أيام قليلة تفصلنا عن نهاية سنة 2011 وهي سنة استثنائية بكل المقاييس، وربما سيسجل التاريخ أنه وان تعددت عناوينها بين سنة الثورات العربية وسنة الربيع العربي أو سنة سقوط الطغاة فإنها بالتأكيد ستبقى في الذاكرة الشعبية سنة غضب الشعوب التي رفعت شعار «لا خوف بعد اليوم» فباتت مصدر خوف ورعب للحكام الذين طالما أرهبوا تلك الشعوب ومارسوا عليها شتى الاساليب القمعية لمصادرة حقوقها المشروعة في الحرية والكرامة ولجم ألسنتها بقيود من حديد و نار... أيام قليلة بل ساعات ويسدل الستار على سنة لم تبح بعد بكل أسرارها ولم تكشف بعد عن توجهات ثوراتها المتأججة من بلد الى آخر بين شعوب متعطشة للحياة الكريمة ولكنها مستعدة في ذات الوقت للموت من أجلها... لم يعد الامر يقف عند حدود المنطقة العربية التي امتدت اليها رياح الثورة المستعصية على كل الرادارات والقوى العسكرية المتأهبة لصدها بعد أن امتدت الى القلاع المالية التي كان يعتقد انها محصنة في وجه كل العواصف فكان لوول ستريت نصيبها من الثورة التي أزاحت الستار عن كل مساوئ النظام الرأسامالي وحركت الملايين احتجاجا على افلاس نظام اقتصادي جشع ازداد معه السواد الاعظم من الفقراء فقرا وازدادت تلك الاقلية من الاثرياء ثراء.
ومن وول ستريت تمتد المفاجآت لتتواصل وتحرك آلاف المتظاهرين في الشارع الروسي، الذين تحدوا الثلوج وخرجوا للاحتجاج على نتائج الانتخابات التشريعية مطالبين باستقالة بوتين ومدفيدف وفرض إصلاحات سياسية، كان مجرد الحديث عنها قبل فترة يبدو شبه مستحيل.. وحتى الصين وتحديدا مقاطعة ووخان فقد كان لها نصيب من التحركات الاحتجاجية ضد تفاقم مظاهرالفساد. ومن يدري فقد تحمل الساعات القليلة المتبقية قبل طي أحداث السنة التي نستعد لتوديعها المزيد من المفاجآت في ربوع عالم يترنح على وقع الازمات الاجتماعية والاقتصادية والمالية الخانقة، وتفاقم البطالة، وتضاؤل الامال في العيش الكريم. ولعل في أزمة اليورو وتداعياتها على المشهد السياسي في كل من ايطاليا واليونان واسبانيا ما يؤشر الى أن الثورات الشعبية ستكون لها محطات جديدة. والواقع أنه كما فشل أبرز الملاحظين وأمهر الخبراء في استقراء موجة الثورات العربية القادمة فانه لا أحد أيضا يمكن أن يتوقع مسارها أو مدى امتدادها في عالم يحكمه الانترنت وتسيره شبكات الفايسبوك وغيرها من شبكات التواصل الاجتماعي..
الربيع العربي إلى أين؟
قد لا يختلف اثنان بشأن انطلاق الشرارة الاولى للربيع العربي ولكن الاكيد أن الاختلاف حاصل وسيظل قائما بشأن مستقبل الربيع العربي ومساره، وكلنا يعرف أن تونس كانت مهد ربيع الشعوب عندما أقدم ابن الجنوب محمد البوعزيزي على حرق نفسه احتاجاجا على «الحقرة» والمهانة والذل الذي يتعرض له ولكن دون أن يدرك البوعزيزي يومها أنه أطلق بذلك شرارة لن تنطفئ قبل أن تستعيد الكثير من الشعوب التي قبرت وهي حية ارادتها وكرامتها المسلوبة... من تونس كانت أولى موجات الثورة الشعبية التي أطاحت سريعا ولكن ليس من دون ثمن، بنظام بن علي القمعي الذي أغرق البلاد في الفساد ولكنه سرعان ما تهاوى وسقط كقصر من الرمال لم يقو على مواجهة أول موجة تمتد اليه.. واذا كان بن علي قد نجح في الهروب مع عائلته الى السعودية فإن الامر لم يكن كذلك بالنسبة لنظام مبارك الذي حكم مصر أكثر من ثلاثة عقود انتهى بعدها الى السجن والمحاكمة مع ابنيه وقد كان أحدهما مرشحا لخلافته على عرش مصر. وغير بعيد عن مصر وتونس تكررالمشهد مع القذافي الذي تقلد من الالقاب والصفات ما لم ينافسه فيها أحد لينتهي الامر بملك ملوك إفريقيا الى نهاية مأساوية بعد أربعة عقود من الحكم المطلق استعبد خلالها الشعب الليبي واستنزف ثرواته وصادر أبسط حقوقه المشروعة في الحرية والكرامة.. ثلاث محطات من مسيرة الربيع العربي التي قد تكون اشتركت في الكثير من الاسباب والدوافع التي أدت الى اندلاع شرارتها الاولى في ظل أنظمة اتسمت بالفساد والحكم المطلق واشتركت في فرض وصايتها على النخب الفكرية والثقافية ورفض كل ما لا يتفق مع توجهات واملاءات سياسة الحزب الواحد، ولكنها تباينت