والشعوب، وخاصة في المنطقة العربية من العالم الإسلامي، متمسكة بقيادات هي رافضة وكارهة لها.
ومن أعجب وأغرب المفارقات، أن تظل هذه الرموز وهذه القيادة محافظة على مواقعها في شدة الحكم والقيادة، لتسيير شؤون شعوب هي رافضة وكارهة لها وهي تعلم، في عالم لا تقبل فيه الشعوب بتسلط الحكام عليها، ولا يقبل فيه الحكام بالتسلط على الشعوب. و هي من الظواهر الواجب الوقوف عندها ودراستها لمعرفة أسبابها، والعوامل الذاتية والموضوعية المصاحبة لها والمحيطة بوجودها.
- الغزو الفكري والإختراق الثقافي وتأثيرهما على بنية العقل العربي الإسلامي:
ولعل من أشد التأثيرات السلبية والأكثر خطورة في وجود هذه الظاهرة، هو عامل الإختراق الثقافي في أوطان شعوب الأمة العربية الإسلامية، والذي أوجد اختلالا في التوازن البنيوي للعقل الإسلامي عموما والعقل العربي خصوصا. هذا العقل الذي مازال لم يستطع بعد رسم الحد الفاصل بين العقل والعاطفة. فالعقل العربي خاصة، هو العقل الذي ما زال لم يبلغ في عمومه بعد درجة من النضج تمكنه من الإنتقال من مرحلة الإنفعال وردود الفعل إلى مرحلة المبادرة والتأسيس والإبداع. فهو عقل انفعالي مهزوز، بسبب التفريط في اعتماد ثوابت وأصول الثقافة العربية الإسلامية، وعدم القدرة على الإستقرار على ثوابت وأصول الثقافة الغربية العلمانية اللائكية ذات الأصول الصليبية اليهودية، بل وحتى عدم القدرة على إدراك ثوابت هذه الثقافة والوقوف على حقيقتها.
فالغزو الثقافي المصاحب للغزو العسكري، أوجد ما كان الغرب قد خطط له وعمل على إيجاده، من بعث عقل مهجن، لكائن بشري هجين، على أرضية ثقافية رخوة فاقدة لأصولها الشرقية العربية الإسلامية، وغير بالغة وغيرمدركة الأصول الغربية الصليبية اليهودية في الفكر والثقافة والروح الحضارية.
والحديث عن العقل يعني بالضرورة الحديث عن النخبة والصفوة العاقلة. وهي التى بصلاحها تصلح الشعوب والمجتمعات والأمم. وهي التى بفسادها تفسد المجتمعات والشعوب والأمم. وهي التى بتقدمها وتطورها تتقدم وتتطور المجتمعات والشعوب والأمم. وهي التى بتخلفها وانحطاطها تتخلف المجتمعات والشعوب والأمم. فصلاح العنصر البشري العادي من حولها من صلاحها و فساده من فسادها.
وإذا لم يكن مطلوب من هذه النخب العاقلة الناضجة الواعية العالمة أن تكون عقلا خالصا، ولا يمكن لها ذلك، فليس مطلوب منها كذلك أن تكون عاطفة خالصة، ولا أن تغلب عليها العاطفة، ولا أن تطوع العقل للعاطفة بما يذهب عن العقل بريقه وحكمته وإدراكه، بل ربما يكون مطلوب منها أحيانا أن تكون عقلا خالصا أمام طغيان العاطفة عند العامة، ولدى الفئات الإجتماعية الأقل إدراكا ووعيا، لإحداث التوازن المطلوب، ولجم العواطف أكثر ما يمكن في مواجهة القضايا الهامة والكبرى والمصيرية للشعوب وللأمة. فإذا كانت هذه النخب هي المسؤولة عن تشكيل الوعي الصحيح للمجتمع، فمطلوب منها أن تواجه المشاكل وتعالج القضايا بشجاعة ومسؤولية، وهي منصرفة انصرافا كاملا عن الذاتية والمصلحة الخاصة ومتاهات العاطفة. وعليها أن تدرك مجالات العقل ومجالات العاطفة. وأن تحسن استعمال العقل، حيث يستدعي الأمر أن يكون المجال مجال استعمال للعقل. وأن تحسن استعمال العاطفة حيث لا مجال لغير العاطفة، أو حيث يكون في الأمر مراعاة لاستعمال العاطفة.
وإذا كان لابد من مجال للعاطفة، فليس ذلك بالنسبة للنخبة أو النخب العاقلة في القضايا المصيرية للشعب وللأمة وللإنسان عموما.
إلا أن الذي يستقطب انتباه الملاحظ في متابعة بعض القضايا وبعض الملفات على الساحة الإقليمية في الوطن العربي والعالم الإسلامي وفي العالم، أن النخب العربية خاصة، لم تستطع إلى حد الآن ولأسباب كثيرة، أن تتجاوز الإستقطاب الثنائي الأبعاد القائم على الفعل ورد الفعل بمعنى: مع أو ضد، ومن ليس معي فهو ضدي. ولم نستطع كعرب ومسلمين عموما أن نتعامل مع منهج الإستقطاب المتعدد الأبعاد الراصد للظاهرة أو للحدث من أكثر من زواية، وليس بالضرورة حين يكون العقل الناضج هو المرجع، أن يكون العاقل دائما إما مع أو ضد، وإنما يمكن أن يؤسس لموقف آخر ولرأي آخر ولبعد آخر، كأن يكون مع، مع بعض التحفظات، أو أن يكون محايدا لا مع هذا ولامع ذاك، ولا ضد هذا ولا ضد ذاك الخ...
لم يستطع العقل العربي أن يؤسس لنفسه موقعا خاصا في وقت مبكر من تاريخ الفكر القومي، في قضية الإستعمار، وتحديد الجهة المستعمرة للمنطقة العربية من العالم الإسلامي. فلم يستطع هذا العقل إلا أن يكون مع مركز الخلافة أو ضده، أو مع الإستعمار الفرنسي البريطاني أو ضده. وبالعقل الإنفعالي القائم على ردة الفعل، اتخذ من الإستبداد العثماني وفساد نظام الخلافة وضعفها وترهلها ذريعة ليكون العرب حليفا للإستعمار الغربي الصليبي في مواجهة إخوانهم من العرب والمسلمين من مختلف الجهات والأعراق، يدعمون المجهود العسكري للجنرال البريطاني اللنبي، وبقيادة "لورنس العرب" البريطاني والجنرال قلوب قائد الجيش العربي الأردني، و بتنسيق مع كرومر المندوب السامي البريطاني في مصر. لم يستطع العقل العربي أن يكون له موقف أكثر شرفا في القضية، كأن يتصدى العرب للغزاة الغربيين الأصليين مع قوات مركز الخلافة، متجاوزين خلافاتهم القديمة مع الباب العالي، للتخلص في ما بعد للإصلاح حين يكون الإصلاح ممكنا، وإلى الإنفصال حين يكون لابد من الإنفصال، وحينها يكون مشروع الوحدة الذي ظلو يستجدون الغزاة البريطانيين للموافقة لهم عليه بناءا على وعود كاذبة كانوا قد وعدوهم بها، بأيديهم حين يكونوا جادين فيه ومخلصين له. ونفس طريقة التعامل تقريبا كانت مع قضية الجامعة العربية والجامعة الإسلامية، بل مع قضية الجامعة العربية نفسها، والتى لم يستطيعوا بعثها إلا بموافقة بريطانية لما رأت أنه بالإمكان جعل حد لمطالبة العرب إياها بالوحدة بعد مؤتمرات الدار البيضاء وطهران ويالطا، التى سعى فيها الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الثانية لإعادة اقتسام العالم.
ونفس هذه العقلية المتشنجة المتوترة التى مازالت تسيطر على الإنسان العربي، وعلى النخب المثقفة بصفة خاصة، وقد بدا ذلك واضحا في الحرب العراقية الإيرانية، وفي غزو العراق لدولة الكويت، وفي الحرب الصليبية على العراق بعد ذلك، وفي محاكمة الرئيس العراقي المعزول صدام حسين...إلخ...
فليس غريبا أن تكون هذه النخب العبثية الهجينة حليفا للقوى الإستعمارية الحقيقية، وأن تسمي الأشياء بغير أسمائها، بل أن تكون فاقدة القدرة على تسميتها، ولا تملك إلا أن تستمد لها الأسماء المناسبة من الغزاة الغربيين، وتثق بوعودهم، ومن ورائها الرعاع من أمة العرب، وذلك ما حصل تاريخيا وفي وقت مبكر من تارخ نشأة الفكر القومي للحركة القمومية العربية، حيث كان الغرب الإستعماري العنصري أول مستفيد من العقلية التقليدية المحافظة للشريف حسين قائد الثورة العربية الكبرى في ذلك الوقت، كأن يقنعها هؤلاء الغزاة بالتحالف معهم لتحرير العرب من "الإستعمار" التركي، ومنحهم الإستقلال وتسليمهم المنطقة العربية من العالم الإسلامي موحدة.
وليس غريبا عن هذه النخب المتوارثة بعضها عن بعض في ساحة التجاذب الثقافي، الولاء للطاغوت والإيمان بالأشخاص، في انصراف غير قابل للمراجعة لديها عن الإيمان بالشعوب والأوطان والأمة. هذه النخب العلمانية اللائكية والمحافظة الناهلة من المعين الثقافي والفكري للإستعمار الغربي، والمشبعة بالخطاب الرسمي، وبثقافة الطغيان والإسراف والإستبداد، وقد نشأت الغالبية العظمى من عناصرها في ظل سياسة الإستكبار والإستخفاف الفرعوني، وكانت ملحقة بها وداعمة لها، هي التى كانت وراء ثقافة اختزال الوطن والشعب والأمة كلها في شخص الطاغوت، حتى مكنت لثقافة الإيمان به وإن جار وفسد وأفسد. وهي من موقع العاقل الأكثر وعيا بالمسؤولية عن طغيان النزعة العاطفية لدى الشعوب، لأنها من موقع المستفيد الإنتهازي، أو من موقع الغباء السياسي، ومن مواقع عديدة ومختلفة، وبخلفيات مختلفة، ولغايات وأهداف مختلفة، كانت منشغلة بتهييج الجماهير، مصادرة لعقلها، مفسحة المجال ومطلقة العنان للعاطفة، لمزيد كسب التأييد لأنظمة الإستبداد المعاضدة لها. هذا الإنتاج الثقافي العاطفي المصادر للعقل، هو الذي أوجد هذه الحالة من اللاوعي لدى الجماهير، وهذه الأوضاع المهينة التى تعيشها الأمة في بعديها العربي والإسلامي.
هذا التكوين الثقافي، هو الذي أصبح يمثل حجر عثرة أمام القوى الجادة، ويشكل تهديدا لأصحاب العقول النيرة المتبصرة، وأصبح يشار من خلاله إلى القوى الجادة المغلبة للعقل على العاطفة، والمؤمنة بصناعة الحدث، والقيام بالمهمات الصعبة، على أنها قوى متطرفة وإرهابية.
