حاصروا المقبرة ومنعوا عائلته حتى من إلقاء النظرة الأخيرة على الجثمان شن النظام البائد في بداية تسعينات القرن الماضي هجمة شرسة على إطارات وقيادات حركة الاتجاه الإسلامي والمنتسبين لها أو المتعاطفين معها في إطار مخطط كامل سطره المخلوع للقضاء على الحركة بتعلة تخطيطها للانقلاب على النظام، فألقى القبض على المئات منهم وعذّبهم وجوّعهم وشرّدهم وقتل عددا منهم، ومن بين هؤلاء عبد الواحد العبيدلي وهو شاب من مواليد 2 ماي 1968 بمدينة برقو من ولاية سليانة.. كان يزاول دراسته-قبل اختطافه وقتله تحت التعذيب- بدار المعلمين بسوسة(قسم اللغة العربية).. عرف بين رفاقه بسيرته الحسنة وبنشاطه النقابي بالاتحاد العام لطلبة تونس ونشاطه السياسي بحركة الاتجاه الإسلامي وهو ما دفع»البوليس السياسي» الذي استقوى به النظام البائد إلى تصفيته جسديا في أعقاب حملة الاعتقالات العشواء التي أطلقها وزير الداخلية عبد الله القلال ومدير الأمن الوطني في تلك الفترة محمد علي القنزوعي لاعتقال قيادات الاتجاه الإسلامي والمنتسبين له أو المتعاطفين معه.
وشاية
كشفت المعلومات التي تحصلت عليها»الصباح» من مصادر متفرقة أن عبد الواحد العبيدلي وبعد بلوغه أمر البحث عنه توارى عن الأنظار وخيّر الاختفاء بمنزل بمنطقة بوحسينة على مقربة من ثكنة الجيش الوطني سابقا بسوسة، غير أن أعوان»البوليس السياسي» تمكنوا من اقتفاء أثره والعثور عليه بعد تلقيهم وشاية من أحد مخبري التجمع المنحل قالت مصادرنا انه طالب بنفس المدرسة التي كان يدرس بها الشهيد.
محاصرة واعتقال
تمكن أعوان أمن الدولة خلال شهر جوان 1991 من محاصرة عبد الواحد العبيدلي داخل»فيلا» ببوحسينة واعتقلوه بعد أن أشبعوه ضربا وشتما مهينا ثم اقتادوه إلى مقر منطقة الأمن الوطني بسوسة حيث»تسلوا» بتعذيبه الوحشي طيلة أيام وليال قصد الحصول على اعترافاته حول المؤامرة المزعومة التي حاول نظام المخلوع إلصاقها بحركة الاتجاه الإسلامي والمتعلقة بتهريب أسلحة والتخطيط لقلب نظام الحكم، ورغم أنواع التعذيب التي مورست على عبد الواحد فإنه لم يعترف بما انه لا وجود لهذه المؤامرة في الواقع.
تعذيب وحشي
تعرض الطالب عبد الواحد لأبشع أساليب التعذيب وأكثرها وحشية داخل أحد مكاتب البوليس السياسي بمنطقة الشرطة بسوسة للاعتراف بتفاصيل المؤامرة المزعومة.. فحصص التعذيب الوحشي التي مُورست عليه والمتمثلة -على الأرجح باعتبار الغموض الذي مازال يلف ملابسات هذه الواقعة- في التعليق على شاكلة (الروتي) والضرب على كامل أطراف الجسد واستهداف الأعضاء التناسلية والضرب على عظم الساق والركبتين وعلى أظافر الساقين واليدين والتعليق من رجلٍ واحدة بسلسلة حديدية والتعليق من الخلف بحبلين (اليد اليمنى والرجل اليسرى) وغيرها من الأساليب الوحشية دون رحمة أو شفقة لتوسلاته واستغاثته وهو يصرخ»راني بريء.. راني بريء»، ولكن الجلادين كانوا كلما صرخ بالبراءة إلا وانهالوا عليه مجددا بالضرب المبرح للاعتراف... بتفاصيل لا يعرفها ولم يعلم بوجودها أصلا..
وفاة داخل مكاتب التعذيب
أيام وليال قضاها الطالب عبد الواحد تحت التعذيب.. ذاق ألوانا وأشكالا منه حتى بدأت حالته الصحية تسوء ثم أغمي عليه وسط جلاديه وفارق الحياة من شدة التعذيب الذي مورس عليه، وبوفاته حاولت عائلته معرفة الحقيقة والحصول على مضمون وفاة ولكن النظام فرض التعتيم.
جنازة «مجيشة»
في بداية شهر جويلية 1991 نقل جثمان عبد الواحد إلى مسقط رأسه، ولكن قبل وصوله كان أعوان البوليس السياسي قد سبقوه وحاصر أعوان الأمن بالزي المدني والزي النظامي المقبرة قصد التصدي لأية ردة فعل من أقارب وأصدقاء الشهيد، ورغم ذلك فإن عددا من الأهل احتجوا على الجريمة البشعة وعلى منعهم من إقامة موكب عزاء ومن إلقاء النظرة الاخيرة على الجثمان فكان مصير البعض منهم الاعتقال. واليوم ينتظر الجميع أن يماط اللثام عن ملابسات هذه الجريمة الوحشية التي ارتكبت في حق طالب كان يرنو للرقي في مدارج العلم والمعرفة والكشف عن المتهمين الذين خلفوا مرارة في طعم العلقم لعائلة الشهيد طيلة عقدين من الزمن.