"لو كان الفقر رجلا لقتلته" مقولة اختلف في شأن مطلقها الكثيرون، فالبعض يسندها لعلي ابن ابي طالب والآخر للفاروق عمر ابن الخطاب (رضي الله عنهما)... وأيا كان قائلها فرسالتها هي أن الفقر آفة وجب الإسراع بمحاربتها ليس فقط بالمساعدات والإعانات المناسباتية - ومنها التي تصاعدت وتيرتها في أعقاب موجة البرد التي اجتاحت مناطق مختلفة في الشمال الغربي- وإنما بحلول جذرية وعاجلة من شأنها ان تضع حدّا للتهميش والبطالة والخصاصة التي يتخبّط فيها سكان تلك المناطق. قادتنا رحلتنا إلى معتمدية تالة ضمن قافلة مساعدات نظمتها مؤسسة دار الصباح لفائدة مجموعة من العائلات المعوزة هناك... عائلات نساها الذين استغلوا المناصب وتشبثوا بكراسيهم على امتداد عقود متعاقبة وأتخموا أرصدتهم بالملايين وأنستهم قصورهم ومأدباتهم وترف عيشهم أنه على بعد مئات الكيلومترات منهم بشرمثلهم يبيتون جياعا..
حملنا مساعداتنا المتمثلة في حشايا وأغطية ومواد غذائية متنوّعة ومواد تنظيف وشموع وملابس وحلوى ولعب للأطفال وانطلقنا نسابق الزمن حتى نتمكن من توزيع الإعانات على المستحقين... كانت السيارة تجوب أنهج المدينة الضيقة التي تترامى على أطرافها بيوت شعبية.. المدينة منهكة والوجوه المتعبة تتراءى من خلف الزجاج الذي تضبّبه أنفاسنا... ولا تملك وأنت تستطلع تلك المظاهر المحزنة إلا أن تلتمس العذر لبعض الذين خيّروا هجر مدينتهم إلى مدن أخرى إلى حيث مظنة الخير... مظاهر الحياة في تالةالمدينة لا تتعدى تراص المقاهي وبعض الحوانيت و"نصبات" الغلال والخضر... حيثما وليت وجهك تعترضك وجوه متعبة.. حائرة.. وبعض الأطفال في مشاهد قد تكون مألوفة لأهل المدينة ولكنها صادمة للزائرين.. أطفال يمرحون.. لا كرة يتقاذفونها.. ولا دراجة يتناوبون على ركوبها.. كل ما يلهيهم "بالة" تفوقهم طولا يحوّلون بها حبات الرمل من كدس إلى آخر.. ولكم التعليق.
عندما يلتقي الفقر بالإعاقة
.. وانطلقنا في رحلة قادتنا إلى عائلات تسكن بيوتا ليست بالبيوت.. أوّل محطة توقفنا عندها كانت في قلب مدينة تالة.. تحديدا في "حومة الجبّانة".. في مأوى يضم عائلة تتكوّن من 6 أنفار.. رب العائلة يدعى يوسف بن جمعي رمضاني يعاني إعاقة بصرية (ضرير) هو بموجبها غير قادر على العمل.. يعيش مع زوجته وأولاده الأربعة المعوقين أيضا (إعاقة عضوية وذهنية وجميعهم فوق العشرين) في مكان تحتار العبارات في وصفه... لا أهمية للأسماء أو للألقاب ولكن في حالة هذه العائلة ارتأينا ذكر اسم صاحبها كاملا لعلّه يحظى بلفتة ممن يهمهم الأمر ليجد مخرجا من الحالة المزرية التي يعيش فيها مع أولاده الأربعة الذين يفترشون الأرض إذا ناموا بينما طعامهم لا يسمن ولا يغني من جوع... حالة اجتماعية من بين حالات كثيرة شاهدة على "لصوصية" صندوق 26- 26 وعلى "صدق" مسؤولي الجهة سابقا و"إخلاصهم" في العمل.