والحقيقة أن هذه القوى هي قوى حق وعدل وحرية ومساواة واستقلال وتحرر وتحرير ووحدة، إلا أن هذه الثقافة المنزلة فيها، جعلت من القوى التقليدية، والقوى المحافظة والقوى الدولية المعادية لكل نفس تحرري في الأمة ومستهدفة له، تنظر إلى حركة التحرر العربية الإسلامية العاقلة الراشدة على أنها حركة شاذة عن المعتاد الماضي وعن معتاد الحاضر. والحقيقة أن حركة التحرر لا يمكن إلا أن تكون شاذة، بمعنى الخروج عن المألوف، باتجاه التجديد والإبداع والإجتهاد والعمل على إحداث نقلة نوعية في حياة المجتمعات والشعوب والامم، باتجاه الخروج من الأزمة الثقافية والسياسية والإجتماعية و الحضارية، ومن ثمة الأزمة الإقتصادية والتنموية والعمرانية والعلمية والتقنية وغيرها من المشكلات الناتجة عن هذا التراكم الثقافي العاطفي، وعن الأزمة الأخلاقية وأزمة القيم التى زادها التغريب استفحالا.
تلك يجب أن تكون غاية التمرد الثقافي والإصلاح، على أساس من الهوية العربية الإسلامية التى هي هوية شعوب الأمة، والتي لا مستقبل لها بغيرها ولا مستقبل لها إلا بها.
ليست ثقافة إطراء المستبد والتهييج العاطفي للجماهير إلا ثقافة الإنحطاط والتخلف. وهي الثقافة التى أجادتها النخبة العربية العلمانية اللائكية، والنخبة التقليدية المحافظة. ففي الوقت الذي لا يشق لهذه النخب المتناقضة مع نفسها غبار في ساحات الصراع من أجل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في كل أقطار المنطقة العربية والعالم الإسلامي، نراها مستأسدة وبباسلة في الدفاع عن سياسات الإستبداد والفاشية، وعن رموز القمع والدكتاتورية ممن زلت بهم القدم في بعض أوطان شعوب الأمة. إن بعض بطون هذه الطوائف، سواء كانت علمانية لائكية أو تقليدية محافظة أو على الأقل، وحتى لا أكون مبالغا، بعض الرموز والافراد من هذه البطون يبدون من مواقع مختلفة ومن أماكن مختلفة تأييدا وحبا للطواغيت والمستبدين في الأوطان التى هم فيها، وكرها لهم في أوطان أخرى، أو كرها للطواغيت والمستبدين في الأوطان التى هم فيها وحبا وتأييدا لهم في أوطان أخرى. ومن هذا السلوك ما يكون ناتجا عن علاقة عقائدية أوفكرية ايديولوجية ثقافية، ومنه ما يكون ناتجا عن علاقة قرابة أوصداقة أو أي علاقة شخصية أخرى. ومنه ما يكون ناتجا عن مصلحة من المصالح أي كانت هذه المصلحة. ومنه ما يكون ناتجا عن مجرد عاطفة، لأنه وجد في وضع صعب لا يجد معه أصحاب القلوب الضعيفة إلا التعاطف معه والرأفة لحاله، متغاضين عن ما كان قد فعله من جرائم في حق الشعب والوطن والأمة والإنسانية عن قصد أو عن غير قصد، عن فهم أو عن غير فهم، عن وعي أو عن غير وعي. ومنه ما يكون ناتجا عن حقد وكراهية ومعاداة لجهة أو لجهات أخرى داخلية أو خارجية أو داخلية وخارجية، مثل الوضع الذي أوجد الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين نفسه فيه. وقد أصبح يروق للبعض، كل من موقعه اليوم، أن ينظر إليه على أنه ضحية. وقد كان يروق للبعض الآخر، سواء من أصحاب المصالح والمآرب، أو من المغرورين والمخدوعين، أو من الأغبياء أن يتوجه بطلا قوميا في مواجهة أمريكا، بعد أن ساءت العلاقة معها بعد غزوه لدولة الكويت، لا سيما وأن الشارع العربي الإسلامي، وحتى الغربي، كان قد أبدى تاييدا للعراق وللشعب في ما يتعرضان له من فتن وبلايا ومكايد ومؤامرات، ومن قصف وتدمير وحصار، حسب البعض. إن كل ذلك التاييد والمساندة من كل تلك الجماهير وكل تلك القوى في المنطقة العربية وفي العالم الإسلامي وفي العالم، هو تأييد لصدام حسين ولحزب العبث العربي الإشتراكي الحاكم، في مواجهة التحالف الغربي العربي الرسمي الذي تشكل لإخراج قواته من الكويت. فقد صودر دور العقل عند الكثير من عناصر النخبة العلمانية اللائكية، وخاصة تلك المنحدرة من البطون ذات النزعة القومية، وفسح المجال للعاطفة. وإذا كانت النخب المثقفة قد تعاملت مع القضية بهذه الصفة، وهي التى تعلم حقيقة شخصية صدام حسين وطبيعة نظامه الإستبدادي، فكيف يكون الأمر بالنسبة للجماهير العريضة، خاصة غير المنظمة منها وغير المؤطرة سياسيا. لقد لعبت العاطفة الدور الأكبر في تتويج صدام حسين بطلا قوميا في مواجهة الإمبريالية الغربية الأمريكية والصهيونية والرجعية العربية، ومدافعا عن الأمة العربية في المرحلة الاولى، بدءا بالحرب العراقية الإيرانية أو حرب الخليج الأولى، التى كان فيها حليفا استراتيجيا للغرب، والتي كان يلقى فيها تأييدا مطلقا ودعما لا مشروطا من النظام العربي والنظام الغربي، ومرورا بغزو الكويت أو حرب الخليج الثانية التى بدا فيها النظام العربي نفسه منقسم على نفسه بين معارض له ومؤيد هذه المرة ،وإن كان المعارضون له معارضين لغزوه الكويت و متحالفين مع القوات الغربية الأمريكية العربية، وقد كانت الجهات السياسية غير الرسمية على نفس هذا المستوى من الإنقسام في الموقف من غزو الكويت ومن المواجهة مع قوات التحالف، إلا أن البعض قد تجاوز هذا الحد، للإنتهاء إلى التأييد المطلق لموقف القيادة العراقية القائل بأن غزو الكويت هو استحقاق سياسي، واكتمال جغرافي لمساحة القطر العراقي الذي ليست الكويت إلا امتدادا طبيعيا له، والتى بها ينتهي العراق إلى صورته الكاملة بمحافظاته التسعة عشر، إلا أن هذا الإنقسام لم يكن واضحا في الشارع العربي والإسلامي والعالمي، وانتهاء بغزو العراق وإسقاط صدام حسين ونظامه، وإلقاء القبض عليه، وتقديمه للمحاكمة في مرحلة ثانية. لقد أعاد العقل العاطفي العربي صدام حسين للواجهة، بعد أن أصبحت قوات الإحتلال ترى أن الوقت قد أصبح مناسبا لصرف الأنظار عما يحدث من إبادة جماعية متواصلة للشعب الفلسطيني من قبل قوات الإحتلال الصهيوني، و لصرف النظر عما يحدث في العراق من تآمر دولي على الشعب العراقي وعلى مقاومته الباسلة، وعن الإستحواذ الكامل عن ثرواته الطبيعية الهائلة من قبل الشركات الأمريكية واليهودية والعالمية،لتبقى الجهة الوحيدة الخاسرة والغير مستفيدة من ذلك، هم أبناء الشعب العراقي، وعن المخطط الأمريكي والغربي الصليبي اليهودي عموما لدفع المنطقة العربية كلها بصفة خاصة، ومن حولها العالم الإسلامي كله باتجاه الإحتواء الكامل لها، وإحكام السيطرة الكاملة عليها، عن طريق التغريب، والعمل على إنهاء أي دور لقوى التحرر الوطني في حركة التحرر العربية الإسلامية، واستئصال مراكز القوة فيها. ليست محاكمة صدام حسين اليوم، وفي محكمة عراقية خاصة، أولوية إلا للقوات الغربية الغازية للعراق، لصرف الأنظار كذلك عن المعاناة التى تتسبب لها فيها المقاومة الباسلة، لضبط الوضع بالبلاد على النحو الذي يجب أن يتحول فيه الإقتتال عراقيا عراقيا، عوض أن يظل عراقيا أمريكيا غربيا. فأمريكا ليست معنية في العراق إلا بتأمين عملية ضخ ثرواته نحو خزائنها، وتأمين عنصرها البشري بما يضمن سلامته واستمرار بقائه في المنطقة. بل إن من أهداف أمريكا والقوات الغربية عموما، استنادا إلى ما عليه العنصر البشري الغربي من ثقافة عنصرية وثقافة استئصال وتطهير عرقي، وضمان سيطرة الرجل الأبيض على العالم، باعتباره الأرقى والأنقى، هو إبادة الشعب العراقي، وقد ذهبت في ذلك أشواطا منذ ما يقارب العقد ونصف العقد من الزمن تحت ذريعة تحريره، وجعل العراق واحة حرية وديمقراطية ومساواة وحقوق إنسان، وأنموذجا يحتذى في ذلك في المنطقة، مثل الذريعة التى تمت بها تصفية الهنود الحمر، رغبة من الرجل الأبيض في تنصيرهم لإخراجهم من الظلمات إلى النور،من ظلمات الوثنية إلى نور الديانة المسيحية المطلقة، ومثل الذريعة التى يبرربها فلاسفة الغرب وكبار مفكريه تجارة الرقيق نحو أمريكا، رغبة من الأوروبيين في زيادة الشعور عند الزنوج الأفارقة بإسنانيتهم.
وحتى لا أقول أن العقل العربي غير مدرك لهذه الأبعاد وهذه الحقائق وهذه الأهداف والغايات، إلا أنه لم يبلغ بعد في ما يري الملاحظ درجة من النضج تشده إلى هذا الوضع على النحو الذي هو عليه، ولا ينصرف إلى هذا الذي هو اليوم منصرف إليه من المتاهات والهوامش والوقوع في الشراك والحبائل والكمائن التى ينصبها له الأعداء. هذه وضعية العقل العربي العاطفي المهزوز، الذي لا يجد لنفسه مجالا إلا بالتفجر في ساحات التهميش، وفي القضايا الهامشية، والإنصراف إلى حيث لا فائدة ولا مصلحة لأحد إلا للجهات المعادية للأمة، ولا ضرر ولا خسارة في هذا الإنصراف إلا لشعوب الأمة، لأن الأمة بعقول أبنائها وإلا فلا أوطان ولا شعوب ولا أمة بدون تلك العقول.
وبقدر ما تنصرف اهتمامات أصحاب عقول أبنائها إلى غايات كبيرة، وإلى تحقيق طموحات شعوبها،وإلى إعطاء أولوية لمعالجة مشاكلها الحقيقية، وإدراك ومواجهة قضاياها المصيرية بالجدية المطلوبة وبالحزم المطلوب وبالتضحيات المطلوبة، بقدر ما تجد لنفسها موقعا محترما تحت الشمس، وتأخذ طريقها إلى العزة والكرامة والحرية والإستقلال.
وبقدر ما يكون انصراف أبنائها من نخبها المثقفة عن عقولها إلى عاطفتها، وعن الجدية إلى الهزل، وعن الأوطان والشعوب وقضاياها المصيرية إلى الأفراد والفئات وقضاياهم الذاتية الأنانية الخاصة، بقدر ما تكون هذه الشعوب مهانة ذليلة مسيطرا عليها، فاقدة للحرية والإستقلال والكرامة والسيادة.
