بقلم :محمد وديع بنصالحة ينص الفصل الثالث من التنظيم المؤقت للسلط على ما يلي : «يصادق المجلس التأسيسي على مشروع الدستور فصلا فصلا بالأغلبية المطلقة من أعضائه ثم تتم بعد ذلك المصادقة عليه برمته بأغلبية الثلثين من أعضاء المجلس وإن تعذر ذلك فبذات الأغلبية في قراءة ثانية في أجل لا يزيد عن شهر من حصول القراءة الأولى وإن تعذر ذلك مجددا يتم عرض مشروع الدستور برمته على الاستفتاء العام للمصادقة الإجمالية عليه وذلك بأغلبية المقترعين». هل أن هذا الحل القانوني يستجيب فعلا للمطلب الرئيسي للمرحلة الذي يفترض التوصل إلى صياغة دستور للبلاد في أجل لا يزيد عن العام أو على الأقل لا يتجاوز العام بكثير؟ يتأسس النص على التمييز بين الأغلبية المطلقة الكافية لتمرير فصول الدستور وأغلبية الثلثين المشترطة للمصادقة على كامل الدستور هذا التمييز لا يسلم من النقد من الناحية النظرية ضرورة أن التشريع يقوم على مبدأ تناسق الفصول القانونية وترابطها في نسق نصي موحد ومتكامل وإذا كانت الفصول لا تشكل كيانات قانونية مستقلة ومعزولة عن بعضها وعن النص برمّته فإن التمييز بين الأغلبيتين يصبح غير ذي موضوع من الناحية النظرية أما من الناحية التطبيقية فالإشكال هو التالي: هل من المجدي مناقشة فصول مشروع الدستور والموافقة عليها بالأغلبية المطلفة طيلة فترة قد تمتد إلى أشهر والحال أن النقاط الجوهرية لم تحسم ولم تحصل على رضاء الثلث القادر على تعطيل المصادقة الإجمالية ؟ ما جدوى المصادقة على فصول مشروع دستور يختار النظام البرلماني مثلا والحال أن أكثر من ثلث أعضاء المجلس يفضلون النظام الرئاسي ولن يسمحوا تبعا لذلك بمرور المشروع برمته ؟ ونفس التساؤل يجب أن يطرح بالنسبة إلى النصوص المتعلقة بالهوية والحريات والتي قد تشكل نقاطا خلافية تجعل من الحصول على أغلبية الثلثين أمرا مستحيلا رغم توفر الاغلبية المطلقة طيلة فترة المصادقة ؟ إن تأجيل الحصول على الأغلبية المشددة إلى ما بعد المصادقة فصلا فصلا بالاغلبية المطلقة يؤدي إلى إطالة أمد إعداد الدستور لا غير سيما أن النقاط الخلافية معروفة تقريبا ويمكن تحديدها منذ عمل اللجان أليس من الأجدى عرض هذه النقاط الخلافية منذ البداية على المصادقة بأغلبية الثلثين وذلك في إطار مشروع ديباجة مثلا والمرور مباشرة إلى استفتاء الشعب بشأنها في حالة عدم توفر تلك الأغلبية ثم الانتهاء وبعد حسم الخيارات الأساسية إلى تحرير تلك الخيارات بالمصادقة عليها بالأغلبية المطلقة لا غير هذا التمشي يعفي من فرضية المصادقة طيلة أشهر على فصول بالأغلبية المطلقة ثم الاصطدام في النهاية بعدم توفر الأغلبية المشددة، فقط لأن المسائل الخلافية الرئيسية مثل شكل النظام السياسي لم تحسم منذ البداية. تتأكد هذه القراءة بالاطلاع على أحكام النظام الداخلي للمجلس الذي يفترض أن اللجان المكلفة بإعداد الدستور والهيئة المشتركة للتنسيق والصياغة ستتولى عرض مشروع الدستور على الجلسة العامة وهو ما يعني أنّ مشروعا واحدا هو الذي سينبثق عن عمل اللجان وهو حتما مشروع الأغلبية داخل هذه اللجان. ولئن كان من الممكن داخل اللجان التوصل إلى حلول توافقية تخص مسالة الهوية