عارض وزير الداخلية السيد علي العريض في حواره منذ ايام مع قناة حنبعل نشر قائمة الصحفيين المخبرين الذين تعاملوا مع وزارة الداخلية خلال العهد البائد ك"صبّابين" حقيرين قذرين، متعللا بأن الأمر سيمثل "سابقة" من شانها ان تدفع حتما قطاعات مهنية اخرى الى المطالبة بنشر "قائماتها" هي ايضا. وقد صدمني هذا الموقف الذي لم أجد له أي مبرر يستحق هذا الاسم. فالمطالبة بمثل هذه القائمة المخزية ليست بدعة، بل ان لنا اسوة حسنة في عديد الدول التي عرفت القطع مع الدكتاتورية، بثورة او بدون ثورة، ومن بينها دول المعسكر الشيوعي سابقا وفي مقدمتها تشيكوسلوفاكيا التي فتحت كل ملفات بوليسها السياسي لا تشفيا وانتقاما والدليل هو انه لم تحدث أي عملية انتقام او تصفية حساب بل في نطاق مبدإ تحمّل المسؤولية la responsabilisation وفي نطاق تفكيك منظومات الفساد في البلاد وفهم آلياتها حتى يمكن التوقي من تكرارها وفي نطاق تطبيق مبادئ العدالة الانتقالية ومسارها: مساءلة فمصارحة فمصالحة. فالانظمة الدكتاتورية المستبدة الفاسدة تميّع هذا المبدأ الاخلاقي والقانوني وقد تلغيه تماما وقد عشنا ذلك في عهد "الزين بابا" فاللص والسارق وحتى القاتل وبائع الزطلة والمتعدي على القوانين لا تلحقهم أي مساءلة ولا يطولهم أي عقاب اذا كانوا ضمن "الاربعين أو الاربعة آلاف حرامي" التابعين للسلطة او الدائرين في فلكها بل على العكس من ذلك لهم الثراء الفاحش وكل أوجه الجاه والسؤدد les Honneurs وهو ماقلب قيم المجتمع رأسا على عقب وغذى الوصولية والانانية والجشع وعقلية "الهمجية" والرغبة في التعدي على القوانين بسبب وحتى بدونه احيانا للتباهي لا غير. إن مبدأ "عفا الله عما سلف" الذي يريد المتورطون حتى النخاع في فساد العهد البائد فرضه عبر اساليب خبيثة ملتوية تمس حقوق المجموعة الوطنية برمتها وقد ساءني كثيرا ان ينخرط وزير الداخلية المكلف بالسهر على انفاذ القوانين في مثل هذه الرؤية، فكل دينار قبض دون وجه حق هو على حساب مواطن مات في المستشفى لقلة التجهيزات او لغيابها، او مات خارج المستشفى لانه بحكم فقره وبطالته لا يقوى على ثمن العلاج. وكل دينار دخل جيوب اذناب السلطة وتابعيها هو على حساب طفل لم يذهب الى المدرسة او انقطع عنها لضعف الامكانيات المادية لوالديه أو على حساب طفل اصيب بإعاقة عميقة لان والديه لا يملكان دينارا واحدا لاشتراء دواء تخفيض الحرارة وهذا ليس خيالا فكم من مآس من هذا النوع عايشتها خلال حياتي الصحفية . سيدي الوزير، ان القصاص والانتقام شيء، والترفع عنهما هو من جملة المبادئ الاخلاقية السامية اذا تعلق الامر بمسألة شخصية اما اذا تعلق الامر بحقوق المجموعة الوطنية فان الامر مختلف جدا ويصبح ضرورة اخلاقية وقانونية. ان القطاع الصحفي مدعو لأن يبادر باصلاح نفسه وان يتحمل مسؤولية ذلك، وفي نشركم للقائمة مساعدة لا يستهان بها للقطاع في عملية التطهير واعادة البناء على اسس سليمة في هذا الوقت الذي اصبح فيه الاعلام حرا الى حد الانفلات فما نشاهده حاليا، هو ان قسما كبيرا ممن تحوم حولهم اكبر الشبهات واخطرها عادوا لملء الواجهة واصبحوا من اكبر مناصري الثورة ومتحدثين شبه رسميين باسمها !! ان العذرية الجديدة التي يحاولون اكتسابها من شانها ان تتركهم يسممون القطاع، ويغذون جو الانفلاتات في البلاد، ويمنعون كل عملية اصلاح جدي للشان العام وللقطاع وان تغذي وتكرس في تونس ما بعد الثورة مبدأ "اللامسؤولية" وانتشار شعار "ما تبدّل شي" الذي من شانه ان يحبط ذوي العزائم الصادقة (وهم موجودون). فهناك الكثير من الصحفيين الذين بذل النظام البائد جهودا مستميتة لاشتراء ذممهم ومارس ازاءهم شتى اساليب الترغيب وضدهم انواعا من الترهيب الا انهم صمدوا تعففا وترفعا رغم حجم الضغوطات والمغريات وان موقعكم الحالي على راس وزارة الداخلية يسمح لكم بالاطلاع على ما كان يجري في هذا المجال فكل شيء هو في "لوح محفوظ" في رفوف وزارتكم. فهل ان حل التجمع اذن، كان غلطة شباب une erreur de jeunesse في فورة الأيام الأولى للثورة لا يجب ان تتكرر؟ ! ولماذا يقبع عبد الوهاب عبد الله في السجن اذن؟ فهل أن مبدا العدالة الانتقالية هو مجرد شعار لتهدئة الخواطر يخفي وراءه عدالة انتقائية؟ ! لقد امتص النظام البائد دم الشعب الى آخر قطرة ولما وصل الى النخاع ثار الشعب المسكين على المفسدين في الارض . فكيف لا يحاسب على الأقل أخلاقيا ويلفظ من سهّل الجريمة وشارك فيها؟ !