فيما بعد مرحلة سقوط الانظمة. ولعله من المهم الاشارة الى أن مختلف الثورات العربية كانت شعبية تلقائية في بدايتها فلم تعرف لها زعيما أو رمزا أو حزبا أو قائدا فجمعت بذلك كل الفئات الشعبية وكانت ملكا مشروعا للجميع.. واذا كانت تونس قد عرفت الطريق الى صناديق الاقتراع بعد نحو ثمانية أشهر على هروب بن علي ونجحت في تشكيل أول حكومة منتخبة مع حلول الذكرى الاولى للثورة، فالتحديات المرتقبة لا تزال قائمة وهي تحديات أمنية وسياسية واجتماعية وثقافية وغيرها أيضا ولا مجال لاي طرف للاستهانة بها أو التقليل من أهميتها في المرحلة القادمة. ومع ذلك فإن المهمة في تونس وإن بدت صعبة وحساسة فانها ليست بالمهمة المستحيلة اذا توفرت الارادة السياسية المطلوبة من أجل تحقيق الأهداف التي نادت بها الثورة. في المقابل فان المشهد في ليبيا المجاورة لا يزال على درجة من الخطورة والتعقيد في ظل انتشار ظاهرة السلاح بين الليبيين وعجز المجلس الانتقالي عن اعادة تنظيم الثوار في صلب جيش نظامي يحفظ نظام البلاد ويساعد الليبيين على تجاوز الصراعات القبلية والخلافات المتفاقمة بين الثوار وبين السلطة المؤقتة. أما مصر وهي التي كانت ثاني محطات الربيع العربي فانها تعود مع نهاية العام الى استئناف محاكمة رمز النظام السابق في وقت لا يزال الخلاف على أشده في الشارع المصري بسبب استئثار وهيمنة المجلس العسكري على السلطة.
مسارات مختلفة
والملاحظ أن الاحداث التي تفجرت في البحرين سرعان ما خفتت وتراجعت أمام تدخل قوات درع الجزيرة فكادت تغيب عن خط الاحداث في مختلف وسائل الاعلام التي فضلت بدلا من ذلك توجيه اهتمامها الى الازمة السورية مع التوقف بين الحين والاخر عند حدود التوتر الحاصل في المملكة الاردنية. أما العراق فهو بالتأكيد الجرح الذي يأبى أن يندمل مع عودة مسلسل التفجيرات التي أغرقت الشارع العراقي في الدم وكأنه كتب على هذا البلد أن يظل إما تحت الاحتلال أو في ظل الاستبداد.. ويبقى المشهد السوري في هذه المرحلة مفتوحا على كل الاحتمالات والسيناريوهات، فقد تزامن وصول أول وفد لجامعة الدول العربية مع سقوط المزيد من الضحايا بما يجعل فشل المبادرة العربية أمرا محسوما قبل حتى انطلاقها. وفيما تبدو المعارضة متمسكة بخيار التدخل الخارجي بدعوى حماية المدنيين فان النظام السوري من جانبه يبدو عاجزا عن قراءة الواقع بكل مخاطره الظاهرة والخفية، والقيادة السورية لا يبدو أنها مستعدة للاستفادة مما حدث، أو إسقاط ما يبقى من نتائج الثورات العربية السابقة على المشهد السوري تحسبا للاسوإ. ولكن في المقابل يبدو الشعب السوري وحده أكثر وضوحا في خياراته المعلنة ورفضه التراجع عن مطالبه المشروعة في الحرية والكرامة التي كلفت الشعب السوري حتى الآن آلاف الضحايا.. أما اليمن فيعيش حالة مخاض عسير وانسحاب الرئيس اليمني علي عبد الله صالح من المشهد بعد قبول المبادرة الخليجية لم يضع حدا لنزيف الدم المستمر في الشارع اليمني وفي الوقت الذي يواصل فيه علي عبد الله صالح استعداداته للسفر الى الولاياتالمتحدة لمواصلة رحلة العلاج فان مطالب اليمنيين بملاحقته ومساءلته لا تتوقف.. وربما يكون لهذه التطورات المتسارعة وغيرها أيضا ما جعل دول منطقة الخليج تتحرك تحسبا لامتداد رياح التغيير الى حدودها وقد جاءت القمة الخليجية لتعكس مخاوف دول مجلس التعاون التي ستتحول الى اتحاد خليجي وتعلن فتح أبوابها لاحتضان كل من المملكة الاردنية والمغربية.. وفي انتظار ما يمكن أن تحمله السنة الجديدة من أخبار الثورات العربية فإن سنة 2011 ستبقى في الذاكرة على أنها كانت سنة استثنائية حملت أخبارها كل المتناقضات فكانت حبلى بالمفاجآت. فهي سنة اليأس حينا وسنة الأمل أحيانا كثيرة، وهي سنة القحط وسنة العطاء، وهي أيضا سنة الحزن والدموع ولكنها سنة الأفراح.. كانت سنة الحياة بكل معانيها، وبكل بساطة كانت سنة الحرية وسنة الأحرار الذين اختاروا كسر قيود العبودية ليكونوا أسيادا على أنفسهم وفي قرارهم.. كانت سنة لا شك أنها جعلت أبا القاسم الشابي يبتسم وهو في قبره، وقد استجاب القدر لإرادة شعبه..