لقد اختار الأمريكيون الوقت المناسب لإعادة صدام حسين إلى واجهة الأحداث، وهم يعلمون أن العقل العربي في مستوى عموم نخبه، وهي التى مازالت على علاقة ببقية من النظام العربي المنهار، والذي عملت قوى الإستعمار على أن لا يكون له بديل جاهز، وما زالت متأثرة بخطابه وبفكره وثقافته في المرحلة التى كان يمثل فيها أمل الأمة، وفي الفترة التى كان يعتقد فيها أنه النظام الذي سلك بها طريق الحرية والعدل والمساواة والوحدة، مازال يؤمن بقاعدة انصر أخا ك ظالما أو مظلوما ويعمل بها، وليقدمه على أنه البطل القومي الذي كان ضحية الخونة والعملاء من أبناء الشعب العراقي، وضحية النظام العربي الخاضع لدوائر الإستعمار والصهيونية العالمية، والذي فرط في شرف الأمة ومكاسبها، وحصل ذلك بإسقاط القوات الغربية بقيادة الأمبراطورية الأمريكية لنظامه، وإلقاء القبض عليه وتسليمه لحكومة عراقية مؤقتة منصبة عميلة ، فاقدة للشرعية الشعبية والقانونية، وهي الجهة الغير مؤهلة بمقتضى ذلك إلى محاكمته، وهو الذي مازال يتمتع بالشرعية الشعبية باعتباره الرئيس العراقي (المنتخب انتخابات لا حرة ولا نزيهة طبعا، وفي غياب أي منافسة تذكر بل، ولا حق لغيره في ذلك أصلا، وفي عدم وجود أي مرشح لمنصب الرئاسة غيره)،وبالشرعية القانونية باعتبار أن إسقاطه تم خارج إطار القانون الدولي، وأن الجهة التى قدمته للمحاكمة هي جهة غير شرعية، باعتبارها قوات احتلال، وجهة غير قانونية، باعتبار أن وجودها بالبلاد وجودا غير قانونيا، وباعتبار أن الشعب العراقي وحده هو الذي يملك الصفة القانونية لمقاضاته، وليس ذلك ممكنا إلا بعد تحرير البلاد من الإحتلال واستعادة الشعب العراقي لسيادته على أرضه.
فلئن كان صحيحا أن الجهات التى تتولى مقاضاة الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين تفتقر إلى الشرعية الوطنية والقانونية، وهي لا تختلف عنه في الإجرام في حق الشعب، وفي حق المنطقة وفي حق الأمة، باعتبارها جهات خائنة للوطن، خائنة للأمة، حليفة للإمبريالية والإستعمار والصهيونية من خلال الإستعانة بهذه الجهات، على ما يسود عندها من اعتقاد على أنها يمكن أن تكون صديقة، ويمكن أن تجعل نهاية لمأساة ومعاناة شعوب المنطقة والأمة. إلا أن ذلك لا يقوم مبررا لإظهار صدام حسين على أنه بطل وأنه ضحية، على اعتبار أن هذا لا يظهر إلا من خلال ذاك. وأن وجود صدام حسين في المعتقل وبين يدي قوات الإحتلال والعناصر المنصبة العميلة لها لا يكون مبررا كافيا لمصادرة العقل وإقصائه في النظر للقضية وفسح المجال واسعا للعاطفة، لتقديمه على أنه البطل وأنه الضحية ، بل و أنه البريء من كل التهم الموجهة إليه، على حلفيه أن المرحلة والوضعية التى هو فيها تقتضي من المعادين لأمريكا والمناهضين لوجود قوات الإحتلال بالعراق وبالمنطقة أن يكونوا إلى جانب صدام حسين وأركان نظامه، وأن يكونوا مدافعين عنهم،وأن لم يفعلوا ذلك فإنهم سيكونوا في الصف الأمريكي الصهيوني، وفي صف عملائهم في مجلس الحكم والحكومة الإنتقالية المنصبين من قبل قوات الإحتلال بإشراف مباشر من البيت الأبيض ومن تل أبيب. فكان لا بد بذلك من الإنتصار إلى الأخ ظالما أو مظلوما، وبعقلية من ليس معي فهو ضدي. وهي نفس عقلية الرئيس الأمريكي جورج بوش الصغير. وهي ثابت من ثوابت الثقافة الغربية. وهو نفس الثابت الذي عليه الثقافة العربية في الجزيرة العربية قبل البعثة. وهي التى استعاد بها العرب اليوم، والعقل العربي العلماني اللائكي العمل وفق ما كانت عليه الثقافة العربية الجاهلية، والثقافة الغربية الصليبية اليهودية. كان ينبغي على العقل العربي- حين يكون ناضجا وحين يكون على غير ثقافة التغريب، وعلى غير ثقافة الجاهلية، وحين يكون على الثقافة الإسلامية التى أعطت معنى إنسانيا لهذه القاعدة، فيه دعوة إلى مناصرة المظلوم ومساندته، والمشاركة معه في دفع الظلم عن نفسه، والإنتصار إلى الظالم برده عن ظلمه، وإقناعه ودفعه إلى التراجع عن ذلك، والإذعان إلى الحق- أن ينتصر لصدام حسين بالدفاع عنه وهو في موقع المظلوم، كما ينتصر له بالدفاع عنه بمراجعته في أخطائه، وإثبات حق ضحاياه من أبناء الشعب العراقي والشعب الكويتي والشعب الإيراني، باعتباره البادي بالحرب والبادي أظلم. لأن انتصار هذه الجهات المتعاطفة معه من النخبة المثقفة أو من غيرها له، والبحث عن مبررات لجرائمه في حق أبناء هذه الشعوب من شعوب الأمة، ومحاولة تبرئة ذمته مما تخلد بها من دماء شهداء وأبرياء، ومعاناة أيتام وأرامل وثكالى، ومن تبديد لإمكانيات وثروات الشعب العراقي في مالا مصلحة له فيه، وفي كل ما فيه مصلحة لعرشه ولسدنته من أركان نظائمه القبلي العشائري العائلي، هو تأييد للإستبداد والظلم والقهر، وتشريع للقتل والإبادة، وإحداث المقابر الجماعية، وتبديد الثروات واستغلال النفوذ. ففي الوقت الذي تريد هذه الجهات أن تجد فيه نفسها إلى جانب صدام حسين وسدنته في نظامه المنهار في مواجهة الإحتلال الأمريكي الغربي، فإنها ستجد نفسها كذلك ملقية بظهرها لحق الشعب العراقي في المقاومة، ولحق الشعب العراقي في إعادة الإعتبار لنفسه من خلال محاسبة صدام حسين على جرائمه التى ارتكبها في حقه، والتى عاشها وما زال ضحاياها منها بالآلاف. وليست في حاجة لإثبات أن المقاومة التى تشكلت بعد سقوط نظامه وسيطرة القوات الأمريكية البريطانية الغازية على العراق، ليست مقاومة من أجل صدام حسين وحزبه وأركان نظامه وعائلته وعشيرته، ولكنها مقاومة مناهضة له وللوجود العسكري الأجنبي بالبلاد، باذلة كل ما في وسعها لتحريرها من الإستبداد والدكتاتورية، ومن الوجود الأجنبي الإستعماري. هذه المقاومة هي التي تنظر إليها هذه الجهات، أو إلى جانب منها على الأقل، على أنها إرهاب وتطرف يمثل خطرا على مستقبل العراق نفسه، والمنطقة والعالم وفق الوصفة الأمريكية نفسها، ووفق المفهوم الأمريكي الغربي الصليبي اليهودي. لم نسمع أن عقيرة أحد من هذه الجهات المنفعلة المتعاطفة مع الدكتاتورية والإستبداد والمعولة على عاطفة عموم جماهير الشعوب في غير وعي ولا عقلانية ولا إدراك ومعرفة لوجه الحق والعدل في القضية، قد ارتفعت للتدخل والدفاع عن المجاهدين الذين طواهم النسيان في معتقل غوانتنامو بكوبا حيث تتصرف معهم وكالة الإستخبارات الأمريكية كيف ما شاءت بلا رقيب ولا حسيب، وتجري معهم التحقيقات خارج كل الأطر القانونية، وبعيدا عن كل القيم الإنسانية، حيث لا يعلم أحد ماذا يفعل بهم هناك، حتى أن سعوديين ويمني قد سقطوا شهداء جراء التعذيب الوحشي، لتعلن القيادة الأمريكية المجرمة في حق العالم لكه، وفي حق الإسلام والعروبة، وفي حق العرب والمسلمين خاصة وفي حق الإنسانية، أنهم قد انتحروا، وهم من الذين لا ينتحرون أولا، ثم هي من الحريصين على تجريدهم في الأصل من كل ما يمكن أن يصلح لمن يفكر منهم في الإنتحار، لأن ذلك ليس في مصلحتها، إلا إذا أصبحت تلك المصلحة تقتضي ذلك، ولتكون بذلك هذه العصابة من القتلة بالبيت الأبيض هي فاعلة ذلك، وهي المسؤولة عنه. وإذا كان الأمريكيون قد فعلو بمعتقلي سجن أبو غريب وغيره من السجون العراقية ما اهتز له ضمير أحرار العالم من صنوف التعذيب والإهانة والإذلال، فكيف يمكن أن تراهم فاعلين بمعتقلي غوانتنامو الذين يصنفهم الأمريكيون على أنهم مقاتلون أعداء، ومن أخطر العناصر ومن ألد الأعداء لها، ولا تنطبق عليهم حتى اتفاقية جنيف لأسرى الحرب حسب ما قرره الإرهابي الأكبر جورج بوش الإبن حاكم الأمراطورية الأمريكية في حينه، لماذا لم يقم هؤلاء الدنيا ولم يقعدوها بهذا الإتجاه مثلما يقيمونها اليوم ولا يريدون أن يقعدوها في قضية محاكمة صدام حسين وعصابته؟
فإذا كانوا قد فعلوا ذلك لأن صدام حسين في قبضة الأمريكان وهو معاد لهم ولمصالحهم في المنطقة، ومدافع عن شرف الأمة وكرامتها وحريتها واستقلالها ووحدتها ومصالحها، فإن معتقلي غولتنامو هم أيضا من العرب والمسلمين وفي قبضة السلطات الأمريكية وغير معترف لهم بأي صفة قانونية وبأي حق قانوني. وإذا كان هناك شك في عداء صدام حسين للإمبريالية الأمريكية والإستعمار الغربي والصهيونية ولمصالحهم في المنطقة، وفي دفاعه عن شرف الأمة وحريتها واستقلالها ووحدتها ومصالحها، فإنه لا أحد من هؤلاء ولا من غيرهم يستطيع أن يشك في عداء هؤلاء المجاهدين للإمبريالية الأمريكية والإستعمار الغربي والصهيونية العالمية ولمصالحهم، ليس في المنطقة العربية فحسب، و لكن في العالم الإسلامي وفي العالم كله.
