بقلم: مصطفى البعزاوي شكل هروب بن علي نقطة تحول تاريخية للمجتمع التونسي في تعامله مع مؤسسة الدولة-السلطة ومفهوم النظام العام بحيث أسقط كل «الحرمات» الذهنية والقانونية التي كانت تحتل وجدانه في تحديد علاقته بهذه المؤسسات. المجتمع التونسي، كغيره من المجتمعات العربية والإسلامية، يستبطن- يختزن- في أعماقه رواسب ثقافة سياسية تراثية تحتل فيها السلطة السياسية مكانا خاصا يسكنه الخوف والخضوع لا ينازعها فيه أحد فالسلطة عندنا هي طبيعية لمن له مقاليد الحكم وتستدعي بالضرورة خضوعا وإذعانا طبيعيين، بدءا من أصغر مسؤول إلى أعلى هرم في السلطة. لذلك كانت تهمة كل معارض على مر التاريخ هي الفتنة ومنازعة السلطان طمعا في الحكم. ولم يقل لنا أحد ما العيب في أن يطمع أحدهم في السلطة لولا أنهم يعتبرونها مقدسا من المقدسات ومنذورة لفئة معينة لأنها حقا استثنائيا لهم. السلطان في الثقافة السياسية التراثية حق طبيعي يرجع إلى أصحابه وليس لأحد من العامة والرعاع- هكذا مفهوم المواطن في التراث السياسي الإسلامي- معارضة هذا الحق الطبيعي. ألم يقل ابن هانئ في المعز لدين الله الفاطمي بيته الشهير والذي علا على القدرة الإلهية بقوله: ما شئت، لا ما شاءت الأقدار فاحكم، فأنت الواحد القهار و قد استغلت الدولة الحديثة ما بعد الاستعمار هذا الجبن- الجبن السياسي التراثي لتتحول من مشاريع دول «غربية حديثة» إلى مماليك تقليدية تحت مسميات مختلفة. لا نشك في رغبة بورقيبة في إقامة دولة على النمط الفرنسي لكن الثقافة السياسية الدفينة للوعي العام حولته إلى «خليفة» وأمير المؤمنين و» سيد الأسياد». ولكي لا نظلم الرجل نذكر أن الباى الحسيني كان يعرف ب «سيدنا» بكسر السين- أما اسمه الحقيقي فلم تكن له أهمية إلا للمؤرخين. وهذا هو حال كل دول ومماليك العالم الإسلامي قديما وحاضرا. لذلك فالثورة التونسية ومن ورائها المصرية قد أسقطتا هذا الورم السياسي التراثي بحيث تمرّدت الذهنية العامة على مفهوم السلطة التي يجب أن نذعن لها ونخاف من تبعات الخروج على نواميسها وقوانين النظام العام التي تضعه لنا هو ما أدى باعتقادي إلى رواج مصطلح جديد في الثقافة السياسية وهو «الانفلات». والحقيقة أن هذا الانفلات ليس انفلاتا على القانون بل انفلات على سلطة الدولة ومؤسساتها الرسمية، وهو في غالب الأحيان انفلات مقصود وإرادي من الناس متحدّ للدولة لإبراز عجزها وفضح قلة حيلتها كنوع من أنواع الانتقام والتشفي للظلم والقهر الذي مارسته عليهم طيلة حكمها. انفلت الناس كل من زاويته لإثبات وجودهم والتكفير عن جبنهم الأزلي أمام الخوف من آلة القمع وأدواتها- الدولة-. العاقل والمجنون والحكيم والمناضل والحقوقي والإعلامي والفنان والبائع المتجول وطالب الشغل وطالب الرخصة والمهرب والمجرم والبنين والبنات، كل الناس انفلتوا كتعبير منهم على التمرد لمجرد تحدي السلطة التي قهرتهم في