- هجمة الدعاة المشارقة على بلادنا والحراك الذي عرفته الساحة حول خلفيات هذه الاطراف وإعادة دور جامعة الزيتونة لتخرّج دعاة معنيين وما أسالته مسألة الزواج العرفي من حبر.. هي جزء من عدة قضايا طرحناها على سماحة مفتي الديار التونسية الشيخ عثمان بطيخ الذي أجاب عن أسئلتنا في الحديث التالي: ما رأيكم في ما يسمى «بهجمة» الدعاة المشارقة على تونس في هذه الفترة بالذات وذلك بعد زيادة عمرو خالد وصفوت حجازي ووجدي غنيم؟ - في الحقيقة زيارة العلماء ووفود المتعلمين من شتى الأقطار الاسلامية هو جزء لا يتجزأ من التاريخ العلمي لبلادنا التي أشعّت بحضارتها الزيتونية الوارفة بظلالها على الشرق والغرب. وهذه الزيارات محبذة ومطلوبة للإفادة والاستفادة ولتبادل المعلومات والمعارف في كل المجالات العلمية والثقافية. والمسلمون يرون علماءهم بعين الإجلال والتوقير لما يحملونه في صدورهم من العلم الشرعي الشريف وينظرون بنظرة الإعجاب عندما يكون في رصيد العالم منهم أو المتعلم عدد من الرحلات العلمية وما يجلبه معه من إجازات وكتب علمية. وكان من أسباب شد الرحال لتلقي العلم الحرص على الحصول على السند المتصل بينهم وبين صاحب الشريعة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم أكان سندا في القرآن الكريم أو في السنة النبوية أو في الفقه وكان عدد منهم يأتي الى تونس بحثا عن السند الصحيح المتصل بالإمام مالك رضي الله عنه. ودامت هذه الرحلات حتى في العصور المتأخرة وفي زمن الاستعمار والانحطاط رغم الظروف الصعبة. وبعد الاستقلال استمرت زيارة العلماء الى تونس وخصوصا من الشقيقة مصر من علماء الأزهر الشريف ومن لبنان في اختصاصات مختلفة كالعقيدة واللغة والفلسفة، وكانت الكلية الزيتونية في عهد الشيخ العلامة المرحوم محمد الفاضل ابن عاشور وكذلك في عهد المرحوم الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة تستدعي شيوخا وأساتذة سواء كمتعاقدين أو زائرين، واستفاد طلبة العلم منهم أحسن استفادة، ولم نر منهم زيغا ولا دعاوى غريبة أكانت عقائدية أو سياسية. وبعد انتشار وسائل الاعلام الحديثة وظهور الفضائيات متعددة المشارب والاتجاهات، برز الى الناس جيل جديد من الدعاة حازوا إعجاب العامة لفصاحتهم وحسن منطقهم فصار الناس من كل البلاد الإسلامية يتجهون اليهم بالأسئلة الدينية. وفي هؤلاء الدعاة من هو معتدل ومنهم المتشدد، وكان البعض منهم يشكك في إسلام تونس خصوصا بعدما جفت ينابيع الزيتونة وانقضى جيل كامل تقريبا من كبار مشائخنا وأساتذتنا في فترات متقاربة وكان أغلبهم يجمع مع وظيفته كمدرس أو قاض أو مفت مهمة الخطابة والتدريس التطوعي في المساجد، ولا أحد ينكر دورهم وتأثيرهم الكبير في إشاعة الثقافة الدينية في الأوساط الشعبية داخل تونس وخارجها. فاستضافة هؤلاء الدعاة ممن لهم علم متين ورأي سديد وتأثير محمود في الناس هو أمر مطلوب ومتعين، على أن نتجنب أصحاب الدعوات المشطة والغريبة عنا لئلا تكون سببا للفتنة التي هي أشد من القتل ونحن في غنى عن الانقسامات والخلافات لأننا نحمل عقيدة واحدة ونؤمن بشريعة واحدة. والمنصوح به هو حسن الاختيار وإلا فلا حاجة لنا بهؤلاء الدعاة. ماذا يمكن أن نخشى من هؤلاء الدعاة الذين يحملون خلفيات مختلفة؟ - قد أجبتكم على هذا السؤال، ولا بأس من زيادة التوضيح. والحقيقة أن تقسيم الإسلام الى إسلام متشدد وإسلام غير متشدد أو متساهل هو كلام مغلوط، فالإسلام لا يتعدد بتعدد الأهواء يقول الحق في محكم تنزيله «أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضلّه الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكّرون» (الجاثية 23) ويقول «وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون» (الأنعام 153) ولا يمكن للإسلام أن يتعدد لأنه مبني على العقيدة الواحدة والقرآن الواحد والسنة الواحدة والقبلة الواحدة، وكان صلى الله عليه وسلم ينهى المسلمين عن التشتت وعن التفرق وألا يكفّر بعضنا بعضا وألا يزدري بعضنا ببعض، وشبهنا بالبنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضا وبالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ومن وصيته صلى الله عليه وسلم إلينا «لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابرو،ا وكونوا عباد الله إخوانا» (أخرجه البخاري في صحيحه ومالك في الموطأ). نعم نختلف ونتعدد بالرأي في مسائل اجتهادية مردها القياس والعرف والمصلحة المرسلة والاستحسان وسد الذرائع، ومع ذلك يبقى الاجتهاد منضبطا بالمرجعية الأساسية وهي القرآن والسنة وبالمقاصد الشرعية العامة، ولا يمكن للاجتهاد أن يكون مطلقا والخروج عن ذلك يعد ضربا من العبث ولا يصدر إلا عن جاهل بالشريعة وبأصولها. اعتبر البعض حلول هؤلاء الدعاة ببلادنا وجها آخر لما يسمى «بالجهاد» ومحاولة لترسيخ فكر جديد في تونس.. فما رأيكم؟ - هذا كلام يروّجه في الغالب من يجهل عراقة الإسلام في هذه البلاد المتجذّر دينها في ضمائر أهلها وفي قلوبهم، حتى لدى من لم يلتزم بعد بكامل شعائر دينه، وحتى العصاة المدمنين على شرب الخمر، لم يفقدوا جذوة الإيمان في قلوبهم ولا بذرة الخير التي نشأوا عليها، وهم لذلك لا يرضون المساس بعقيدتهم ولا يستبدلون دينهم بعرض الدنيا، وقد تصدر عنهم السفاهة أو البذاءة فيرجعون ذلك الى عصبيتهم أو للشيطان أو للمجتمع، فما بالك بمن التزم دينه وفي التونسيين كثير منهم والحمد لله. وكان بعض الدعاة سامحهم الله يعممون الأحكام الجزاف فلا يرون في تونس إلا الفسق والفجور، على أني لا أنكر البتة وجود أشياء في المجتمع لا يقرها الإسلام ولا تنتسب إليه، ولا يعد ذلك خاصا بتونس. ومما نحمد الله عليه على أن الأغلبية من التونسيين مسلمون بالأصالة، وهم لا ينافقون في عقيدتهم، وأكثرهم غير متعصّب. وما نشاهده أيام الجمعة والأعياد وفي رمضان من اكتظاظ المساجد وازدحام المصلين من جميع الأصناف العمرية ذكورا وإناثا، مما يطمئننا على أن هذا الدين مترسّخ في عاداتنا وتقاليدنا، ولا خوف على الإسلام في تونس. وأقول للذين يطالبون بفتح إسلامي جديد: لستم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعد أهلها من الكفار. ألم يحن الوقت لإعادة إشعاع الزيتونيين وبروز دعاة معتدلين من تونس؟ -هذا الأمر موكول الى أساتذة الجامعة وخريجيها في إعادة الدور الريادي للتعليم الجامعي الزيتوني حتى نستعيد دور السلف الصالح من علماء الزيتونة الذين جمعوا مع دورهم العلمي دورا اجتماعيا وحضاريا، فقد تصدت الزيتونة لخطر التشيع زمن الفاطميين، وحافظت على هوية تونس زمن الاستعمار الفرنسي، واليوم على الجيل الجديد أن يستلم المشعل، وإني أعتقد جازما أن المستقبل يبشر بالخير للإسلام وللمسلمين، وأنا متفائل إزاء ما يبديه أساتذة الزيتونة اليوم من حماس وعزم على تطوير مؤسستهم العريقة لتقوم بعملها أحسن قيام ولتجديد إشعاعها في تونس وفي العالم الإسلامي كما كانت من قبل، وموكول الى هذه الجامعة خصوصا المحافظة على وحدتنا الفكرية والمذهبية والمحافظة على اعتدالنا حتى لا يبقى إلا ما هو أصيل ويزول كل دخيل. ما موقفكم من الزواج العرفي في تونس وما هو حكم الشرع في هذه المسألة؟ - في الواقع ينبغي أن نبيّن معنى العرفي حتى يفهم الناس وخصوصا طلبتنا في الجامعات ليتبينوا الحق من الباطل فيحترسوا ممن يسوغ لهم الحرام في قالب شرعي مشوّه وهو ما يسمى بالزواج العرفي. والزواج العرفي كان موجودا في القديم وكان منتشرا في الأرياف بسبب الأمية وقلة المعرفة بالكتابة حينها وعدم وجود عدول الإشهاد في تلك المناطق النائية، بخلاف المدن الكبرى التي ينتشر فيها التعليم. والزواج العرفي يتوفر فيه كل مقومات العقد الصحيح من ولي وقبول وإيجاب وشهود وصداق وإشهار بإقاماة المآدب والحفلات يستدعى إليها القريب والبعيد، ليتعرف الناس على الزوج والزوجة ، ولا ينقص هذا النوع من الزواج إلا الكتب أو العقد المكتوب بحجة رسمية الذي هو شرط في صحة الزواج. وهو ما جرى به العمل منذ قرون لما انتشر الإسلام في أصقاع الأرض واتسعت رقعة الدولة الإسلامية وازدهر التنقل بين البلدان سواء للتجارة أو للعمل أوللاستقرار. وبتطور الوضع التشريعي بعد الاستقلال تم إلغاء هذا النوع من الزواج الذي ظهرت مفاسده لأنه يفقد أدنى وسائل الضمانات سواء للزوجة أو للزوج أو للأطفال، فقد ينكر الزوج رابطة الزوجية وحينها يتعذّر الإثبات وتضيع الحقوق وهي أكبر مفسدة تعود مضرتها على الجميع، وإلغاء الزواج العرفي هو من باب اعتبار المصالح المرسلة وسد الذرائع، لأن الأصل في الزواج الشرعي هو تحقيق السكينة والاستقرار النفسي والشعور بالأمان وبالرحمة والمودّة المتبادلة بين الزوجين ، وهذا ما لا يحقّقه الزواج العرقي. ولا يكون العرف عرفا شرعيا إلا اذا توفرت فيه الصيغ الشرعية والقانونية الضامنة للحقوقن والواجبات، وما عدا ذلك مما يسمونه زواجا عرفيا فهو فاقد للشرعية، وكل علاقة بين الذكر والأنثى تفتقد لشرط التوثيق والتضمين بالسجلات المدنية فهو مخالف لمقاصد الشرع ولو ادعى المدعون أنها على سنة الله ورسوله، وكل علاقة خارج هذه الشروط فهي علاقة مخادنة يجب منعها لأن حكمها البطلان. وزواج السر ممنوع بالشرع قبل القانون لأنه يقع في الخفاء وهو زنا والاكتفاء بقراءة الفاتحة لا يضفي على هذه العلاقة أية شرعية والله تعالى لا يشهد على منكر وزور. وليس هناك من حلّ إلا في الزواج الرسمي المكتوب الموثّق الذي يحمي الحقوق ولا يهدرها. وقد يكون مراد البعض من الزواج العرفي هو قضاء نزوات وإقامة علاقات إباحية مؤقتة ثم ينتهي كل شيء بانتهاء الدراسة، وكم من مأساة وقعت في صورة الحال وكم من المشاكل جرّت وراءها المتاعب للبنت وللعائلة بسبب هذه العلاقة السرية. والواجب توعية شبابنا وتنبيههم من هذه المخاطر، والدور ملقى على وسائل الإعلام في التوعية الدينية، وكذلك في المعاهد والجامعات لنتقي هذه المنزلقات الخطيرة على مستقبل ناشئتنا. والله تعالى يريد لنا العفّة والخير، ومن مقاصد الإسلام جلب المصلحة ودرء المفسدة عن الأفراد والمجتمع، وأفعالنا وتصرفاتنا لابد أن نزنها بميزان الشرع والعقل الصحيح قبل الإقدام عليها. والله تعالى أحلّ لنا الطيبات وحرّم علينا الخبائث، وهو أعلم بما يصلحنا وفي الامتثال لشرعه تتحقق السعادة الدنيوية والأخروية. أشرف طبيب