منذ اللحظات الاولى التي تلت الاعلان عن جريمة تولوز البشعة, تمنى الكثيرون في قرارة أنفسهم ألا يكون الفاعل مسلما أو حاملا لهوية عربية فشبح تداعيات هجمات الحادي عشر من سبتمبر قبل أكثر من عقد من الزمن والتي دفعت ثمنها الشعوب العربية والاسلامية التي باتت تلاحقها تهمة الارهاب لا تزال عالقة في الاذهان حتى وان بدأت تتراجع في الفترة الاخيرة معلنة ربما عن مناخ جديد من العلاقات بين الشرق والغرب... والواقع أن في الادانة الدولية الواسعة وفي ردود الفعل المسجلة من مختلف العواصم لجريمة تولوز ما يؤكد التوافق الدولي الحاصل بشأن المبادئ والقيم الانسانية الكونية المشتركة والمجمعة على قدسية النفس البشرية وعلى رفض انتهاك حق الانسان في الحياة. ولعل في كشف السلطات الفرنسية أن مقترف جريمة تولوز وما سبقها كان يضع كاميرا حول رقبته لتسجيل أطوار جريمته ما يمكن أن يساعد على قراءة جانب من الشخصية الارهابية المعقدة للقاتل وتلذذه بجريمته, وربما لا يختلف اثنان في أنه قلما يحرص مجرم على تسجيل جريمته للتمتع بمشاهدتها في وقت لاحق وأنه قد لا يحدث ذلك الا في أفلام هوليود الخيالية...أما ما تم ترويجه من ادعاءات بأن الجريمة أراد لها صاحبها الإنتصار لأطفال فلسطين والانتقام من قوات الجيش الفرنسي المنتشرة في أفغانستان فلا يمكن الا أن تكون كلمة حق يراد بها باطل لأنه وبكل بساطة فان مثل هذه الجرائم لا يمكن بأي حال من الاحوال أن تقدم لأطفال فلسطين أو غيرهم من الاطفال المقموعين في العالم القليل أو الكثير أو تمنع عنهم السوء أو تحميهم من العدوان أو تعيد لهم ما فقدوه بل انها لا يمكن الا أن تؤجج مشاعر الحقد والكراهية في نفوس المحتلين الاسرائيليين والمستوطنين المتطرفين... على أن كل المواقف المسجلة الى جانب هذا الاجماع الدولي الذي قلما يتحقق يجب ألا ينسينا أن جرائم كثيرة ترتكب بدم بارد ضد الاطفال في فلسطينالمحتلة وفي سوريا وفي العراق وحتى في غيرها من الدول لم تكن لتحظى بمثل هذا الموقف الواضح والصريح عندما يتعلق الامر باستباحة دماء وأرواح المستضعفين في الارض. لا نقول هذا الكلام بحثا عن تبريرات أو شماعة لجريمة لا يمكن أن تجد لها القبول لدى عاقل مهما كان لونه أو انتماؤه الايديولوجي أو العقائدي ولكن للتأكيد على أنه عندما يحل الصمت بديلا عن الكلام والاستنكار واللامبالاة بديلا عن التنديد والتجاهل بدل الاهتمام فان الثمن غالبا ما يكون باهظا على الشعوب والمجتمعات. وبعيدا عن استباق الاحداث والانسياق وراء الاحكام المسبقة فان في جريمة الحال ما يدعو الى التوقف طويلا لإثارة بعض من نقاط استفهام كثيرة فرضتها الاحداث. صحيح أنه وحتى كتابة هذا المقال, فان الغموض كان لا يزال يخيم حول أهداف مرتكب الجريمة كما حول هويته وحول الطرف أو الاطراف التي تقف وراءه,على أن في بعض ما تم تسريبه عن قصد أو عن غيرقصد من مصادر اعلامية وأمنية فرنسية ما يعيد الى السطح قضية تلك الفئة من الشبان من أصول عربية أو اسلامية في أوروبا ممن يحملون أرواحهم على راحاتهم معتقدين بأنهم عندما يستهدفون المدنيين في العراق أو في الصومال أو في أي عاصمة غربية فانهم يؤدون واجبا مقدسا ويقومون بتطهير العالم من رجس الشيطان الاكبر الامريكي والاسرائيلي. منذ كشف جريمة تولوز راوحت الفرضيات بين بصمات القاعدة والاسلام الاصولي وبين اليمين المتطرف دون استبعاد غير ذلك من الفرضيات, وفي انتظار أن تكشف الساعات القليلة القادمة ما خفي من أسرار فان الاكيد أن مجرى الحملة الانتخابية الفرنسية سيشهد بدوره تحولا غير مستبعد وربما يجد اليمين المتطرف في جريمة تولوز سببا كافيا لتشديد حملته على المهاجرين ومفاقمة عدائه للعرب والمسلمين والعودة لتحميلهم المسؤولية في ارتفاع معدل البطالة والجريمة وتفاقم مختلف القضايا الامنية والاقتصادية والاجتماعية التي تعيش على وقعها فرنسا بل وأوروبا... وبالعودة الى جريمة تولوز فان المشتبه حسب ما أعلن عنه شاب في الرابعة والعشرين من العمر وهو فرنسي من أصول جزائرية وكان يخضع لمراقبة الاستخبارات باعتبار أنه من بين عشرات الشباب المنتمين لما يعرف بتنظيمفرسان العزة العائدين حديثا من معاقل التدريب في أفغانستان وباكستان. ولعل في هذا المعطيات ما يدعو للتساؤل متى وكيف انتقل هذا الشاب وغيره الى أفغانستان وباكستان ولماذا اندفعوا الى ذلك وتخلوا عن عائلاتهم وجامعاتهم. وهل يمكن أن يكون الفقر والبؤس الدافع الى ذلك أم أنه الاحساس بالتهميش والضياع أم أنه التعرض للظلم والاهانة والعنصرية وغياب الآمال في الكرامة والحق في الانسانية أم انها كل هذه العناصر مشتركة التي تدفع بشباب في أجمل مراحل الحياة الى السقوط في فخ الانتقام بدافع أومن غير دافع؟