شكلت الثورة التونسية حالة فريدة في تاريخ الثورات التي عرفها العصر الحديث، من حيث طبيعتها وشروطها وتوقيتها وخصوصا من حيث غياب قيادة لها فكانت انطلاقة شرارتها الأولى يوم 17 ديسمبر بعد أن توفرت فيها كل شروط نضوجها واندلاعها دون سابق إعلام، إثر إقدام محمد البوعزيزي على إحراق نفسه احتجاجا على المس بكرامته.. يتفق الباحثون على أن قيام الثورة التونسية لم يكن وليد الصدفة بقدر ما كان نتاجا لتوفر كل ظروفها بسبب التراكمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى التاريخية، وكانت الثورة تبحث عن الشرارة فوجدتها في ذلك الحادث المأساوي، فانطلقت ثورة الكرامة.
نعم ل17 ديسمبر
لكن المثير للجدل اليوم يكمن في تأريخ هذه الثورة فبعض التونسيين يرون أن تأريخ الثورة هو من بداية انطلاقها في 17 ديسمبر 2010 خاصة ان تلك الانطلاقة كانت عفوية شعبية تعكس فلسفة شعب كامل يرفض المهانة والذل، في حين ترى فئة أخرى انه يمكن تأريخها بيوم تتويجها يوم 14 جانفي وهو يوم تحقيق أهدافها خاصة وأنها كانت حدثا نوعيا ومفصليا في تاريخ الشعوب العربية ككل... "الصباح" رصدت الرؤى لدى المواطن التونسي بشأن هذه المسألة: يرى مختار تريعة (سائق سيارة تاكسي) أن تأريخ الثورة التونسية يمكن أن يسجل بيوم انطلاقها لان انطلاقتها كانت عفوية وغير مخطط لها من أي طرف أو حزب معين حيث تحرك الشارع التونسي نتيجة إحساسه بالظلم وسأمه من سياسة التهميش والوصاية والاحتقار ورفضه لممارسات القمع السياسي عليه، وفق تعبيره. أما يوم 14 جانفي فقد تدخلت أياد أجنبية ولولا استبسال الشعب التونسي لكانت النتيجة وخيمة.
نعم ل14جانفي
لكن الطالبة اسماء العياري اعتبرت ان 14 جانفي2011 هو تاريخ الثورة التونسية فهو تتويج للثورة ودليل على نجاحها فمثلا سوريا الى اليوم وهي في الشهر العاشر مازالت تناضل من اجل الحصول على حريتها. ويتفق معها معز مقراني (محاسب بشركة) الذي قال إن تاريخ الثورة التونسية يمكن ان يسجل يوم 14 جانفي لان هذا اليوم شهد خروج كل فئات الشعب التونسي من جميع الجهات والولايات وقال كلمته ضد الاضطهاد والمعاناة التي كان يرزخ تحتها طوال سنوات. وقال :" يوم 14 جانفي شارك في صنعه كل الشعب التونسي لكن يوم 17 ديسمبر يمكن ان يكون خاصا ومرتبطا بحادثة معينة وبجهة معينة فكأن الثورة تصبح مرتبطة بجهة واحدة وليست لعامة وكافة الشعب التونسي الذي قدم ضحايا من كل ولايات الجمهورية" حسب رأيه.
أحداث الرديف والحوض المنجمي
سفيان الحاج (تقني في الاعلامية) اكد بدوره ان الثورة التونسية لم تبدأ فقط في 17 ديسمبر بل هي تراكمات مجازر حصلت في 23 سنة ويمكن إعتبار أحداث الرديف بدايةً للتمرد وهذا التمرد لم ينطلق في 17 ديسمبر اذن لو اعتبرنا بداية الثورة هو 17 ديسمبر فقد احتقرنا ما سبقها من نضالات كما أن تاريخ 14 جانفي تجاوز حدود بلادنا الى بقية انحاء العالم. اما منير الجمني (موظف) فيجزم أن الثورات أو -أي حدث سياسي آخر- تؤرخ من بدايتها باعتبار أنه لولا الشرارة الاولى لما اندلعت هذه الثورة وما حدثت من الأساس، أما التأريخ لها ب 14 جانفي فما هو إلا تاريخ هروب بن علي والثورة لم تنته بتاريخ 14 جانفي لأن مظاهرها ما زالت متواصلة إلى اليوم. وهؤلاء الذين يريدون التأريخ لها ب 14 جانفي لم يفعلوا سوى محاولة من محاولات الالتفاف الغرض منها عدم الاعتراف للشهداء بما قدموه من تضحيات والدليل على ذلك أن ملف الاعتراف والتعويض للشهداء لم تتم معالجته إلى حد الآن.
بين الحدث الاجتماعي والحدث السياسي
يقول عالم الاجتماع طارق بلحاج أن الثورة إذا ما اعتبرناها حدثا اجتماعيا فنحن بحاجة إلى تأريخ اجتماعي يجعل من حادثة البوعزيزي هي التأريخ المرجعي خاصة أن ما يدعمها هو طبيعة الشعارات التي يغلب عليها الطابع الاجتماعي الحقوقي، هذا فضلا على أن حادثة البوعزيزي هي حركة احتجاجية ورد فعل على التهميش. ويضيف:" أما اذا اعتبرناها حدثا سياسيا يصبح التأريخ الحقيقي للثورة ليس بداياتها بل هو تاريخ سقوط النظام السياسي الذي كان قائما ولان المنطق التاريخي لا يعتبر ان الثورة انجزت مهمتها الا بشرط سقوط نظامها السياسي بقطع النظر عن بداياتها او المدة الزمنية التي استغرقتها." لكن بلحاج يشير إلى اشكالية ثانية تتعلق بالتأريخ، وقال :" إذا اعتبرنا 14 جانفي هو التاريخ المرجعي هذا التصنيف سيطرح علينا اشكاليات منها ان يوم 14 جانفي هو سقوط رأس النظام وليس كل النظام فقد انتفى شرط القطع مع الماضي، هذا فضلا على ان كل ثورة بالمعنى التقليدي تفرز نخبها الفكرية والسياسية والاقتصادية والعسكرية وهو ما لم يحدث كما ان هناك بلدانا مجاورة حدثت فيها ثورات تشبه الثورة التونسية لكنها لم تؤرخ لثوراتها بحسب انطلاقها مثل 12 يناير (مصر) و17 فبراير (ليبيا)." وأوضح ان الاقرار بتاريخ 14 جانفي كتاريخ الثورة يفهم على انه امتداد لعقلية الاقصاء والتهميش التي عانى منها الشعب وقال :" المشكل ليس في التسميات ولا في التاريخ بقدر ما هي استحقاقات مترتبة على الثورة..قبل ان يتابع :" فاذا اعتبرنا 14 جانفي فلا يجب انكار من قاموا بالثورة ولابد ان يعامل الشهداء وذويهم كأبطال وليسوا كحالات اجتماعية، واذا اعتبرنا تأريخ 17 ديسمبر فيجب ان لا ننسى دور النخبة في المضي قدما بالثورة لان الانتقال الديمقراطي لا يكون الا عبر النخب السياسية."