- لئن استأثر موضوع الشريعة بالحيز الأكبر من الجدل القائم بين أنصار هذا الرأي و المعارضين له ،فإن موضوع اللغة العربية بوصفها لغة البلاد الرسمية دون سواها لم يحظ بالاهتمام اللازم، وكأن لغتنا لم تعرف الوهن والضعف والتهميش طيلة العقود الستة الماضية. اللغة العربية زمن الاستعمار الفرنسي لعله من الضروري التذكير أن اللغة الفرنسية قد سبقت حلول الاستعمار بتونس ،إذ تم إدراج تعلم اللغة الفرنسية ضمن برنامج المدرسة الصادقية التي أسسها خير الدين باشا سنة 1876 بمباركة من بعض رموز الزيتونيين الداعين إلى الانفتاح على الغرب و ثقافته. جلب خيرالدين ألمع الأساتذة الفرنسيين لتعليم جيل كامل من التونسيين سيصبح في فترة ما بعد الاستقلال من أبرز المتمسكين باللغة الفرنسية باعتبارها «غنيمة حرب» لا يجب التفريط فيها لاقترانها بالحداثة و اكتساب العلوم ،في حين تقترن اللغة العربية بالتخلف و الرجعية و التزمت حسب اعتقادهم. دخل الاحتلال البلاد التونسية فوجد الأجواء مهيئة لاستكمال ما بدأته الحركات التبشيرية المسيحية التي سرعان ما أحدثت «إدارة التعليم العمومي سنة 1883» للإشراف بالدرجة الأولى على مختلف المدارس الفرنسية التي كان يؤمها أبناء المستعمرين و أبناء بعض الأعيان من سكان الحواضر الكبرى ،في حين واصل نظام التعليم التقليدي استيعاب أبناء بقية الشعب عبر التدرج من الكتاتيب و الزوايا التي تعتني بتحفيظ القرآن بطرق بدائية تفتقر إلى أدنى المقومات البيداغوجية الحديثة ،لتنتهي بالقليل منهم إلى نيل شهادة الأهلية التي يتحول بموجبها الطالب إلى جامع الزيتونة حيث يزداد تقلص عدد المحرزين على شهادة التحصيل الزيتونية. كانت قوى الاستعمار و خاصة مستغلي الأراضي الفلاحية ،المدعومين من حركات التبشير المسيحية تدفع إلى عدم اهتمام أبناء التونسيين بمواصلة تعليمهم لتوفير يد عاملة تُستغل في خدمة الأراضي و رعي الماشية. لم ينج العدد القليل من التونسيين الملتحق بجامع الزيتونة لمواصلة تعليمه من إغراقه في اتباع برامج محنطة موغلة في تفاصيل أصول الفقه وعلوم الكلام و النحو و البلاغة على حساب العلوم و الثقافة و الفنون ،كما أفرز نمط التعليم الزيتوني نوعين من الأمية ،أمية تامة ناهزت نسبتها 90 بالمائة غداة الاستقلال ،و أمية جزئية من أنصاف المتعلمين المنقطعين عن الدراسة في الطور الإعدادي من التعليم الزيتوني أو التعليم المزدوج. بالتوازي مع هذين النمطين من التعليم ،الفرنسي الصرف و التقليدي الصرف برز نوع ثالث من التعليم المزدوج استقطب خليطا من أبناء المستعمرين و أبناء التونسيين ،فقد كان التونسيون يدرسون جنبا إلى جنب مع الفرنسيين مع تخصيص بعض المساحات من الوقت للتونسيين لتعلم اللغة العربية و شيئا من التربية الدينية مع الإصرار على تلقي العلوم و بقية المعارف الأخرى باللغة الفرنسية ،وهو ما زاد في حالة الانفصام التي كان يعاني منها الطالب التونسي الذي يجد نفسه مضطرا للسفر إلى فرنسا قصد مواصلة تعليمه العالي هناك لتضمن قوى الاستعمار ولاءه بصفة نهائية للغة موليار على حساب لغة ،في حين يتجه عدد قليل جدا من الحائزين على شهادة التّحصيل الزيتونية بجزأيها الأول والثاني إلى الجامعات العربية بالمشرق العربي. أحدث هذا النمط من التعليم أول بوادر تمزيق للوحدة الوطنية و انقسام التونسيين بين محافظين و حداثيين ،( نراها حاضرة اليوم بقوة في معركة صياغة الدستور و كذلك في التنظيمات الحزبية و الجمعياتية) و هي أهداف استعمارية معلنة لضرب اللغة العربية بوصفها المقوم الأساسي للهوية ،إذ اقترنت اللغة الفرنسية بالحداثة و التقدم في حين تحيل اللغة العربية مباشرة على التخلف و الانحطاط في مخيال و أذهان شق من التونسيين. اللغة