إن الكتابة حول اليونان اليوم من الصعب أن لا تكون مشحونة بصبغة ذاتية. فإن كانت الأزمة التي يمر بها اليونان اليوم هي أزمة اقتصادية بالأساس فالبلد يعاني من الديون السيادية ومطلوب منه بأمر من المفوضية الأوروبية ببروكسيل اعتماد سياسة تقشف شديدة حتى يحصل على قرض أوروبي كبير لتعديل الميزانية وهي سياسة يرفضها الشعب ويتحرك ضدها فإنها أزمة حضارية كذلك. فما نراه من صور حول غضب الشعب ومواجهاته الدامية مع أمن بلاده وإقدامه على حرق المؤسسات بما في ذلك المؤسسات ذات القيمة التاريخية العالية لا تصف فقط حالة اقتصادية صعبة وإنما هناك تاريخ يتهاوى وحضارة تتقهقر. إنه من الصعب اليوم على كل من لا يرى في اليونان الحديثة سوى سليلة حضارة الإغريق العظيمة أن لا يتأثر بالصور التي تبثها الفضائيات التلفزيونية ومواقع الإنترنيت حول الوضع المنفجر في هذا البلد الذي يأبى فيه الشعب الانحناء للسياسة الأوروبية التي يقودها الثنائي الفرنسي الألماني. ومن الصعب أن لا نهتم بالأخبار التي تأتينا من هذا البلد الذي إن نسينا كل شيء فإننا لا ننسى أن الديمقراطية التي نتمناها في بلادنا اليوم بكل جوارحنا قد نشأت هناك وأن الفضل في الحضارة الغربية المتطورة يعود لعباقرة اليونان بالأساس وخاصة إلى فلاسفتها الكبار وأشهرهم أرسطو وأفلاطون وسقراط. حكايات اليونان القديمة تهدهد أحلامنا وقصص الآلهة كما وصفها شعراؤها الكبار ولعل أبرزهم «هوميروس «صاحب الإلياذة والأوديسة تستفز خيالنا وذلك العالم الغيبي المثير يأبى أن يغادر مخيلتنا. أساطير اليونان مازالت مغرية وهي تأسر كل من يعثر عليها من أحباء النصوص التراجيدية أو الكوميدية مخطوطة في كتب الأساطير. ماذا بقي من كل ذلك اليوم؟ ماذا بقي من الحضارة الإغريقية العظيمة التي ألهمت العالم ونفضت عنه غبار الجهل. ماذا بقي من الحضارة الإغريقية القائمة على العقل والفكر والإبداع التي سطع نورها وسط مساحات واسعة من الظلمات؟ لقد تلقى العالم خبر إعلان السلطات اليونانية التي هي من المفروض من سلالة هذه الحضارة العريقة عن استعدادها كراء «الأكروبول» بالعاصمة أثينا لغايات تجارية من بينها تصوير الأفلام الإشهارية باستغراب كبير فا«لأكروبول» وهو المعلم التاريخي الشهير الذي يضم المعابد القديمة والمسارح وغيرها من العلامات التي تشهد على عراقة تاريخ هذا البلد من بين أكثر المناطق التي تستقطب السياح في العالم. هناك خشية من تدمير هذا المعلم أو من تشويهه بالاستعمال لغايات تجارية. من المفروض أن «الأكروبول» وغيره من المعالم العريقة ملك للحضارة الإنسانية ومن المفروض أن السلطات اليونانية تتعهد هذه المعالم ولا تسمح بتشويهها. والسؤال إزاء ذلك إلى أي مدى يمكن أن تذهب السلطات اليونانية من أجل حل المشاكل المالية وأزمة اليورو» التي تتخبط فيها؟ وإذا ما علمنا أن أثينا وبحكم قيمتها التاريخية وبحكم الشواهد الحضارية التي تضمها وهي المدينة التي كانت تاريخيا أول من بعث الديمقراطية وأول من سن القوانين التي تخول للطبقة غير النبيلة وغير الأرستقراطية المشاركة في الحياة السياسية وهي مدينة الكبار من الفلاسفة والعلماء والأدباء بامتياز, هل ستوضع أثينا بالكامل للكراء؟