"لايوجد فرق في الكلفة الاقتصادية بين تلك الناتجة عن الرشوة والفساد وتلك التي تتسبب فيها الاعتصامات والاحتجاجات اضافة الى المنع القسري عن العمل". هذا بعض ما ورد في مداخلة للخبير المالي الأستاذ محفوظ الباروني في اطار ندوة سياسية انتظمت مؤخرا بالعاصمة محورها "التحديات الجديدة الناتجة عن الثورات في كل من تونس والمنطقة العربية". كلام معناه - و"بالفلاقي" - أن خطر أولئك الذين لا يزالون يسعون اليوم - وبعد نجاح الثورة - في خراب مؤسسات الانتاج وتعطيل سيرعملها سواء بالاضراب أو بالاعتصامات أوبغيرها من الوسائل ويعملون على تسميم المناخ الاجتماعي والسياسي والأمني هو في مرتبة خطر ممارسات الفساد والرشوة التي طبعت دولة المجرم بن علي على امتداد اكثر من عشريتين وجعلت منها دولة "مافيوزية" استبدادية يخاف على نفسه وماله منها كل مستثمر أو صاحب رأس مال سواء وطني أو أجنبي... فانخرام الوضع الأمني وتعفن المناخ الاجتماعي وغياب دولة القانون والمؤسسات وغياب القضاء المستقل هو رديف للفساد والاستبداد والرشوة.. وهي جميعها ظواهر وأعراض وأورام خبيثة من نفس "الجنس" اذا ما ظهرت فانها تكون - تنمويا - ذات كلفة عالية لأنها مؤذنة - في ذاتها - بالخراب الاقتصادي وبكساد سوق الشغل والاستثمار والانتاج وبالتالي بتعطل مسار الاصلاح والتدارك... المؤلم - حقا - أن بعض "الأطراف" السياسية والنقابية لا تزال تبدو وكأنها في غفلة عن هذا المعطى - بل قل عن هذه الحقيقة الخطيرة - التي أفصح عنها هذا الخبير الاقتصادي.. فهي اما صامتة أو متجاهلة - حتى لانقول متواطئة -... واذا كان السيد محفوظ الباروني قد أشار صراحة في موضع آخر من مداخلته الى مسؤولية الطرف النقابي - تحديدا - عندما تساءل عن أسباب غياب الاتحاد العام التونسي للشغل عن القيام بدوره التوعوي في ظل ما أسماه "فوضى المطلبية الشغلية" التي عمت - ولا تزال - البلاد على امتداد الأشهر التي أعقبت الثورة فان ما تبديه بعض "الأطراف" السياسوية من "تعاطف" سياسي ساذج وكذلك ما تبديه بعض المنابر الاعلامية من "احتفاء" اعلامي غبي بحوادث - بل قل جرائم - الاعتداءات المتواترة على مؤسسات الانتاج والاعتصام والفوضى وتقديمها على أنها تحركات احتجاجية "مشروعة" وحراك "مبارك" في صميم "العملية الثورية" لا يمكن الا أن يثير الاستهجان لأنها مواقف تحيل - في جانب منها - على ضيق الأفق والغباء السياسي لدى فريق من السياسيين على اعتبار أنها تتجاهل - وربما لحسابات ايديولوجية ضيقة - خطر مثل هذه التحركات على عملية الانتقال الديمقراطي برمتها ومساعي الخروج بالوضع من دائرة الثورة/الفوضى الى مدار التطبيع والاستقرار الاجتماعي والأمني كما تحيل أيضا - وفي جانب آخر - الى قفز بغيض ولا مهني على حقيقة الدور الذي يجب أن تضطلع به وسائل الاعلام الوطنية في هذه المرحلة الدقيقة والحساسة من تاريخ تونس وشعبها... اننا على أبواب الذكرى الأولى لاندلاع ثورة 14 جانفي التاريخية ويبدو أنه قد بات مطلوبا منا وبالحاح كمجموعة وطنية - وخاصة بعد تشكل المجلس الوطني التأسيسي - أن نراجع أنفسنا ومواقفنا وأن نتوجه جميعا نحو المستقبل.. فالمسؤولية تاريخية والأمانة التي حملنا اياها الشهداء ثقيلة...