وإذا كان من تورط صدام حسين في جرائم ضد الإنسانية باعتدائه على إيران وغزوه للكويت وتصفية خصومه السياسيين، وإعلان الحرب على الشعب العراقي كله قتلا وإذلالا وإرهابا وترويعا وتجويعا، واطلاق يده في الشمال الكردي باستعمال الأسلحة الكيمياوية المحرمة دوليا ضد الأكراد ، وفي الجنوب بالإبادة الجماعية للمعارضة الشيعية(السبئية) غير المرحب بدورها المشبوه بل المفضوح في مرحلة ما بعد صدام حسين، وفي ظل الإحتلال الأمريكي الغربي للبلاد، وغيرها من الجرائم لتثبيت حكمه الفردي الإستبدادي، فإن كل ذنب معتقلي غوانتنامو وسجن بغرام أنهم قد وقفوا في أفغانستان موقف الدفاع الشرعي عن أنفسهم وعن بلادهم، على قاعدة أن بلاد المسلم هي بلاد كل المسلمين، وأن بلاد المسلمين هي بلاد كل مسلم، عندما أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية الحرب على أفغانستان وعلى تنظيم القاعدة هناك، بتنسيق مع العملاء والخونة من الداخل، وبدعم من النظام العلماني الجبان بباكستان، والنظام الطائفي الشيعي(السبئي) بإيران، وغيرها من الجهات الخاذلة للأمة والداعمة لاعدائها، وأن ذنبهم الأكبر قبل ذلك هو توجيه ضربات موجعة جدا للأمريكان وللمصالح الأمريكية في كل من كينيا وتنزانيا وبالخبر بالسعودية وفي اليمن، لم يسبق أن وجهتها لهم أي جهة من قبل. ثم تم تتويج ذلك بمهاجمتهم في عقر دارهم في كل من نيويورك وواشنطن في هجمات 11 سبتمبر 2001 الشهيرة، ومازال مجهودهم الجهادي والقتالي متواصلا ضد التحالف الصليبي اليهودي في العالم بقيادة أمريكا، بسبب هيمنتها وسيطرتها على المنطقة، ودعمها اللامشروط والمعلن للكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، ونزعتها الإستعمارية في العالم.ألا نستطيع القول بعد ذلك أن العداء لأمريكا والوقوف في وجهها وتهديد مصالحها، والإنتصار للأمة والدفاع عن شرفها وعزتها وكرامتها ومصالحها واستقلالها وسيادة شعوبها على أوطانها، بالجدية المطلوبة وبالحزم المطلوب، بكل صدق وأمانة وإخلاص، غير كاف لمثل هؤلاء لمساندة من يستحق المساندة في ذلك، والإنتصار له والدفاع عنه، وإلا لكان أحق الناس والجهات بهذه المساندة وبهذا الإنتصار وبهذا الدفاع ، ليس تنظيم القاعدة وحده، ولكن كل التنظيمات المجاهدة في الوطن العربي والعالم الإسلامي وفي العالم، تلك المكونة لحركة التحرر الوطني العربي الإسلامي. فقد بدا واضحا أن المسألة ليست مسألة مواجهة ومناهضة أمريكا والإستعمار والصهيونية ، ولكن مسألة مرجعية ثقافية ومصالح وعاطفة ليس فيها من العقل ولا من الحكمة شيء. وهي عقلية العربي الذي بحكم نشأته وتطوره في ظل الخطاب الرسمي، والثقافة الرسمية التغريبية والمحافظة، والذي لا يستطيع أن يبتعد عن الموقف الرسمي ولا عن الجهات الرسمية وإن جارت وفسدت وأفسدت. وهو الذي لا يستطيع إلا أن يظل محافظا لبعض الولاء أو للولاء كله لجلاديه في النظام الرسمي الفاشي. ولذلك فإن المفارقات الغريبة في تركيبة النخبة والعامة في بنية مجتمعات شعوب المنطقة العربية خاصة، أنه بقدر ما يلاحظ من هنا وهناك من رفض للأنظمة، ومن ازدراء لرموزها ومن معارضة لها ولبرامجها وخياراتها وتوجهاتها، بقدر ما تجد هذه الفئات منصرفة عن الإنخراط في المعارضة السياسية لها، وملتحقة بها ومعززة لموقفها ومنتصرة لها ومدافعة عنها وعن رموزها . لقد لاحظنا من خلال الفضائيات كيف وقع صرف كل اهتمام الشارع المصري بعامته ومثقفيه في كل المستويات إلى ذهاب الرئيس المصري حسني مبارك- صاحب المحاكم الإستثنائية التى تصدر أحكام الأعدام على المئات من أحرار مصر لمجرد معارضتهم لسياسة التحالف مع العدو الصهيوني والإمبريالية الغربية على حساب الشعب المصري والشعب الفلسطيني وكافة شعوب المنطقة ، ولمجرد مخالفتهم له في الرأي في ما يخص الإختيارات والبرامج السياسية والإقتصادية والثقافية والإجتماعية الداخلية الفاسدة، وصاحب قانون الطوارئ الذي ظل محافظا عليه طيلة فترة حكمه، ليوطد به أركان عرشه، وليظل الشعب المصري محروما بمقتضاه من الكثير من الحريات والحقوق، وصاحب معاهدة الإستسلام -لا السلام -المذلة، للكيان الصهيوني الإستيطاني العنصري الغاصب، وصاحب المشروع الثقافي والسياسي للدولة العلمانية الحديثة المعادي للإسلام وللهوية وللنظام الإسلامي الذي هو النظام الطبيعي للشعب المصري ولشعوب المنطقة والعالم الإسلامي كله، إلى ألمانيا لإجراءعملية جراحية لإزالة انزلاق غضرفي أصيب به، والكل حسب الإعلام الرسمي المصري ومن خلاله يتوجه إلى الله بالدعاء له بالشفاء والعودة سالما صدقا أو كذبا. فلئن كان ذلك شعورا إنسانيا نبيلا، إلا أنه بالنظر إلى الجرائم التى اقترفها في حق أبناء الشعب، والإهاناة التى ألحقها بالأمة بسبب سياسات الخذلان والولاء للأجنبي، مقابل ثمن بخس دراهم معدودة أحيانا في شكل قروض تثقل كاهل الشعب، وتجعل الوطن مرتهنا للمؤسسات المالية الدولية، أو مقابل وعود له وضمانات بالإبقاء عليه في السلطة وإطلاق يده في قمع المعارضة الشعبية الجادة، لا يستحق من أبناء الشعب المصري ذلك. وإذا كان لاجزاء للإحسان إلا بالإحسان،أليس الشعب المصري جدير بلفتة إنسانية وشعور نبيل منه إليه؟
أم أنه الحاكم العربي الذي ليس له على الشعب إلا حقوقا، ولا يعترف له بواجبات له لديه ولا بحقوق له عليه؟
إنها العقلية التى تبدو رافضة للإستبداد والظلم والقهر، ومتمسكة بالمستبد في آن والداعية له وليس عليه، والمنتصرة له وليست ضده ، بل والمدافعة عنه وليست الواقفة ضده والمواجهة له، هكذا بكل بساطة وبكل سلبية، وعلى خطورة الأمر بعدم مسؤولية.
لقد تناقلت الصحف أن مجموعة من المحامين في مصر تعتزم محاكمة بوش الصغير ووزيره للدفاع دونالد رامسفيلد وركن ثالث من أركان الحكم في البيت الأبيض بسبب قتلهم لإبني صدام حسين عدي وقصي، وقرأت في إحدى الصحف الصادرة بتونس أن ألف محام تونسي مستعدون للذهاب إلى العراق للدفاع عن صدام حسين. أنظر إلى أي مستوى وصل العقل العربي في مستوى الصفوة والنخبة من التدني والهامشية والتهميش والغباء، بما يثلج صدور أعداء الأمة. ذلك أنه إذا كان لا بد من محاكمة أركان حكم البيت الأيض الأمريكي من أجل قتل إبني صدام حسين عدي وقصي، أليس من باب أولى وأحرى أن يرتقي هؤلاء المحامون إلى مستوى أرفع يجلب لهم التقدير والإحترام، ويؤبه إلى مواقفهم من خلاله، ويستمع إلى أقوالهم، ويغيض فعلهم الأعداء. وعوض أن يحشروا أنفسهم في زاوية ضيقة أن دلت على شيء فإنما تدل عن ضيق آفاقهم وقصر نظرهم وتدني وعيهم. كان عليهم، إن كان لابد من فعل شيء ولو رمزي للتعبير عن سخطهم لما يحصل في العراق ورفضهم له، ومساندتهم للشعب العراقي في ما يتعرض له من قصف وإبادة جماعية، وإحالته إلى ساحة لإجراء التجارب على أحدث الأسلحة الغربية، أن يعملوا على مقاضاتهم في كل الدوائر القضائية الممكنة في العالم إذا لزم الأمر كمجرمي حرب، من أجل ما يقترفونه من جرائم قتل ونهب في حق الشعب العراقي كله، لا بل في حق الأمة والإنسانية كلها ، وليس فقط من أجل قتل عدي و قصي إبني صدام حسين.
وإذا كان لابد لكل المحامين العرب أن يهبوا للدفاع عن صدام حسين في ما يعلمون أنه قد اقترفه من جرائم في حق الشعب العراقي بكل أطيافه السياسية، وبكل أعراقه وطوائفه، بدءا بالشمال الكردي، ومرورا بالمثلث السني، وانتهاء بالجنوب ذي الأغلبية العربية الإسلامية الشيعية السبئية، وهم الذين وضعوا تاج التحرير على رأس الإرهابي الأمريكي جورج بوش الصغير وعصابته في البيت الأبيض- فإن ذلك من حقهم ومن حقه هو أن يكون له من أهل الذكر في القانون من يدافع عنه، وإن كان في ذلك إساءة للشعب وإهدارا لدمه وحقوقه، إلا أنه كان على المحامين العرب الهابين من كل صوب وحدب بالآلاف قبل الدفاع عن صدام حسين ورفاقه أن يدافعوا عن شعوب الأمة، بل أن يدافعوا عن أنفسهم وعن قضاياهم ومشاغلهم ومشاكلهم القطاعية في تلك القطع من الأرض، وفي تلك المساحات التى حددها المستعمر وجعلها لهم أوطانا مع تلك المجموعات التى تساكنهم فيها، والتى جعل منها شعوبا.
كان على المحامين التونسيين وهم مستعدون للذهاب إلى العراق للدفاع عن صدام حسين الذي تقاضيه هناك جهات فاقدة للشرعية الشعبية والقانونية، وهي ليست أقل خطرا على العراق وعلى الشعب العراقي وعلى أمة العرب والمسلمين منه، أن يكونوا أكثر استعدادا للدفاع عن حقوقهم ومشاكلهم التى انقضت عليها السنين الطويلة، وهي موضوعة فوق الرفوف تنتظر الحل وهم منشغلون في الخلافات في ما بينهم أكثر من انشغالهم بخلافاتهم مع سلطة الإشراف التى من المعلوم أن أكثرهم أقرب إليها من قرب بعضهم من بعض، وولائهم لها أكثر من ولائهم للمهنة وللقطاع، وتعاونهم معها أكثر من تعاونهم مع بعضهم بعضا ومع هيئاتهم المنتخبة.
كان من باب أولى وأحرى ومن الأجدى أن يقوموا بواجبهم في الدفاع عن حقوق منوبيهم لدى الجهات القضائية المسؤولة والمعنية لاستعادة حقوقهم المهضومة والضائعة بكل أمانة ومسؤولية، بعيدا عن المضاربات والبيع والشراء، وهم يستعدون للسفر للدفاع عن صدام حسين وأزلامه في نظامه الفاشي المنهار.
