بقلم : محجوب لطفي بلهادي أرشيف الجريمة المنظّمة في العالم بمختلف مسمّياتها وجنسيّاتها من المافيا الصقلية إلى الألبانية تشير بوضوح إلى أن الجريمة المنظّمة كانت دوما تدور في فلك ثوابت ثلاثة : - هيكلة عائلية بالأساس تتسّع تدريجيا بشكل دائري من العائلة الضيقة إلى العائلة الموسّعة، - بناء أخطبوطي متعدد الأبعاد يمتدّ من تجارة الأفيون والأسلحة والجنس إلى غسيل الأموال، - طبيعة علائقية مهتزّة بالدول التي تعمل بها تتّسم بالتداخل وحركة من المدّ والجزر لا تهدأ خصائص ارتقت بالبعض منها إلى مستوى الدولة داخل الدولة. لكن، أين موقع مافيا بن علي داخل هذا المشهد الإجرامي المنظّم ؟ يمكن الجزم اليوم بأن تاريخ المافيا سجّل نقلة نوعية بالكشف عن نمط جديد من الجريمة المنظّمة يمكن توصيفه بمافيا الدولة أو دولة المافيا التي تتمظهر في صورة أفعى جديدة لم يعرفها تاريخ علم الأحياء من قبل لدغت الجميع وحاولت ابتلاع الجميع، اتّخذت من هياكل الدولة وشبكة المجتمع المدني جحرا لها تنفث من خلاله ثقافة الخوف من الآخر شعارها في ذلك أنا ثم أنا ومن بعدي الطوفان. فجميع المصطلحات المافياوية الشهيرة كالابتزاز وفرض جباية سوداء على الجميع دون استثناء ينضاف إليها قانون الصمت الرهيب، جميعها وجدت لها تطبيقات واسعة وغير مسبوقة في بلادنا على مرّ عقدين. فمفهوم قانون الصمت Omerta الذي مثّل دَوْمًا ركيزة أيّ عمل إجرامي منظم للمافيا والمتمثل في العبارات التالية : «لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم» عرف مضامين جديدة لدى مافيا الدول في تونس ليصبح : «لا نرى، لا نسمع ولا نحسّ»، إنه الصّمت الحسّي، الباطني بصيغة الجمع أدخلت مجتمعا بأسره في حالة من الغيبوبة المطوّلة. مفهوم مافياوي جديد جدير بأن يُدرس بالجامعات المتخصّصة في علم الجريمة المنظّمة وعلم النفس الاجتماعي. مافيا راهنت منذ عقدين وبطريقة مُمنهجة على إيقاع مجتمع بأكمله في وحل الرذيلة بمفهومها الواسع، فكنّا تقريبا جميعا عن وعي أو عن غير وعي نروّج لهذا المشروع فسقط من سقط ونجا من نجا ... حتى بلغتنا ألسنة لهيب البوعزيزي الأيقونة ليكون بداية نهاية مافيا الدولة وعودة الضمير والروح لمجتمع كاد أن يكون «طرابلسيا» بامتياز.