بعد أن كانت لسنين طويلة، كابوسا أقضّ مضاجع أصحاب الشهادات العليا من العاطلين عن العمل، قررت وزارة التربية بعيد الثورة الاستغناء عن مناظرة «الكاباس» نهائيّا، لانعدام الشفافية والمصداقيّة المطلوبتين فيها زمن المخلوع، حيث فتحت مجالا واسعا أمام «تجّار الوظيفة العموميّة» وهوّاة الرشوة من النافذين في السلطة والوزارة حتى وصل سعر «الأستاذيّة» إلى عشرة آلاف دينار مع إمكانيّة التقسيط لأبناء العائلات المعوزة وذوي الدخل المحدود؟ قرار الاستغناء عن المناظرة بأطوارها الكتابيّة والشفاهيّة التي اتخذته الحكومة السابقة، كان جريئا وثوريّا في مستوى الثورة ذاتها.. وقد أكّدته أيضا الحكومة المنتخبة الجديدة. وهو ما يجعلنا نطرح سؤالا ملحّا في هذا السياق عن نوع وشكل المعايير الجديدة التي ستعتمدها حكومة المهندس في انتداب أساتذة التعليم بالمعاهد الثانويّة؟؟ وهل ستكون على قدر من الشفافيّة والمصداقيّة وتجعل حدا لمظاهر الوساطات والرشوة أم أنّها ستزيد الطين بلّة؟ لاشكّ أنّ الأوضاع الاجتماعيّة وعمر المترشّح، من المقاييس التي ستؤخذ بعين الاعتبار في انتداب المدرّسين كما صرّح بذلك الوزير، كما لا تستبعد من ذلك أيضا الحالة المدنيّة للمترشح وجهته الأصليّة.. ويُخشى أن نعود في التعيير من جديد تدريجيّا، إلى الانتماءات الحزبيّة التي لن تكون هذه المرّة تجمعيّة.. وهلمّ جرا أو لا قدّر الله- شرّا.. وهو ما يعني أن نضع أبناءنا في النهاية بين أيدي مدرسين تتوفر فيهم جميع الشروط «الحكوميّة»، إلاّ الكفاءة المهنيّة.. خاصة وأنّ جامعاتنا اليوم باتت في ذيل التصنيفات الدوليّة ممّا يعني تراجع مستوى خرّيجيها وتقهقر مؤهلاتهم العلميّة.. وبعد هذه الشروط والمقاييس الجديدة في الانتداب أخشى أن تكون صورة الأستاذ كاريكاتوريّة.. فهو قريب من التقاعد في سنته الأولى، بعد خبرة طويلة في البطالة وجغرافيّة المقاهي.. اشتعل رأسه شيبا بعد عقده الرابع، مثقل بالديون والمصاريف وعائل أسرة كثيرة العدد قليلة المدد.. والأخطر من كلّ ذلك أنّ الدهر وطول العهد قد أنسياه ما أفنى عليه شبابه من العلم والدراسة الفقيرة أصلا من التدقيق والتعمّق في أغلب الاختصاصات وفي أكثر المعاهد والجامعات، ما عدا تقريبا دار المعلمين العليا التي يُنتدب خرّيجوها مباشرة للتدريس في «الثانوي» دون المناظرة بسبب قوّة تكوينها.. فهل جعلتم كل جامعاتنا كمدرسة المعلمين العليا كي يحق لكم إلغاء «الكاباس» يا حكومة الشعب المنتخبة؟ لا نقول هذا إلاّ لأن جرعة الدواء إذا زادت عن حدّها قد تقتل صاحبها، فما هكذا تورد الإبل.. وما هكذا نقضي على البطالة فنعرّض مستقبل أجيال بأسرها إلى الخطر؟؟ بينما بالإمكان أن نجد وظائف أخرى لأصحاب الأستاذيات من الذين طالت بطالتهم في الإدارات والمؤسسات العموميّة، ولا يتصدّر للتدريس إلاّ من ثبُتت كفاءته وإثباتها لا يكون بغير الامتحان حيث يُكرم المرء أو يُهان.. ولا نقامر حينها بمستقبل أبنائنا وتعليمهم.. ولا نقع مجدّدا في ازدواجيّة المعايير ولا تكافؤ الفرص.. وهو ما يعني أنّ «الكاباس» خير وأبقى بما أنها المعيار الأوّل والأخير في تحديد مدى كفاءة المترشح المهنيّة إذا ما توّفرت فيها شروط النزاهة والشفافيّة والمصداقيّة.. لتكون بذلك السبيل الوحيد لوضع الموّظف المناسب في المكان المناسب...