كان على المحامين التونسيين وهم يعدون العدة للإنتقال إلى العراق للدفاع عن صدام حسين وعصابته في النظام اللائكي العلماني المنهار،أن يدافعوا عن المظلومين والمضطهدين في بلادهم من أبناء الشعب التونسي ، ممن يخضعهم النظام التونسي الفاشي للمحاكمة باستمرار من أجل آرائهم ومعتقداتهم، ومن أجل استعدادهم للإنضمام للمقاومة والعمل على الإلتحاق بها للمشاركة في تحرير الأرض المغتصبة في العراق وفلسطين وأفغانستان والشيشان وغيرها من أوطان شعوب الأمة المحتلة. صحيح أن هؤلاء وغيرهم في حركة التحرر العربي الإسلامي ليسوا في الأصل في حاجة إلى من يدافع عنهم، لأنهم ليسوا مجرمين ولا قتلة ولا منحرفين، ولا مهربين لأموال المجموعة الوطنية، ولا متاجرين بالممنوعات...وصحيح أنهم إنما يحاكمون من أجل جديتهم والتزامهم بقضايا الحق والعدل والحرية، ومن أجل انحيازهم إلى قضايا الأمة وإلى الشعوب والمستضعفين في الأرض، ومن أجل خيار ثقافي وسياسي واجتماعي أصيل، ومن أجل الطهر والعفة والفضيلة، ولكن تأتي حاجتهم إلى الدفاع من حيث أنهم يتعرضون للمقاضاة والمحاكمة من طرف المجرمين والقتلة المعادين لطموحات شعوب الأمة في التحرر والتحرير والاستقلال والحرية والسيادة الحقيقية على أوطانها. يحاكمون من طرف عصابات المافيا السياسية والثقافية والإقتصادية والإجتماعية المنحازة للطواغيت، والمتحالفة مع قوى الإستكبار العالمي الصليبي اليهودي. إلا أن حاجتهم لمدافعين عنهم بهذا المعنى، لم يلبيها لهم وللأسف الشديد إلا قلة قليلة من الأحرار، وبعض من يلتحق بهم أحيانا لحاجة في نفس يعقوب. على الآلاف من المحامين العرب أن يعدوا حقائبهم ويحزموا أمرهم للعبور إلى بلاد الرافدين تلبية لرغبة في أنفسهم، ثم لرفع الحرج عن هيئاتهم ، ثم تنشيطا للمزايدة بعضهم على بعض، ثم لإعطاء انطباع لدى الأنظمة الفاشية أن طواقمها الرسمية ورؤوس الفتنة فيها وكبار مجرميها يمكن أن يجدوا من يواصلوا وقوفهم إلى جانبهم في حال انتهاء أمرهم إلى ما انتهي إليه أمر صدام حسين. وهم الذين لم يجد منهم أهل الأخ عبد الحميد الحويشي المنتهية عقوبته بعد قضاء 13 سنة و8 أشهر بسجون بن علي ومكونات الحركة العلمانية المتحالفة معه بمدينة قبلي بالقطر التونسي، ولو واحدا يقبل إعلان نيابته عنه لمدة ساعة أو ساعتين، وربما بضع الساعة خالص الأجر، ليحضر معه الجهة القضائية المعنية لتسوية وضعية في ماهو متهم به، مما له علاقة بالإنتماء لحركة النهضة الإسلامية بتونس، مما يجب أن يكون قد اتصل به القضاء.
من هؤلاء ربما من هو مستعد للذهاب إلى العراق للدفاع عن صدام حسين. ومن هؤلاء من يمكن أن يكون مستعدا للإنتقال لأي مكان من الأرض للدفاع عن أحد كبار المجرمين في النظام العربي ممن لم يسعفهم الحظ بحضورهم الموت قبل أن يحاسبوا.
ليس في الحقيقة من سوء حظ الأحرار أن لا يجدوا من هؤلاء من يدافع عنهم في قضايا الشرف والحرية والكرامة والعزة والفضيلة والحق والعدل وكل القيم النبيلة. ولكن من سوء حظ هؤلاء وسوء طالعهم أن الله لم يكرمهم في هذه الدنيا بأن يكون لهم دور في مثل هذه القضايا.
-"الإرهاب الإسلامي" والنظام العربي " الإسلامي " والدولي؟:
الإرهاب الإسلامي في قاموس معظم النخب العلمانية اللائكية الهجينة، وفي قاموس النظام العربي العلماني اللائكي، والتقليدي المحافظ الهجين، وفي قاموس النظام العلماني اللائكي الصليبي اليهودي الغربي الأصيل المتأصل في العلمانية التوراتية الإنجيلية، هو كل مجموعة أو فئة أو تنظيم أو فصيل أو حركة أو حتى شخص، يعمل بأي طريقة وبأي أسلوب، في أي وقت وفي أي مكان، لاستعادة العمل بالنظام الإسلامي في أوطان شعوب الأمة العربية والإسلامية، وله موقف محدد من نظام الدولة العلمانية الحديثة، ومن الدولة التقليدية المحافظة، والنظام العلماني اللائكي العالمي، ويسلك طريق المواجهة السلمية أوالعنيفة لإحداث التغيير المطالب شرعا بإحداثه، والذي يجد فيه نفسه في علاقة خلاف أو صدام مع الإنظمة التابعة العميلة، والنخب العدمية والعبثية المعاضدة و"المعارضة"لها، والقوى الدولية الإستعمارية الأمبريالية والصهيونية العالمية الملتفة على عالم المستضعفين في الأرض عموما. فإذا كان هناك خلاف في القبول بالظاهرة أو رفضها في مختلف أوطان شعوب الأمة لأسباب مختلفة وبخلفيات مختلفة ولغايات مختلفة، وفي أوطان مختلفة، فإن الرفض يبقى هو الأصل، وما من قبول بالظاهرة الإسلامية في أي قطر من أقطار العالم الإسلامي على ما نعلم، إلا وكان الرفض سابقا له، ولا نعلم بقبول للظاهرة لم يكن قد سبقه رفض لها. ومن خلال القبول بالظاهرة الإسلامية التى وقع تحويلها إلى إرهاب عالمي ورفضها، تباينت المواقف منها من قبل الأنظمة التى قبلت بها لأسباب معينة وفي ظروف معينة ولغايات وأهداف معينة ، والأنظمة التى ظلت رافضة لها ورافضة للقبول بها، بتعلات وتبريرات وذرائع مختلفة باختلاف الأوضاع وموازين القوة. والذي يجمع بين كل هذه الجهات المتراوحة في النهاية بين القبول والرفض للظاهرة الإسلامية من مواقع الإختيار أو من مواقع الإضطرار والإقتناع أو الإمتناع، هو النظر إليها في النهاية على أنها ظاهرة مشكلة من جهات إرهابية ومتطرفة. أما القوى الدولية فلم يشتد توترها ضدها إلا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن، إذا ما استثنينا الكيان الصهيوني العنصري الذي ازداد توتره بعد ذلك، وحاول أن يجعل من ذلك مبررا كافيا لحرب الإبادة التى يشنها على الشعب الفلسطيني، والذي بدا واضحا أن المقاومة الإسلامية والمعارضة الإسلامية، قد مثلت قوى ضغط كبيرة على النظام العربي والنظام العلماني الهجين في أوطان شعوب الأمة الإسلامية. وأجبرت الأنظمة الفاشية الإستبدادية على إدخال إصلاحات على الساحة السياسية، كانت الجهات الإسلامية الضاغطة هي الجهات الوحيدة المتضررة فيها. وهي التى لم تقطف ما أنضجت من الثمار. وكانت نتيجة تلك الإصلاحات أن قربت الأنظمة العلمانية اللائكية الهجينة بطون طائفتها التى ظلت زمنا طويلا تستبعدها وتقصيها وتعمل على تهميشها، لتزعم بعد ذلك أنها شهدت بها نقلة نوعية في العمل السياسي الديمقراطي التعددي. وكان ذلك قبل حتى انهيار المعسكر الشرقي. وقبل أن يصير النظام الليبرالي الحر هو الخيار الوحيد في العالم. و قبل أن تصبح الديمقراطية والحرية والمساواة وحقوق الإنسان " مطلب المعسكر الغربي في كل أنحاء العالم"
إن الذي لاشك فيه، أن الظاهرة الإسلامية بمختلف تعبيراتها وفصائلها وتنظيماتها في الوطن العربي والعالم الإسلامي حيث نشأت وتطورت، وحيث يجب أن يكون لها وجود، وهو الفضاء والوسط الذي هي معنية بمزاولة نشاطها الثقافي والفكري والروحي والأخلاقي والسياسي والإجتماعي فيه. وهو محيطها الطبيعي الذي من المفروض أنها هي الأصل فيه، والتي أصبحت بفعل الإستعمار والصهيونية ووكلائهما في هذه الأوطان هي الإستثناء. هذا الوسط الذي من المفروض أن كل هذه الجهات والأطراف التي أصبحت أصلا أو تريد أن تكون كذلك هي في الأصل الإستثناء فيه. هذه الظاهرة هي التى فرضت على أنظمة الحكم الفردي الإستبداد حيث كان لها وجود القبول بالآخر العلماني اللائكي، ولم يكن ذلك اقتناعا من هذه الأنظمة بذلك، ولا كان الوضع الدولي قبل سقوط المعسكر الشرقي يفرض عليها ذلك أويضغط عليها بذلك الإتجاه، ولا كان لتلك القوى السياسية العلمانية اللائكية المعارضة الحد الأدنى من الحضور الشعبي الجماهيري على الساحات الوطنية ، ولم يكن لها من الإشعاع والقدرة على الضغط ما يجعلها قادرة على انتزاع حقها في المشاركة السياسية، بالقدر الذي حصلت عليه. وإذا كان الأصل في الصراع السياسي، أن يكون للجهات والاطراف والقوى المتنافسة والمتصارعة من المكاسب ما تفتكه، وبقدر ما تكون قوية بقدر ما يقع القبول بها، فإن الذي حصل كان خلافا للقاعدة ولما هو متعارف عليه في النظام العربي"والإسلامي" إزاء هذه المكونات المحسوبة على المعارضة في الحركة العلمانية اللائكية هذه المرة، ذلك أنه بقدر ما كانت هذه التنظيمات المعارضة ضعيفة بقدر ما كان الإستعداد للإعتراف والقبول بها أكبر، ليتم القبول والإعتراف بعد ذلك في بعض الأوطان بجهات إسلامية وفق شروط هذه الأنظمة والنخب العلمانية التي انتقلت في غالبيتها العظمى من المعارضة إلى المعاضدة والموالاة، ومن اليسار إلى اليمين، ومن معارضة الأنظمة إلى معرضة المعارضة، وببعث وتأسيس لها منها، خروجا من حرج القبول بالأحزاب والتنظيمات العلمانية وعدم القبول بأحزاب وتنظيمات إسلامية، وتحقيقا لشرعية إسلامية لا تكون لها إلا بوجود أحزاب وتنظيمات إسلامية معترف بها، والتي عملت جاهدة أن لا تكون من المعارضة الإسلامية المستقلة، ولكن من تلك الأحزاب والتنظيمات التي أوجدتها بشروطها. ولا يكاد يخلو أي قطر من أقطار العالم العربي والإسلامي من هذه الظاهرة أو تلك.
