تسلط «الصباح» اليوم في إطار متابعة ملف ضحايا التعذيب «البنعلي» الضوء على أول جريمة ارتكبها المخلوع قبيل ترقيته من مدير عام الأمن الوطني إلى وزير للداخلية في عهد بورقيبة وهي الواقعة التي أشرت على طبيعة الجريمة «النوفمبرية» في بداية تشكلها قبل أن تنقلب على نظام الحكم وتلتف عليه... ففي العام 1986 ارتكب البوليس السياسي -تحت إمرة المخلوع- جريمة فظيعة سجلت على أنها أولى التصفيات الجسدية للإسلاميين من خلال اغتيال الطالب بالمدرسة العليا للمهندسين عثمان بن محمود ب»الكرتوش» الحي في أعقاب مطاردة من خزندار إلى حي الزهور الرابع بالأحواز الغربية للعاصمة. فلماذا قتل عثمان؟ ومن قتله بالرصاص الحي؟ وأية تبريرات واهية قدمها النظام في تلك الفترة؟ ولد عثمان بن محمود بمنطقة ريفية بمعتمدية القصور من ولاية الكاف يوم غرة جوان 1961 باشر تعليمه الابتدائي والثانوي بامتياز لينضم للمدرسة العليا للمهندسين حيث كان طالبا مجتهدا وأصبح بالتوازي مع ذلك من رموز طلبة الاتجاه الإسلامي «حيث عرف بدماثة أخلاقه وبحبه لإخوانه وتعلقه الشديد بالمشروع الإسلامي مدافعا عن ثوابته الوسطية وحاملا للوائه ومبشرا بشعاراته المركزية في العدالة والحرية في أوساط الطلبة وفي أوساط أبناء شعبه سكان حي التضامن» كما ذكر أحد رفاقه وهو ما دفع آلة القمع التي كان يشرف عليها المخلوع إلى التخطيط لتصفيته جسديا وتعقب عدد من رفاقه في التيار السياسي الديني بعد تكوين وحدة خاصة قيل أن المخلوع أطلق عليها اسم «النمور السود» مهمتها الوحيدة اعتقال رموز التيار السياسي الإسلامي داخل الجامعة وخارجها وتصفيتهم إن لزم الأمر.
مطاردة وقنص ب«الكرتوش» الحي
يقول صهر عثمان: «في ذلك اليوم 18 أفريل 1986 كان عثمان بالمنزل عندما اتصل به أحد رفاقه وأعلمه أن أعوان البوليس السياسي داهموا المحل الذي يتسوغونه بمنطقة خزندار فسارع المسكين بالتوجه إلى هناك على متن دراجته النارية ولكن بوصوله تفطن الأعوان له». أعطى المخلوع -بوصفه مديرا عاما للأمن الوطني- الضوء الأخضر للوحدة الخاصة «النمور السود» لتصفية الطالب عثمان بن محمود على خلفية تنامي نشاطه السياسي المناهض لحكم بورقيبة فنصب له أعوان الوحدة كمينا -حسب بعض المصادر- على طول الطريق الرابطة بين خزندار وحي الزهور الرابع وطاردوه إثر محاولته الفرار بواسطة دراجته النارية بعد تفطنه للمؤامرة، ولكن «فجأة» خانته الدراجة أثناء محاولة التعريج على أحد الأزقة للفرار فتوقفت السيارات الأمنية بجانبه حينها» -يقول صهره- «ونزل منها الأعوان وبإيعاز مباشر من قياداتهم الميدانية بدليل مراجعتهم لقاعة العمليات في الداخلية» وأخذوا منها الضوء الأخضر لتصفيته إذ أجهز عليه أحدهم برصاصة في مؤخرة الرأس أمام المارة ثم تظاهروا بنقله إلى المستشفى لإسعافه غير أن الأطباء أكدوا وفاته إثر نزيف دموي حاد جراء إصابته بالرصاص.
