ما يحصل في تونس اليوم بعد أكثر من عام على ثورتها التي أبهرت العالم وانحت إليها كبريات الدول والديمقراطيّات، لا يمكن إلاّ أن يكون مخاضا عاديّا لإفرازات أكثر من عقدين من الكبت والدكتاتوريّة التي ظلّت جاثمة على صدور التونسيين فقطعت عنهم حتى الكلام والتفكير. وهذا المخاض الذي لا يشكّ أحد في أنّه عسير وموجع أحيانا بما يفرزه من مظاهر وسلوكات شاذّة وغريبة عن مجتمعنا ونمط عيشه وسلوكاته الاجتماعيّة وخصوصيّاته الثقافيّة والحضاريّة والدينيّة.. ليس إلا نفاسا لدولة صنعت ثورة في وقت قياسي وأزاحت عن كاهلها جبلا من الظلم والقهر والقمع والطغيان.. الكثير من مكوّنات المجتمع المدني والسياسيّ والنخب الفكريّة والأكاديميّة اليوم باتوا يقرعون طبول الفزع ويدّقون نواقيس الخطر من بعض هذه المظاهر الجديدة عليهم منذ زمن الزعيمين الراحل والمخلوع.. ورغم ما لهذه الحوادث الطوارئ على بلادنا من تأثيرات جانبيّة إلاّ أنّها لا يمكن أن تؤدي في النهاية إلاّ إلى حالة صحيّة لمجتمع متنوّع ومنتج يُنظر إليه من بعيد بنديّة واحترام. فلا شكّ أنّ بعض نسمات الحريّة التي تنفسها أبناء هذا الوطن العزيز بعد سقوط نظام الفرعون التونسي، جعلت كلّ القرائح الموجودة على الساحة تفيض وتجود بما عندها من أفكار وسلوكات ومعتقدات ممّا جعل التركيبة الوطنيّة سياسيّة كانت أو اجتماعيّة تعيش زخما من التنوّع والثراء لا شكّ أنّه نتيجة حتميّة لمجموعة من التناقضات والاختلافات.. وان كان البعض يظّن أنّ الاختلاف بين مختلف هذه المكوّنات عيب وعائق من عوائق التعايش والتواصل والانسجام وبالتالي عائق للتقدم والتطوّر والانفتاح، فهو لم يستوعب بعد دروس التاريخ وعلوم المجتمعات فأكبر الدول اليوم ليست إلاّ خليطا بين اختلافات ومكوّنات عديدة فهمت أنّ الحّل الأنسب والأنجع في ظلّ واقعها السائد إنّما هو التعايش وقبول الآخر ونبذ جميع أنواع العنف والتشاحن بين أبناء الوطن الواحد.. وهو المقياس الوحيد الذي على جميع مكوّنات المجتمع التونسي وأطيافه السياسيّة الإيمان به وتطبيقه على أرض الواقع بعيدا عن مظاهر التعطيل والفوضى والشغب المادي والمعنوي.. ومادام الاختلاف حاصلا في بلادنا وهو مصدر قوّة وليس ضعفا فعلى الكيّس الفطن الأخذ به واستعماله آلة للثراء والتطوير، لا للعنف والتفتين حتى نرى أبناء الجامعة الواحدة والروابط المشتركة الكثيرة يتطاحنون فيما بينهم وقد فرّقت بينهم أيادي العبث والفتنة من الذين لا يعتقد أحد أنّهم يعبؤون كثيرا لمصلحة الوطن.. فمن المؤكّد أنّ هناك أطرافا يُسعدها ويُفرحها أن ترى الشعب الذي غيّر الخارطة السياسيّة العالميّة ووصلت هتافاته إلى عقر دار وول سريت معقل الرأسماليّة العالميّة، أصبح يأكل بعضه بعضا. ومن المؤكّد أيضا أنّ هذه الأطراف وأكثرها خارجيّة وبالتحديد صهيونيّة لا تكتفي بدور المتفرّج السعيد بما يحصل في مشهد بلادنا الوطني، بل هي تتموقع جيّدا في أتون الأحداث وتحكم قبضتها على الرحى الذي يسعى إلى طحن كلّ الطاقات والكفاءات والإرادة الشعبيّة التي تتطلع إلى أن تكون تونس يوما بلدا متقدما متحضرا يحتضن كلّ أبنائه وضاربا في عمق تاريخه وهويّته المتجذّرة.. فمتى يعي أبناؤنا أنّ الثورة مازالت لم تصل بعد إلى برّ الأمان وأنّ كل فرد من الشعب مسؤول عنها بغضّ النظر عن التجاذبات والخلافات، وأنّ هذه المسؤوليّة لا تتناقض البتة مع الحريّة الفرديّة والجماعيّة التي يخالطها كثير من التسامح وروح المشاركة؟ ومتى نعي جيّدا أنّ الوطنيّة أيضا تتجاوز بكثير مجرّد الكلام ورفع الشعارات والخروج في المظاهرات واختزالها في بروتوكولات أو رموز وخطابات؟ متى نعي أنّ معركة الاختلاف لا يمكن أن تكون إلاّ فكريّة أسلوبها الحوار وسلاحها الحجّة والبرهان وأنّ العنف والحلول البوليسيّة والتعبويّة لا تؤدي إلا إلى نتائج عكسيّة ولا تكرّس إلاّ مزيد التخلف والخذلان..؟