إن الذي بدا واضحا أن إعادة التشكل التى يتجه إليها العالم ليست في الحقيقة، في جوانب كثيرة منها، بفعل الإرادة الإقليمية ولا الدولية الداخلية والخارجية، ولكن بفعل الضغط الإسلامي الداخلي والخارجي بمختلف تعبيراته وأطيافه وأشكاله. وبقدر ما يكون الضغط شديدا، ويكون الحضور ضاغطا، بقدر ما يجد النظام العربي و"الإسلامي" والنظام الدولي نفسه مضطرا للتنازل، ولإحداث التغييرات المناسبة باتجاه إقرار توازنات يحصل من خلالها أكثر ما يمكن من الإستقرار الذي لا مصالح لهذه القوى الدولية والإقليمية بدونها، من حيث تريد أو لا تريد، ومن حيث تعلم أو لا تعلم، ومن حيث تقصد أو لا تقصد. وفي الوقت الذي تنظر فيه هذه القوى الوطنية والإقليمية والدولية للظاهرة الإسلامية على أنها إرهاب، جاءت الدعوة الأمريكية المدعومة بالغرب الصليبي، وبمباركة من الدول الثمانية الأكثر تصنعا في العالم إلى "إصلاح النظام العربي و"الإسلامي". صحيح أن الدعوة الأمريكية قد جاءت لتحدث ضغطا على النظام العلماني اللائكي، والنظام التقليدي المحافظ الهجين، لإحداث جرعات من الإصلاح على الأوضاع الفاسدة التى أقامها، وعلى طبيعته الفاسدة، والتي كانت بدعم منها ومن باقي النظام الغربي الإستعماري، باتجاه ما يتحقق لها من استقرار تضمن من خلاله الإبقاء على الوطن العربي والعالم الإسلامي على حالة من الضعف والتخلف والإنحطاط تريده أن يظل عليها وتعمل بكل الأساليب والوسائل على ذلك، وتضمن من خلاله مصالحها المادية وتفوقها العرقي والديني والسياسي والثقافي والإقتصادي والعسكري ، وأمن واستقرار واستمرار الوجود الصهيوني بالمنطقة، والمحافظة على هذه الأنظمة الفاسدة، والتى لا تريد لها إلا أن تكون كذلك، وتعمل باستمرار على أن تكون كذلك. وهي بحكم طبيعتها الفاسدة لا تنتج إلا فسادا، ولا يمكن أن يصدر عنها إصلاحا. وهي ملتزمة مقابل الحماية الأمريكية لها، بالقيام بكل ما تطلبه منها أمريكا وبكل ما تشير به عليها. وليس من المصادفة أن تأتي هذه الدعوة للإصلاح متزامنة مع ما يحدث في فلسطين، وما يحدث في العراق وفي السعودية وفي اليمن وفي مصر وفي الجزائر وفي الصومال وفي الفيلبين وفي اندونيسيا وفي الشيشان وفي كشمير وفي أفغانستان وطاجكستان وأوزبكستان وغير ذلك من الأوطان بمختلف أنحاء العالم الإسلامي، ولاحقة لما حدث في نيويورك وواشنطن.
- النظام العربي "الإسلامي" الفاسد وخطة الفساد الإمريكية الغربية للشرق الأوسط الكبير:
ولكن تداعيات الأحداث وفعل حركة المقاومة، وتشكل حركة التحرر الوطني العربي الإسلامي سلما وحربا في أنحاء العالم الإسلامي وفي الكثير من مناطق العالم، وشعور معسكر الإستكبار بالتحدي وبالخطرعلى مصالحه ومشروعه الثقافي الغربي العنصري، ونظامه العلماني اللائكي الأصيل والهجين، هي التى ألقت بظلالها على السياسة الغربية بقيادة أمريكا، وفرضت على صناع القرار في واشنطن وفي مختلف أهم العواصم الغربية أن يلحقوا مجهودهم الحربي العسكري بما يرونه مناسبا، مما يعتبرونه إصلاحات قد تخفف من نزعة عداء شعوب الأمة والشعوب المستضعفة عموما للغرب عامة ولأمريكا بصفة خاصة. وليست هذه الدعوة في الحقيقة إلا جملة من الأوامر لوكلاء الإستعمار في الحركة العلمانية والتقليدية في المنطقة وفي العالم الإسلامي، وجملة من الضغوطات والإملاءات الأمريكية على هذه الجهات لإصلاح نفسها والسماح ببعض الهوامش من الحريات الديمقراطية، وإحداث بعض المتنفسات، بما قد ينهي حالة الإحتقان الجماهيري أو يخفف منها، وبما يطيل في عمر هذه الأنظمة المنتهية صلاحيتها الحليفة للمارد الأمريكي، والتي هي في زمان غير زمانها، ويمنع في نفس الوقت صعود قوى سياسية "إرهابية" غير مرغوب في صعودها لسدة الحكم، أو مشاركتها في أخذ القرار إلا صوريا وفي أحسن الحالات، وبنسبة ضعيفة يتحقق لها بها وجود لا يؤثر في النهاية في القرار، الذي يجب أن يبقى في النهاية لأمريكا عبر عملائها ووكلائها في هذه المناطق الشاسعة الثرية من العالم.
إن عملية الإصلاح التى دعت إليها أمريكا هي مطلب جماهيري، وحركة سياسية وثقافية واجتماعية قائمة منذ أكثر من قرن ونصف من الزمن، قدمت فيها الحركة الوطنية العربية الإسلامية في العالم الإسلامي مئات الشهداء وآلاف الأسرى والمعتقلين، ومئات الآلاف من المطاردين والمنفيين والمضطهدين من أجل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والإصلاح والإستقلال. ولم تأبه أمريكا والدوائر الإستعمارية الغربية عموما لها. وكانت كلها تقدم الدعم والتأييد والمساندة لأنظمة الإستبداد التي أوجدتها وظلت تحضى برعايتها ودعمها وتأييدها والتى بدا لها اليوم أنها فاسدة يجب العمل على إصلاحها، إذا كانت تريد أن لا يطاح بها، ويبقى ذلك واردا إذا أصبح ميئوسا من إصلاحها، وإذا وجدت من تستند إليه من القوى العميلة الداخلية في التدخل العسكري لفعل ذلك في الوقت المناسب، مثلما حصل في أفغانستان والعراق وما تطالب به مثل هذه القوى في الصومال بعدما آل الأمر في الصراع للحركة الإسلامية ممثلة في اتحاد المحاكم الشرعية. فمازال الإستعمار هو الذي يقيم الأنظمة في المنطقة العربية خاصة، وهو الذي يسقطها. وهو الذي يفسدها أو يريدها فاسدة، وهو الذي يعمل على إصلاحها ولا يريدها صالحة إلا بقدرما تكون ضامنة لمصالحه ولنفوذه ولمشروعه الثقافي والسياسي والحضاري. وليس من مصلحة أمريكا والقوى الإستعمارية الغربية الأخرى أن تدعم حركة إصلاح داخلية، لما يمكن أن تكون عليه من إصلاح حقيقي، ولما يمكن أن تكون مالكة له من برنامج إصلاحي حقيقي أصيل، باتجاه حرية حقيقية ونظام ديمقراطي يضمن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدل والمساواة، ويجعل المصالح الوطنية في صدارة اهتماماته، في إطار خطة مرحلية تقتضيها الظروف والمرحلة، يكون التوافق فيها بين مختلف مكونات الشعب السياسية والإجتماعية في كل بلد عربي إسلامي، على مواصلة العمل بالنظام العلماني، الذي يجب أن يتم ترشيده تدريجيا باتجاه ما تتحقق به رغبة الشعوب في قيام النظام الإسلامي، الذي يجب أن يكون مطلبا شعبيا جماهيريا كاسحا، حتى لا يكون قيامه إلا عن طريق الشعوب، لتكون هي وحدها المسؤولة عن حمايته واستمراه وإنجاحه والمحافظة علية باعتباره نظام عبادة وعادة وليس كغيره من الأنظمة العلمانية والتقليدية نظام عادة فقط. لذلك نراها تلجأ إلى إصلاح أنظمة وفية لها قد لا تجد عنها بديلا في الأوساط الداخلية التي تحتضن حركة الإصلاح التى تعمل على تأكيدها حركة التحرر الوطني العربي الإسلامي. ذلك أنه إذا كان لابد من مراهنة على جهة من الجهات أو بعض الجهات، فيجب أن تكون جهات علمانية تغريبية، وهي اليوم الأضعف في عموم العالم العربي الإسلامي، حيث أصبح الحضور الأقوى فيه دائما للحركة الإسلامية بمختلف فصائلها وتنظيماتها مهما كان هذا الحضور ضعيفا. وإذا لم يكن الأمر كذلك فهي الأكثر حظوظا في كسب التأييد الجماهيري الشعبي على المدى المتوسط والبعيد،لأصالة مشروعها الثقافي، وصدق برنامجها السياسي، ووضوح علاقتها بالآخر الأجنبي الإستعماري الصليبي اليهودي. ذلك أن مشروع الإصلاح الأمريكي للشرق الأوسط الكبير- أصبح يقتضي من أمريكا حضورا عسكريا، بما يعني عودة الإستعمار العسكري مرة أخرى بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية هذه المرة، كأكبر قوة ضاربة في العالم، لا تجرأ على مواجهتها والوقوف في وجهها أية قوة أخرى، وبوجود الكيان الصهيوني كأكبر قوة عسكرية في المنطقة العربية، وهو الوحيد الذي يملك ترسانة من أسلحة الدمار الشامل، لا يعلم عنها أحد شيئا يتعزز بها هذا الوجود و يتدعم.
ذلك أن هذا المشروع يصطدم بجهات علمانية لائكية وتقليدية محافظة ضعيفة لا يعول عليها. وهي في حاجة إلى الوجود العسكري الأمريكي المباشر، الذي يعطي الشرعية المطلقة للمقاومة في حركة التحرر العربي الإسلامي في مواجهة هذا الوجود، وبجهات عربية إسلامية أكثر قوة لا يمكنها التعويل عليها، بل هي مدعوة لمقاومتها والعمل على استئصالها، باعتبارها تنظيمات إرهابية معادية لمصالحها ولوجودها العسكري والسياسي والثقافي والحضاري، وذلك ما تحاول أمريكا نفسها أن تتجنبه لو كانت قادرة على ذلك، لما يلحق بها من خسائر مادية وبشرية ومعنوية. ورغم أن الولايات المتحدة الأمريكية تعول في جانب كبير من الإنفاق على حضورها العسكري وعملياتها التدميرية التخريبية، خاصة في العراق، على دول الخليج العربي. إلا أن ذلك يبقى غير كاف، ويكلفها نفقات مالية إضافية باهضة في كل من العراق وأفغانستان. ف" قد وافق مجلس الشيوخ الأمريكي الذي يهيمن عليه الجمهوريون بالإجماع أول أمس على تعديل في مشروع ميزانية الدفاع للعام 2005 ينص على تخصيص مبلغ 25 مليون دولار إضافي لتمويل العمليات العسكرية في العراق وأفغانستان.
وكان الرئيس جورج بوش طلب هذا المبلغ من الكونغرس مطلع ماي الماضي بسبب تصاعد أعمال العنف في الأشهر الاخيرة في العراق"(1)
وبالإضافة إلى الخسائر المادية، فإن الخسائر البشرية شديد التكتم عليها قد بلغت ولا شك الآلاف من الجنود والمدنيين الأمريكيين في حربها على أفغانستان والعراق. أما على المستوى المعنوي، فإن أمريكا على ماهي عليه من عنجهية وتدخل سافر في شؤون العالم، قد أصبح يلازمها قلق دائم من تنامي العداء لها في مختلف أنحاء العالم بما يجعل مستقبلها أكثر تهديدا.