وفي الريف... حكايات أخرى
سلكنا طرقا وعرة قادتنا إلى ريف تالة... هناك للبؤس قصص أخرى... أذهلتنا سعة الأراضي الممتدة يمنة ويسرة وضاقت صدورنا بمشاهد الخصاصة.. في منطقة "الخزّانة" توقفنا حيث تسكن عائلة معوزة.. لم نلمس مظاهر الحياة إلا من خلال رضيعة مهدها مصنوع يدويا من بقايا قماش وحبال... اختارت والدتها أن يكون معلّقا حتى تقي صغيرتها لفح القرّ.. فهناك في ذلك البيت لا يوجد سرير يمكن أن يحتضن الرضيعة فالجميع في ذلك البيت ينامون على الأرض ولا يملكون من المتاع إلا النزر القليل.. قليل من الأغطية.. قليل من "المواعين" وكثير من الفقر والبؤس... غير بعيد عن هذه العائلة.. اسرة أخرى تتكون من 7 أفراد.. زوج وزوجة و4 أولاد وبنت.. منهم من يزاول تعليمه في مدرسة بعيدة عن مقر سكنهم وتقول والدتهم أنهم يضطرون إلى قطع مسافات طويلة والخروج قبل حلول موعد الدرس بساعات.... أثوابهم الرثة ووجوههم المنهكة.. وفرحتهم وهم يمسكون بالبسكويت والحلوى تغني عن كل تعليق... إذا سألت سكان المنطقة مم تعيشون يجيبوك ان لا مدخول لديهم غير الذي تجود به شويهاتهم ودجاجاتهم وبعض مما تنبت الأرض... أما كيف يسهرون فمعظمهم يشعلون "فتيلة" يمضون تحت ضوئها الخافت سويعات الليل الأولى ولعلّ ذلك ما يفسّر سعادتهم بحصولهم على علب الشموع التي قد تعينهم لبعض الوقت على اطالة أمد السّهر. تقدّمنا بسيرنا نحو منطقة "الشار القطّار" التي تبعد زهاء 8 كيلومترات عن تالةالمدينة.. وتسمية "الشار" كما أسرّ لنا بعض القاطنين بالمنطقة تنسب لدبابة هتلر هناك تقرأ في ملامح وجوه أضناها الفقر وأعياها التهميش، كثيرا من التعب والصبر وجهلا تاما لما يحصل في البلاد من أحداث ومجريات.. وتقرأ بين سطور عبارات هؤلاء البسيطة رسائل لا يفقه كنهها ومعناها إلا من وقف بباب "العشّة" وعايش عسر وفقر حالهم.. وهمّ مأساتهم.
تضامن... مساعدات ولكن
موجة البرد القارس التي اجتاحت المنطقة والتي كانت الدافع الرئيسي لزيارتنا لها بغية ايصال المساعدات إلى الأسر المعوزة عرّت الكثير من الحقائق التي كانت الحكومات السابقة تبرع في تعتيمها كبراعتها في التغطية على مآسي سكانها. لقد شنفت تلك الحكومات آذاننا بموال التنمية المستديمة وبسمفونية القضاء على مناطق الظل إلى أن انقطع حبل الكذب وبان المستور... وحتى لا تمتد معاناة المهمّشين في مختلف مناطق الجمهورية لا بدّ من إيلاء جميع المناطق المحرومة العناية اللازمة التي حرمت منها لسنوات... لا بد من تشجيع رجال الأعمال على الاستثمار في تلك المناطق لامتصاص البطالة ومن الضروري أيضا مساعدة العائلات التي تقطن في المناطق الريفية النائية على خدمة الأرض وتربية الماشية بوصفهما المصدر الأساسي للقمة العيش.. ومساعدة هؤلاء تتم عبر رصد اعتمادات لحفر آبار وتمكينهم من بعض رؤوس الماشية وإعانتهم على بناء مساكن لائقة فمعظم البيوت التي زرناها في ريف تالة أسقفها من خشب وجوانبها من الطين والحجر وهي غير صالحة للسكنى مطلقا. المساعدات التي تدفقت على المتضررين من موجة البرد الأخيرة هي بلا ريب لفتة انسانية عميقة الدلالات... لكنها في واقع الأمر لا تعدو أن تكون سوى مسكنات ألم قد يدوم مفعولها لأيام... بيد أن الشفاء التام يكون عبر استئصال المرض كليا من الجسد الهزيل... فأين الطبيب القادر على ذلك ؟