وقت من الأوقات، لكن لسوء الحظ في غير موضع التمرد والثورة. وقد ذكّرني صديق عزيز ببيت شعر لمظفر النواب يسخر فيه من صدام حسين بشنّ حربه على إيران قائلا: وضع الحرب بغير مكان الحرب وحين الحرب تقلد سيفين من الخشب هذه الصورة تلخص كل مظاهر الانفلات التي نراها كل يوم في مجتمعنا تصل حد الاستفزاز المقرف حيث يتعدى بعض «المرضى» على مظاهر الدولة بشكل مخجل وجبان. لازلت أذكر حادثة وقعت أمامي بالصدفة في قلب مدينة سوسة. وعلى بعد أمتار من منطقة الشرطة حيث أحاط بعض المنحرفين-هكذا بدا لي- بعون أمن وفي يد أحدهم كلب من الأنواع الخطرة يصارعه على الاقتراب من عون الأمن بزيّه الرسمي الذي راح يلوذ ببقية الشبان ليتّقي قفزات الحيوان المربوط وسادية الحيوان الماسك بالحيوان المربوط. مشهد لا يختلف كثيرا في دلالته مع من ينتصب في قلب الطريق ليبيع ويشتري ولا يختلف في شيء عن الذي ينتهك مثال التهيئة ليبني بدون رخصة ولا يختلف كثيرا عن الذي يستبيح حاجة الناس ليفرض أثمانه الخاصة ويبيع بالسحت والحرام غير آبه برقابة الخالق «واشرب ولا طير قرنك»، ولا يختلف كثيرا عن الذي يزبد ويعربد ويتهدد بالوعيد والكلام النابي وقلة الذوق موظفا بسيطا أو مسؤولا كبيرا في قلب الإدارة أمام كل الخلق، ولا يختلف البتة عن تهديد الوالي والاعتداء بالضرب على المعتمد والاعتداء على أعوان الدولة الذين هم في حقيقة الأمر يتقاضون رواتب مقابل أعمالهم ولا يعملون على سبيل الفضل أومن تلقاء أنفسهم. هذه الأنواع من الإنفلاتات هي إنفلاتات جبانة يمكن السيطرة عليها بالقانون كما يمكن أن يثوب المواطن إلى رشده دون أن يرغمه أحد على ذلك لأنه يعلم يقينا انه يتشفى ولا يطالب بحق أو يدفع باطلا، وربما يجد نفسه في يوم من الأيام من المدافعين عن هؤلاء الموظفين حين يتعلق الأمر بسلامتهم لضمان تمتعه بخدماتهم. لاحظوا كيف يطالب الناس بالأمن ويتعدون في نفس الوقت على رجل الأمن، لأنه ببساطة لا يزال رمز السلطة الظالمة في أذهانهم. أما أخطر الإنفلاتات فهي التي تقع تحت مسمى حرية الممارسة وتستغل هذه الهبة الربانية في التحرر من الخوف لتمديدها وتنال من أمن الناس جميعا. هي الأخطر، لأنها في الحقيقة تهدد مكسب «السقوط الجوهري» للسلطة في أذهاننا وتقول لنا بطريقة أخرى أن هذا الفراغ الطبيعي يجب أن يملأ- بالخوف كما كان- وأن صاحبه ملأ هذا الفراغ. طبعا كل الأطراف تحاول لعب هذا الدور برغم تعددها وتباينها. فمن أقصى اليمين إلى أقصى اليسار يحاول الكل احتلال هذا الدور حتى يخضع الناس بالولاء وتعود حليمة إلى عادتها القديمة. وعوض أن تتحرك الثورة لإبداع نظام سياسي قائم على الحريات تعود آلة «الدولة-السلطة- تشتغل من جديد تحت مسميات حفظ الأمن العام و»احترام القانون» التي تصنعه لنا ويعود الاستبداد شيئا فشيئا يسري في عروقنا حتى تخمد حركة فعلنا وتسكننا الدولة القاهرة من جديد . يتبع