وإذا كانت أمريكا ومن ورائها الغرب الإستعماري الصليبي، والصهيونية العالمية، مدعومة بالأنظمة
الإستبدادية العلمانية والمحافظة والنخب المعاضدة لها، تريد بالإصلاح فرض الخيار الثقافي والسياسي
والحضاري الغربي، في مواجهة الخطر "الأصولي الإرهابي الإسلامي المتطرف"، بما يعني مواجهة الخيار الثقافي والسياسي والحضاري العربي الإسلامي الأصيل، فإن اصطدامها بالحركة الجهادية في حركات التحرر الوطني العربي الإسلامي، وبالمقاومة بمعناها المادي والأدبي، هو الذي سيضطرها في مزاولة عملية الإصلاح التى تزعمها لإعادة تصنيف قوى المقاومة في هذه الحركة التى أصبح لها بعد عالمي، والتي من استراتيجية عناصرها أن تضرب في كل مكان، وفي الوقت الذي تراه مناسبا. وهي التى أصبحت اليوم صاحبة المبادرة في صناعة الحدث.
ما كان لأمريكا والغرب الصليبي الإستعماري أن يدركا خطورة رعايتهما للأنظمة الإستبدادية الفاسدة في المنطقة العربية خاصة، وفي الكثير من أوطان شعوب الأمة الإسلامية عامة، لولا هجوم 11 على الولايات المتحدة الأمريكية وما سبقه وما تلاه من أحداث في الكثير من مناطق العالم، خاصة ما يجري في فلسطين المحتلة من فعل للمقاومة، وفي العراق من تصدي للقوات الأمريكية البريطانية الغازية والدول التى استجابت لدعوتهما للمشاركة معها في "ضبط الأمور هناك". وبقدر ما يشتد ضغط المقاومة في حركة التحرر العربي الإسلامي المصنفة إرهابا وتطرفا على الأنظمة الهجينة علمانية لائكية كانت أم تقليدية محافظة، وعلى القوى الدولية الإستعمارية، بقدر ما تستجيب هذه الجهات إلى الأصوات الداعية إلى
1 - جريدة الصباح: الجمعة 4 جوان 2004 عدد 17793
الإصلاح، بما يعني إصلاح الأوضاع السياسية والإقتصادية والثقافية والإجتماعية، لا إصلاح الأنظمة، على النحو الذي يجعل القوى الأصلية والجادة طرفا فاعلا مقبولا ومعترفا به. وبقدر ما يتأكد توازن الرعب بين مختلف أطراف وجهات المقاومة في حركة التحرر العربي الإسلامي، وبين قوى الإستكبار الداخلي والخارجي المحلي والأجنبي، بقدر ما تكون عملية الإصلاح بالإتجاه الذي تريده قوى الإصلاح، لا بالإتجاه الذي تريده الأنظمة ولا القوى الدولية التى تدعم وجودها وتعمل على إطالة عمرها بالعمل على إصلاحها رغم عدم قابليتها للإصلاح، وهي التى بلغت درجة من الفساد أصبحت بمقتضاها ميؤوسا من إصلاحها، والأكثر فسادا من هذه الأنظمة كلها، هي تلك التى تحسب أنها قد بلغت مرحلة من التطور والإصلاح أصبحت بها غير معنية بما هي معنية به غيرها من الأنظمة، وهو إصلاح مغشوش وقع تتويج الدكتاتورية فيه على أنها نظام ديمقراطي تعددي وهو يمارس الإستئصال والإقصاء والتهميش، ويمكن مثل النظام التونسي لثقافة الإستهتار والتهميش والرذيلة والدعارة، ولعله الأسوأ على الإطلاق فعلا، لأن مكوناته تعتبر أن الإصلاح والتطور لا يكون إلا عبر التمسك بمشروع"الحداثة" والتغريب ومواصلته والتواصل معه، بما يرضي الغرب الصليبي اليهودي عنها، والتفريط في الثوابت والأصول الثقافية والدينية والحضارية للشعب وللأمة. إن الذي لا شك فيه أن تطور الأوضاع في الوطن العربي والعالم الإسلامي باتجاه الديمقراطية والتعددية والمساواة وحقوق الإنسان- إذا كان لابد من تطور- قد تمثل في جملة من التنازلات في بعض الأوطان من قبل بعض الأنظمة استجابة لضغوطات داخلية كبيرة مارستها عليها قوى ضغط داخلية علمانية وإسلامية بالأساس. وليست دعوة الإصلاح التى أطلقتها القوى الغربية الدولية، والتى أخذت أمريكا على عاتقها أن يكون لها عليها إشراف مباشر، ومتابعة متواصلة نابعة عن اقتناع من هذه القوى، ولكن تصاعد وتيرة العنف وبلوغ الحد الذي فاجأ كل المراقبين، هو الذي اضطر هذه القوى الدولية إلى التفكير في إعادة تشكيل المنطقة الأكثر توترا والأكثر حساسية في العالم. وهي المنطقة المعنية أكثر بصراع الثقافات والحضارات والأديان الذي دأب العالم الغربي على تفجيره منذ وقت مبكر من التاريخ الحديث، بل إن تاريخ الغرب الحديث كله ليس إلا تاريخ صراع الثقافات والحضارات والأديان.
وهي المنطقة المحتوية على أكبر مخزون للطاقة في العالم. ومازالت وستظل على المستوى القريب والمتوسط على الأقل من أكبر الأسواق الإستهلاكية، ومن المزود للأسواق الغربية والسوق المالية الأمريكية تحديدا بالرساميل التي ظل الإقتصاد الغربي والأمريكي هوالمستفيد الأكبر منها دائما، وظل الإقتصاد العربي الإسلامي دائما الخاسر الأكبر.
إن الذي لا شك فيه أن المراهنة في دعوة الإصلاح التى أطلقتها الولايات المتحدة الأمريكية ستكون على الشخصيات والتنظيمات والأحزاب العلمانية المتغربة والقوى المحافظة، على خلفية احتوائها وتحييدها حتى يحال دونها ودون التحاقها بالقوى الإسلامية، إلا أن ذلك لا يمكن أن يمكن لعملية الإصلاح بالقدر الذي يتحقق به الإستقرار المطلوب، وينتهي به تهديد المصالح الغربية الأمريكية في العالم الإسلامي وفي العالم. وستجد أمريكا وحلفائها أنفسهم في حاجة لإعادة تصنيف فصائل وتنظيمات الحركة الإسلامية من إرهابية، إلى متطرفة، إلى أقل تطرف، إلى معتدلة، باتجاه شق الصفوف، وتقريب هذا إليها وإبعاد ذاك عنها. وإخراج هذا من خانة الإرهاب إلى خانة التطرف. وإخراج ذاك من خانة التطرف إلى خانة الأقل تطرف. وإخراج الأقل تطرفا إلى الإعتدال. وبحسب الأوضاع والأحوال السياسية والثقافية والإقتصادية والإجتماعية في كل قطر من أقطارالعالم الإسلامي، وبحسب قوة النظام في هذا القطر أو ذاك أو ضعفه، وبحسب طبيعته: علمانيا لائكيا كان أو تقليديا محافظا، وبحسب درجة التهجين التى هو عليها، وبحسب القوى والتنظيمات العلمانية واللائكية والتقليدية المحافظة قوة وضعفا، وحركة وخمولا، واتفاقا معهم أواختلافا، وولاء لهم أوعداء، يتم القبول بهذا والإعتراف بذاك، ورفض القبول بهذا والإعتراف بذاك، وتأكيد وجود هذا وتهميش ذاك، بحسب القرب والبعد، والولاء والعداء، والإعتدال والتطرف، والقوة والضعف. لم تكن كل هذه الحسابات موجودة قبل أن تطرح تنظيمات وفصائل الحركة الإسلامية في مختلف أوطان شعوب أمة العرب والمسلمين نفسها، كقوة سياسية وثقافية واقتصادية واجتماعية وحتى عسكرية على العالم. وكان ينظر إليها قبل ذلك على أنها قوى معادية لمصالح الغرب، قياسا لما هي عليه علاقة الطائفة العلمانية الهجينة والطائفة التقليدية المحافظة من ولاء له، وتأمينا و ضمانا منها لمصالحه، وبالنظر ربما لطبيعتها الإسلامية التى يعتقد أنها لا يمكن من خلال فهم الغرب للإسلام، ومن خلال الصورة التى يقدم عليها المسلمين في الثقافة الغربية الصليبية العنصرية، إلا أن تكون معادية للغرب ولمصالحه، وكان أن تم التوافق والإتفاق بينه وبين نخب الطوائف الحاكمة العلمانية اللائكية منها والتقليدية المحافظة على مواجهتها لاستئصالها أوإضعافها أو على الأقل تهميشها، أو في أسوء الحالات احتوائها، بما يمكن أن يجعلها قوة دعم ومساندة وتأييد، وإضفاء لمزيد الشرعية على ما لا شرعية له من الأقوال والأفعال، وعلى من لا شرعية له من الأفراد والجماعات والجهات، وضرب الحصار والتضييق عليها، بما ينهي لديها طموحاتها في أكثر من مجرد الوجود والحضور، حتى تفقد زخمها، و يتقلص تأييد الجماهير لها، لما تنتهي إليه من خمول وعدم فاعلية وعجز على تقديم أي شيء مما جاءت واعدة الجماهير بتقديمه لها، وما كانت الجماهير تعتقد أنها قادرة على تحقيقه لها. وبحلول الجمود والخمول والرتابة بتنظيماتها وفصائلها- وككل الحركات الفاعلة والحيوية- تتسلل الخلافات والصراعات أحيانا إلى جسمها الكبير، وينصب بذلك جانب كبير من اهتماماتها على قضايا هامشية ثانوية، تهدر إمكانياتها وطاقاتها وقدراتها في إنتاج الخلافات والمشاكل، والبحث عن حلول لها مما قد يؤدي بها في النهاية إلى الإنشقاقات والإنقسامات... ولعله كان ينظر إليها على أنها فاقدة للدعم الخارجي والداخلي، وأن مجرد الدعم الجماهيري والتأييد الشعبي غير كافيين لأن يجعلا منها قوة يمكن أن تشكل خطرا على أي من الجهات الداخلية والخارجية. وهي التي كان يعتقد بحكم عداءها المبدئي العقائدي للطائفة اللائكية الماركسية أنها يمكن أن تكون عنصرا فاعلا في إذكاء الصراع الإسلامي الشيوعي الماركسي في الأوطان التي ليس للقوى الماركسية عليها سلطان، وليس لها فيها نفوذ، أو حتى تلك التى لها عليها سلطان ولها فيها نفوذ. وإن كان قد حصل ذلك فعلا، إلا أن ذلك لا يعني أن علاقتها بالمعسكر الغربي الحر ووكلائه وتوابعه وصنائعه هي أحسن حال.
لقد كان ينظر إلى الحركة الإسلامية ومازال على أنه لا يمكن إلا أن تكون قوة يستعان بها على مواجهة خصم أو عدو، وعلى ضبط الأوضاع بالداخل بما يجعلها دائما تحت السيطرة، مع العمل على عدم إعطائها أي فرصة للتسلل إلى سدة الحكم أو دوائر أخذ القرار،وليس الوضع في فلسطين بعد انتقال حركة المقاومة الإسلامية (حماس) من المعارضة إلى السلطة، وبعد نجاح حركة إتحاد المحاكم الشرعية الإسلامية في الصومال في حسم الصراع العسكري لصالحها وسط تأييد جماهيري واسع إلا صورة من هذا المشهد.