والحريات ومصادر التشريع فإنه يبقى مستبعدا أن يحصل هذا التوافق بخصوص شكل النظام السياسي بما يجعل فشل المشروع في الحصول على أغلبية الثلثين احتمالا يكاد يكون حتميا. أما بخصوص الاستفتاء فالملاحظ أنّ الفصل الثالث من التنظيم المؤقت للسلط يجعل من الاستفتاء حلاّ بديلا وليس مبدئيا رغم أنه كان من الأفضل من وجهة نظر ديمقراطية اعتماد الاستفتاء كحل مبدئي ليمر الدستور الجديد بمرحلتين تأسيسيتين وهي المجلس التأسيسي والاستفتاء التأسيسي ومن جهة أخرى فإن الاستفتاء يخص حسب الفصل الثالث «مشروع الدستور» الذي سينبثق عن عمل اللجان وسيحمل بصمات الأغلبية فيها ولكنه لن يتمتّع سوى بالأغلبية المطلقة وهنا يطرح التساؤل حول جدوى رأي الثلث الرافض للمشروع داخل المجلس طالما أن الرؤية التي تأسس عليها رفضه للمشروع لن تعرض على الشعب للبت فيها في كل الحالات. أما بخصوص اجراءات الاستفتاء فيجدر التأكيد على أمرين: فالملاحظ أولا أن الاستفتاء يتعلق بالدستور برمته و يرمي إلى المصادقة الإجمالية عليه، وهو ما يبعث عن التساؤل حول نجاعة عرض مشروع دستور يتركب من مائة فصل أو أكثر على المواطن العادي للمصادقة عليه وحول جدية إبداء الرأي بلا أو نعم حول نص برمته من طرف عموم المواطنين. لا بد من التأكيد أن أشكال الاستشارة الشعبية قد تطورت عبر التجارب المقارنة وأن نجاعة العملية ومصداقيتها أضحت تفترض أن يكون الموضوع الذي يستشار فيه الشعب عبر الاستفتاء محددا ودقيقا و سهل الفهم للجميع، وذلك من خلال اللجوء إلى طريقة الأسئلة والاقتراحات الواضحة، ولكن الفصل الثالث استبعد هذه الحلول باشتراطه المصادقة على النص برمته. أما الملاحظة الاجرائية الثانية فتهم الأغلبية المشترطة للمصادقة بالاستفتاء إذ يذكر الفصل الثالث أنها تتم بأغلبية المقترعين وهوما يعني أولا أن هذا الاستفتاء هو في الحقيقة «استفتاء بمن يحضر» من التونسيين إذ لا يوجد اشتراط لحد أدنى من المقترعين كما هو متعارف عليه في تنظيم عديد الاستفتاءات في العالم . ومن البداهة أنّ الدستور لن يكون مقبولا ومشروعا إذا لم يتحرك للتصويت عليه غير الثلث من التونسيين مثلا. ولا بد من الملاحظة أيضا أن الأغلبية المشترطة للمصادقة غير محددة بدقة ولا نجد ما يفيد أنها الأغلبية البسيطة أو المطلقة أو المشددة وهو ما قد يجعل من نتائج الاستفتاء محل جدال في عديد الحالات سيما إن اقتربت نسبة الرافضين للمشروع بنسبة المؤيدين. يطرح هذا النص إذن عديد الاشكالات التي قد تبرز مع تطور المسار السياسي ويبقى في تقديرنا أن اللجوء إلى تحديد الخيارات الرئيسية بالتصويت على ديباجة الدستور في الجلسة العامة وعرضها على استفتاء عند الإقتضاء كمرحلة أولى هو الحل الأسلم، كما أن اللجوء إلى الاستفتاء يجب أن يكون على الخيارات الرئيسية فقط وبطريقة دقيقة و سلسة تمكن الشعب من الاختيار بوضوح، كما أن ضبط حد أدنى للمقترعين يبقى حلا ممكنا لضمان مصداقية العملية .. ومن المفيد التذكير في النهاية أن التصويت على الدستور سواء في المجلس أو بالاستفتاء قد يتحوّل بسهولة وضمنيا إلى محاسبة سياسية تتسلط على عمل الحكومة المؤقتة وعلى المسار الانتقالي عموما..