العربية بعد الاستقلال لم يمنح الزعيم بورقيبة التونسيين الكثير من الوقت للملمة جراحهم وتحسس طريقهم بعد نيل الاستقلال ،فبعد أن حُسم الصراع مع الزعيم صالح بن يوسف لصالحه اتجه مباشرة إلى إرساء نظام الدولة الحديثة وفق تصوره وقناعاته الاديولوجية المنبهرة بالثقافة الفرنسية، و كذلك من منطلق مناهضته للمشرق العربي ،محاولا النأي بتونس عن محيطها العربي الإسلامي و اعتبارها نقطة التقاء للعديد من الحضارات ،داعيا إلى استبدال الهوية العربية الإسلامية بمفهوم مستحدث أطلق عليه الهوية التونسية... أعلام و شخصيات تاريخية من أمثال حنبعل الفنيقي ويوغرطة و ماسينيسا البربريين كثيرا ما استشهد بهم الزعيم بورقيبة و اتخذهم أسوة و مثالا ،في مقابل شخصيات عربية اسلامية من أمثال عقبة بن نافع و أسد بن الفرات وعبد الرحمان بن خلدون الغائبين أو الحاضرين باحتشام في خطبه و توجيهاته التي نشأ عليها جيل كامل. مما يحسب للزعيم بورقيبة تمكنه في ظرف وجيز نسبيا من إرساء أسس دولة عصرية تعتمد على مؤسسات وطنية و إدارة قوية (جنبت وقفة الإدارة الحازمة البلاد التونسية بعد الثورة الانزلاق في الفوضى...) تمثلت أهم انجازات بورقيبة في إلغاء النظام الملكي وإعلان الجمهورية، وتوحيد القضاء وإصدار مجلة الأحوال الشخصية والاعتناء بالصحة... لكن يبقى صدور قانون 4 نوفمبر 1958 القاضي بتوحيد التعليم و مجانيته وفتحه أمام الذكور والإناث أهم انجازات الزعيم بورقيبة على الإطلاق، فقد رصدت الدولة الناشئة ميزانيات هامة خلال سنوات الاستقلال الأولى قصد نشر التعليم، فقد فتحت المدارس بالمدن والقرى والأرياف ودُفع الأولياء إلى تعليم أبنائهم بقوة القانون. سوف لن أدخل في تفاصيل إصلاحات الزعيم بورقيبة التعليمية والحكم لها أو عليها لأن ذلك يبقى اجتهادا صرفا قد يجد له البعض مبررات تتعلق خاصة بضعف الإطار التربوي المحلي على مستوى الموارد البشرية والمناهج التعليمية غداة الاستقلال، مما دعاه إلى الاستنجاد بمتعاقدين أجانب من فرنسا وسويسرا وبلجيكيا وبعض بلدان أوروبا الشرقية. كان من نتائج هذا النهج الذي سار فيه الزعيم بورقيبة - عن قصد أو من باب الضرورات تبيح المحظورات - تأثيره الواضح في انكماش اللغة العربية و الاستنكاف من استعمالها من قبل أغلب النخب التونسية الناشئة في دولة الاستقلال، ولعل الفصل الأول من الدستور هو الخيط الوحيد الذي ظل على امتداد عقود يربط تونس بمحيطها العربي الإسلامي ،فهو الذي حافظ على هوية البلاد ووقف قدر المستطاع أمام ذلك المد التغريبي الرهيب. كما لا يفوتني في هذا الباب التنويه بالمجهود الجبار المبذول من قبل المنظومة القضائية بكل مكوناتها من محامين و قضاة وعدول تنفيذ وعدول إشهاد وموظفي وزارتي العدل والداخلية في الحفاظ على لغة الضاد، فلا غرابة أن نرى اليوم فرسان البلاغة والبيان من محامين وقضاة وغيرهم يتداولون على المنابر الإعلامية ويقودون الأحزاب السياسية المؤثرة و المنظمات المدنية الكبرى ،في حين لا يحسن الكثير من غيرهم تكوين جملة واحدة باللغة العربية دون لحن أو خطأ بين. في النهاية يجدر التذكير بضرورة أن تستعيد اللغة العربية مكانتها بعد الثورة في نحت هويتنا بدءا بإعادة إدراج الفصل الأول من الدستور القديم بالدستور الجديد (الذي أراه كافيا لحسم الجدل القائم تحت سقف المجلس الوطني التأسيسي) وانتهاءً بممارسة فعلية على أرض الواقع، تشمل جميع المجالات التعليمية و الثقافية و الابداعية، وتجعل من اللغة العربية لغة البحوث والدراسات العلمية في اختصاصات الطب ،و الهندسة، والفيزياء، والرياضيات وفق خطة علمية تعتمد الدقة و التدرج حتى لا تبقى اللغة العربية غريبة في موطنها. ٪ خبير محاسب- جامعي