الأصدقاء فضحوا مزاعم النظام
وبنقل جثة عثمان إلى مصلحة التشريح بمستشفى شارل نيكول بالعاصمة أفاد الطبيب الشرعي بأن الوفاة ناجمة عن إطلاق رصاص من مسافة قريبة غير أن البلاغ الرسمي لوزارة الداخلية في تلك الفترة ذكر أن عثمان قتل إثر إصابته برصاصة طائشة أثناء مطاردته بعد التفطن لمحاولته السطو على أحد المنازل(!!) ولم تفلح كل المجهودات والإسعافات في إنقاذه. هذا البلاغ الرسمي فندته بعض الصور التي التقطها بعض أقارب وأصدقاء عثمان للجثة داخل مخبر الطب الشرعي والتي أظهرت حقيقة مغايرة للرواية الرسمية وبينت إصابة عثمان بالرصاص في الرأس من مسافة قريبة كما يدل على ذلك قطر الثقب المتسع الذي أحدثته الرصاصة وهو ما أحرج المخلوع ووزير داخليته حينها فقررا تعقب كل من صور ووثق الجريمة ودوّن وقائعها من خلال إيقاف بعض المنتسبين للإطار الطبي وشبه الطبي والعملة بقسم التشريح. هذه الجريمة السياسية دفعت الطلبة المنتمين للتيار السياسي الديني الذي كان ينتمي إليه الطالب عثمان بن محمود إلى الثأر لروح رفيقهم فنظموا سلسلة من الاعتصامات والتجمعات العامة والمسيرات حاول النظام قمعها بوحشية من خلال ترسانة التعزيزات والآليات المستعملة مثل دبابات فرق النظام العام والحرس وفرق الخيالة والأنياب وحتى الطائرات العمودية ومئات الأعوان المدججين بمختلف الأسلحة البيضاء (العصي) والنارية غير أنه فشل في مسعاه فغير وجهته نحو الطلبة المقيمين بالمبيتات وشن عليهم حملة اعتقالات واسعة النطاق ونكل بهم في دهاليز وزارة الداخلية ومارس شتى أنواع التعذيب عليهم، غير أن حمى المسيرات الطلابية ارتفعت وهو ما دفع الحكومة إلى اتخاذ قرار بغلق المركب الجامعي بتونس إلى حدود شهر جوان 1986 موعد إجراء الامتحانات النهائية قبل أن يتخذ بورقيبة قرارا يقضي بإقالة وزير داخليته وتعويضه بالمخلوع -تكريما له على نجاحه في اغتيال الطالب عثمان بن محمود- بمقتضى مرسوم صادر بتاريخ 28 أفريل 1986 وهو ما فتح المجال أمام «بن علي بابا» لخنق الحريات والإجهاز على ما تبقى من هامش فيها أمام المجتمع المدني والسياسي.
ماذا قال الغنوشي عن الحادثة؟
أحد شهود العيان على أطوار هذه الجريمة تطرق للحديث عن ردود فعل رفاق عثمان فذكر في سياق حديثه ان الشيخ راشد الغنوشي قال في معرض تعليقه على جريمة الاغتيال: «إن دماء الشهيد عثمان بن محمود ودماء كل الشهداء الذين سقطوا فوق التراب التونسي وهم يقاومون الاستبداد والفساد ويتصدون لمنتوج شجرة الزقوم البورقيبية الخبيثة، ستبقى هذه الدماء سمادا يلقح هذه الأرض الطيبة ضد مشاريع التغريب والعلمنة والاستبداد».
من قتل عثمان؟
عائلة الطالب عثمان بن محمود مازالت إلى اليوم تنتظر الكشف عن ملابسات اغتيال ابنها بالرصاص الحي ومحاكمة القاتل وكل المسؤولين عن هذه الجريمة النكراء وفتح تحقيق شامل في القضية، وقد أفادنا صهر الشهيد أن العائلة كانت تقدمت بعيد وقوع الجريمة بقضية غير أن القضاء غض النظر عنها وبرّأ القاتل الذي مازال إلى اليوم ينعم بحريته!!