وهذه السياسة التي سلكها النظام العربي"والإسلامي" بتنسيق مع القوى الدولية الغربية وبمباركة منها، هي التى جعلت من الكثير من الفصائل والتنظيمات شديدة التوتر إزاء ما يحدث في المنطقة العربية وفي العالم الاسلامي والعالم، وتجنح في النهاية اضطرارا إلى العنف، ولا تؤمن بغير العمل المسلح ورفع راية الجهاد، بما يعني العمل الفدائي ومحاولة فرض الذات بالقوة، كما تؤمن الجهات المقابلة بالعنف فقط مع الآخر والاخر الإسلامي بصفة خاصة، واستعمال القوة للمحافظة على الموقع من أجل الذات ومن أجل الأجنبي والتعويل عليه. ولست مبالغا عندما أقول أن فرض الذات عند قوى الطائفة العلمانية اللائكية والطائفة التقليدية المحافظة لا يمكن بحكم طبيعتها المادية أن تتجاوز غير العمل على تحقيق المصالح الذاتية والمنافع الخاصة من خلال الإهتمام بالشأن العام والإشراف عليه هنا وهناك، بينما تقتضي طبيعة المرجعية الإسلامية من القوى الإسلامية أن يكون السعي لفرض الذات من أجل الوطن والشعب والأمة، والتعويل على الذات متوكلة في النهاية على الله وحده.
كان يمكن أن يكون الوضع في المنطقة العربية وفي العالم الإسلامي على خلاف ما يمكن وما يجب أن تكون عليه طبائع الأشياء، لو أن تنظيمات وفصائل وقوى وأحزاب الطائفة العلمانية اللائكية والتقليدية المحافظة كانت هي الأقوى والأكثر استقطابا للجماهير وللرأي العام العربي الإسلامي، إذا ما استثنينا تلك التى أصبحت تستمد قوتها من خلال وجودها في سدة الحكم، وتتمتع بتأييد ودعم القوى الدولية الغربية الصليبية اليهودية. وحتى هذه الجهات الرسمية فإنها لا تستمد ما تعتبره تأييدا جماهيريا شعبيا من خلال ثقة فيها واقتناع بها، ولكن من خلال أخذ الفئات الإجتماعية بعاملي الخوف منها والطمع فيها، ومن خلال الثقافة التقليدية التى ترسلها عبر وسائط مختلفة ومتعددة، تلزم عموم الجماهير بطاعة ولي الأمر وهي كارهة له. ذلك أن طريقة تعامل القوى الدولية الإستعمارية مع المنطقة العربية والعالم الإسلامي، كان يمكن أن تكون على نحو غير الذي هي عليه، لو كانت القوى السياسية العلمانية اللائكية بأوطان شعوب أمة العرب والمسلمين هي الأقوى والأكثر تاييدا جماهريا وشعبيا. والذي لا شك فيه أن دعمها ومساندتها لها كان يمكن أن يكونا معلنين، ولعملت بكل الوسائل على تمكينها من تحقيق أهدافها في الوصول إلى استلام السلطة، بقدر ما يتيحه لها حجمها أو أقل أو أكثر، وبحسب ما يكون عليه حجم المصالح ودفع الأضرار واجتناب الخسائر والمخاطر، وهي الحالة التى تفعل فيها ذلك وهي في موقع مريح، لإنها ستجد نفسها هذه المرة بعيدة عن حرج إقصاء طرف أو أطراف سياسية تتمتع بالشرعية الجماهيرية، أومساندة ودعم طرف رسمي أومعارض فاقد للشرعية القانونية أو الشعبية أو لهما معا؟، ومرتاحة لموقف المساند للطرف الأكثر تأييدا شعبيا، وهي بذلك إلى جانب الشعب، وداعمة للحرية والديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان. هكذا تنظر القوى الإستعمارية الصليبية اليهودية للأوضاع، وهكذا تعاملت معها، وهكذا يمكن أن تتعامل معها.
أما وأن الأمورلا تتجه دائما إلى حيث تريد هذه القوى وهذه الجهات الداخلية والخارجية، فإن التعامل والتعاطي مع الأوضاع يكون بطرق مختلفة، بحسب الزمان والمكان والأحوال، وموازين الخسارة والربح، والنفع والضرر. ليست العالمية خيار الحركة الإسلامية ولكنها من طبيعة الإسلام، وأصل من أصوله، وثابت من ثوابته. وبذلك ليس أمام الحركة الإسلامية إلا أن تكون عالمية. وليس أمام القوى الإقليمية والدولية المناهضة لها، إلا أن تقبل بذلك، وأن تتعامل معها على ذلك الأساس. فبالإضافة إلى اهتمام القوى الدولية الإستعمارية الصهيونية الغربية بها في الداخل، فإن بعدها العالمي قد زاد من اهتمام هذه القوى بها. وما اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية ومن ورائها الغرب والشتات اليهودي العالمي بإصلاح الداخل الإسلامي، إلا لتحقيق الإستقرار فيه، بما ينهى تهديد مصالحها على الأقل، علاوة على ما يمكن أن يتحقق لها من الإبقاء على هيمنتها عليه، وبما ينقص من التوتر الشديد ضدها، ويحقق من وطأة الكراهية لها، وما قد ينهي تزويد حركة الجهاد والمقاومة المصممة على مواصلة إلحاق الضربات الموجعة لها في أي مكان وفي أي زمان حتى إنهاء ظلمها وطغيانها وإجبارها على مراجعة مواقفها، وإعادة النظر في سياستها العدوانية ضد الأمة، بالعناصر اللازمة لملاحقة أفراد شعبها المؤيد لقيادتها ولمصالحها الحيوية في كل مكان من العالم. وما دامت عملية الإصلاح التى تطلقها أمريكا اليوم تدخل في دعم المجهود العسكري لها وللغرب الصليبي والكيان الصهيوني، فلا يمكن اعتبارها إصلاحا، وإنما هي حرب ثقافية حضارية بالأساس، ومواصلة للإستراتيجية الثقافية الغربية منذ القرن السادس عشر، والتي تقضي بفرض ثقافة الرجل الأبيض، وإلغاء ما سواها من الثقافات. وليس أقل، في صورة ما إذا فشلت عملية الإلغاء والفرض أن يقع اللجوء إلى التهجين الثقافي والإنتهاء اليه. ويبدو أن أمريكا تعلم تماما ما تقول وما تفعل. فقد جاءت دعوتها للإصلاح، ليس لإصلاح الأوضاع وإصلاح المنطقة، ولا لإصلاح الأمة وللإصلاح في العالم، وإنما كانت دعوتها واضحة وصريحة لإصلاح النظام العربي التقليدي والنظام العلماني اللائكي الهجين بأوطان شعوب العالم الإسلامي، لأنه إذا كان من أهم استحقاقات عملية الإصلاح التى تعمل أمريكا على فرضها بالقوة السياسية والثقافية والإعلامية والإقتصادية والعسكرية هي الديمقراطية، التى تعني بالضرورة الحرية الكاملة للشعوب، والإستقلالية الكاملة للأوطان والسيادة الكاملة للشعوب عليها، فهل يمكن أن يفهم من ذلك أن أمريكا إنما تعمل بذلك على إيجاد إصلاحات ديمقراطية تكون في النهاية هي الحاسر الأكبر فيها والمتضرر الأكبر منها؟.
أم أن الإصلاحات التى تدعو إليها هي العمل على فرض أمر واقع أمريكي صهيوني في المنطقة العربية والعالم الإسلامي، في إطار دعوة صمويل هنتغتون إلى صراع الثقافات والحضارات والأديان؟
ويكون واهم قطعا من يعتقد أن خطة "الإصلاح" التى تعرضها الولايات المتحدة الأمريكية على الأنظمة في المنطقة العربية والعالم الإسلامي، ليست جزءا من حربها على الأمة، في إطار ما تؤمن به من صراع بين الشعوب والأمم على اختلاف ثقافاتها وأديانها وحضاراتها، وقد جرت إليها على نحو لم تختره، دون أن يعني ذلك أنها كانت مفروضة عليها كذلك فرضا بالقوة أو تحت ضغوط هائلة كتلك التي يفرض بها الغرب الإستعماري الإمبريالي والصهيوني الصليبي العنصري خياراته وبرامجه ومناهجه ورؤاه على من سواه، لأن الخطة كانت قائمة ومعمولا بها، ولكن بطريقتها وعلى النحو الذي خططت له القوى الغربية الإستعمارية والحركة الصهيونية العالمية، وتجد طريقها إلى واقع الشعوب عن طريق التغريب والغزو الثقافي والفكري،والتبعية والإلحاق الحضاري.
كان الغرب الإستعماري حريصا على أن تظل حربه على العرب والمسلمين متواصلة بطرق وأساليب لا تتضح بها طبيعته الصليبية العدوانية، لاسيما وهو الذي سبق أن دخل المنطقة العربية واجتاح العالم الإسلامي باعتباره حاميا ومحررا وحليفا صادقا للعرب والمسلمين، بعد أن كان قد حقق نجاحا كبيرا في الضحك على العرب عندما قدم لهم نفسه منقذا ومحررا لهم مما أسماه الإستعمار العثماني، ليعيث في المنطقة فسادا، ويهلك الحرث والنسل، ويعمل مبضعه في جسدها الموحد تقطيعا وتمزيقا، ويمكن في النهاية للكيان الصهيوني الغاصب بدعم منه وتأييد في أرضهم وهم داعمون له. إلا أن قوى المقاومة في حركة التحرر العربي الإسلامي التى بدأت في التشكل في النصف الأول من القرن العشرين قد فرضت عليه إظهار العلاقة على حقيقتها وبالوضوح الذي لا لبس ولا شك فيه ولا غبار عليه، وقد وجد نفسه مضطرا لتجاوز الأساليب والمناهج المنظمة التى كانت تخفي وراءها حقيقة المعركة وطبيعتها، إلى أساليب هوجاء سقطت بها كل الأقنعة وانكشفت بها حقيقته العدوانية لشعوب الأمة وتحالفه الإستراتيجي مع الكيان الصهيوني العالمي، للكبير والصغير، وللجليل والحقير، وللجاهل والعالم، وللخاص والعام. وإذا كان قد وجد حتى هذه المرة مثل سابقتها من العرب هؤلاء أحفاد أولئك، من قبل منهم بالضحك عليه مرة أخرى، وانطلت عليه حيلة تقديم الغرب الصليبي بقيادة الإمبراطورية الأمريكية نفسه على أنه قوة تحرير للشعوب من الإستبداد والدكتاتورية، فقد اصطدم هذه المرة، وعلى خلاف ما كانت عليه الأمور في المرات السابقة، بقوى ليس لها إيمان بعد إيمانها بالله إلا بذاتها وقدراتها وإمكانيات شعوبها وأمتها، وهي تعلم أن هذا العدو لا يمكن أن يكون صديقا، وهو قوة تدمير ولا يمكن أن يكون قوة تحرير،و أن حربه علينا معلنة ومتواصلة، وأن الخلاص لا يمكن أن يكون إلا بمواجته وإعلان الحرب عليه، مثلما يواجهنا ويعلنها علينا، رغم اختلال موازين القوة بيننا و بينه. بهذا المعنى تكون قوى حركة التحرر الإسلامي قد فرضت على الغرب الصليبي بقيادة أمريكا معركة اضطرته إلى تغيير أساليبه في إدارة المعركة. واستدرجتة إلى ساحات النزال والمقاومة والفداء بكل الأساليب الممكنة. وتأتي دعوة أمريكا للإصلاح في إطار توسيع دائرة المعركة باتجاه محاولة العمل على احتواء المواقف، ووضع حد لحالة الإستنزاف التى وجدت نفسها تعيشها بالخطوات العسكرية التى خطتها باتجاه أفغانستان والعراق وفلسطين وغيرها من المناطق الأخرى من العالم الإسلامي ومن العالم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.